التفاسير

< >
عرض

قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
١٦١
قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
١٦٢
لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ
١٦٣
-الأنعام

فتح القدير

.

لما بيّن سبحانه أن الكفار تفرقوا فرقاً، وتحزبوا أحزاباً، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم: { إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى } أي أرشدني بما أوحاه إليّ { إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وهو ملة إبراهيم عليه السلام، و{ دِينًا } منتصب على الحال كما قال قطرب، أو على أنه مفعول { هداني } كما قال الأخفش. وقيل منتصب بفعل يدل عليه { هداني }؛ لأن معناه عرّفني، أي عرفني ديناً. وقيل: إنه بدل من محل { إلى صراط }، لأن معناه هداني صراطاً مستقيماً كقوله تعالى: { وَيَهْدِيَكُمْ صِرٰطاً مُّسْتَقِيماً } [الفتح: 2] وقيل منصوب بإضمار فعل، كأنه قيل: اتبعوا ديناً.

قوله { قَيِّماً } قرأه الكوفيون، وابن عامر بكسر القاف، والتخفيف وفتح الياء. وقرأه الباقون بفتح القاف وكسر الياء المشدّدة، وهما لغتان: ومعناه الدين المستقيم الذي لا عوج فيه، وهو صفة لـ { ديناً }، وصف به مع كونه مصدراً مبالغة، وانتصاب { مِلَّةِ إِبْرٰهِيمَ } على أنها عطف بيان لـ{ دينا }، ويجوز نصبها بتقدير أعني، و{ حَنِيفاً } منتصب على أنه حال من إبراهيم، قاله الزجاج. وقال علي بن سليمان: هو منصوب بإضمار أعني. والحنيف المائل إلى الحق، وقد تقدّم تحقيقه { وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } في محل نصب معطوف على { حنيفاً }، أو جملة معترضة مقررة لما قبلها.

قوله: { قُلْ إِنَّ صَلاَتِى } أمره الله سبحانه أن يقول لهم بهذه المقالة، عقب أمره بأن يقول لهم بالمقالة السابقة. قيل: ووجه ذلك أن ما تضمنه القول الأوّل إشارة إلى أصول الدين، وهذا إلى فروعها. والمراد بالصلاة: جنسها، فيدخل فيه جميع أنواعها. وقيل المراد بها هنا: صلاة الليل، وقيل صلاة العيد. والنسك: جمع نسيكة، وهي الذبيحة كذا قال مجاهد والضحاك، وسعيد بن جبير، وغيرهم، أي ذبيحتي في الحج والعمرة. وقال الحسن: ديني. وقال الزجاج: عبادتي من قولهم: نسك فلان هو ناسك، إذا تعبد، وبه قال جماعة من أهل العلم { وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى } أي ما أعمله في حياتي، ومماتي من أعمال الخير، ومن أعمال الخير في الممات الوصية بالصدقات، وأنواع القربات. وقيل: نفس الحياة ونفس الموت { لِلَّهِ } قرأ الحسن "نُسْكي" بسكون السين. وقرأ الباقون بضمها. وقرأ أهل المدينة "محياي" بسكون الياء. وقرأ الباقون بفتحها لئلا يجتمع ساكنان قال النحاس: لم يجزه، أي السكون، أحد من النحويين إلا يونس، وإنما أجازه لأن المدّة التي في الألف تقوم مقام الحركة. وقرأ ابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمرو، عاصم الجحدري، "محيي"، من غير ألف وهي لغة عليا مضر، ومنه قول الشاعر:

سبقوا هويّ وأعنقوا لهواهم فتخرموا ولكل جنب مصرع

{ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } أي خالصاً له لا شريك له فيه، والإشارة { بِذٰلِكَ } إلى ما أفاده { للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ } من الإخلاص في الطاعة وجعلها لله وحده. قوله: { وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ } أي أوّل مسلمي أمته. وقيل: أوّل المسلمين أجمعين، لأنه وإن كان متأخراً في الرسالة، فهو أولهم في الخلق، ومنه قوله تعالى: { { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ ٱلنَّبِيّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ } [الأحزاب: 7] الآية، والأوّل: أولى.

قال ابن جرير الطبري: استدل بهذه الآية الشافعي على مشروعية افتتاح الصلاة بهذا الذكر، فإن الله أمر به نبيه وأنزله في كتابه، ثم ذكر حديثاً على، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام إلى الصلاة قال: { { وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين } [الأنعام:79] إلى قوله { وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ } قلت هذا هو في صحيح مسلم مطوّلاً، وهو أحد التوجهات الواردة، ولكنه مفيد بصلاة الليل كما في الروايات الصحيحة، وأصح التوجهات الذي كان يلازمه النبي صلى الله عليه وسلم ويرشد إليه هو "اللهم باعد بيني وبين خطاياي" إلى آخره، وقد أوضحنا هذا في شرحنا للمنتقى بما لا يحتاج إلى زيادة عليه هنا.

وقد أخرج ابن أبي حاتم، عن مقاتل، في قوله: { وإِنَّ صَلاَتِى } قال: يعني: المفروضة { وَنُسُكِى } يعني: الحج. وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ، عن سعيد بن جبير { وَنُسُكِى } قال: ذبيحتي. وأخرجا أيضاً عن قتادة { إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى } قال: حجي وذبيحتي. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: { وَنُسُكِى } قال: ذبيحتي في الحج والعمرة. وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن قتادة، في قوله: { وَنُسُكِى } قال: ضحيتي. وفي قوله: { وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ } قال: من هذه الأمة. وأخرج الحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي، عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا فاطمة قومي فاشهدي أضحيتك، فإنه يغفر لك بأوّل قطرة تقطر من دمها كل ذنب عملتيه، وقولي { إن صلاتي } إلى { وأنا أوّل المسلمين }" ، قلت يا رسول الله هذا لك ولأهل بيتك خاصة، فأهل ذلك أنتم أم للمسلمين عامة؟ قال: "لا بل للمسلمين عامة" .