التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
١٠
تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
١١
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١٢
وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُونُوۤاْ أَنصَارَ ٱللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنَّصَارِيۤ إِلَى ٱللَّهِ قَالَ ٱلْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ ٱللَّهِ فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ فَأَيَّدْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ
١٤
-الصف

فتح القدير

قوله: { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَـٰرَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } جعل العمل المذكور بمنزلة التجارة؛ لأنهم يربحون فيه، كما يربحون فيها، وذلك بدخولهم الجنة، ونجاتهم من النار. قرأ الجمهور { تنجيكم } بالتخفيف من الإنجاء. وقرأ الحسن، وابن عامر، وأبو حيوة بالتشديد من التنجية. ثم بيّن سبحانه هذه التجارة التي دلّ عليها فقال: { تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَـٰهِدُونَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوٰلِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ } وهو خبر في معنى الأمر للإيذان بوجوب الامتثال، فكأنه قد وقع، فأخبر بوقوعه، وقدّم ذكر الأموال على الأنفس؛ لأنها هي التي يبدأ بها في الإنفاق والتجهز إلى الجهاد. قرأ الجمهور: { تؤمنون } وقرأ ابن مسعود: (آمنوا، وجاهدوا) على الأمر. قال الأخفش: { تؤمنون } عطف بيان لـ { تجارة }، والأولى أن تكون الجملة مستأنفة مبينة لما قبلها، والإشارة بقوله: { ذٰلِكُمْ } إلى ما ذكر من الإيمان والجهاد، وهو مبتدأ، وخبره: { خَيْرٌ لَّكُمْ } أي: هذا الفعل خير لكم من أموالكم وأنفسكم { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي: إن كنتم ممن يعلم، فإنكم تعلمون أنه خير لكم، لا إذا كنتم من أهل الجهل، فإنكم لا تعلمون ذلك. { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } هذا جواب الأمر المدلول عليه بلفظ الخبر، ولهذا جزم. قال الزجاج، والمبرد: قوله: { تُؤْمِنُونَ } في معنى آمنوا، ولذلك جاء { يغفر لكم } مجزوماً. وقال الفرّاء: { يغفر لكم } جواب الاستفهام، فجعله مجزوماً لكونه جواب الاستفهام، وقد غلطه بعض أهل العلم. قال الزجاج: ليسوا إذا دلّهم على ما ينفعهم يغفر لهم إنما يغفر لهم إذا آمنوا وجاهدوا. وقال الرازي في توجيه قول الفراء: إن { هَلْ أَدُلُّكُمْ } في معنى الأمر عنده، يقال: هل أنت ساكت، أي: اسكت، وبيانه أن "هل" بمعنى الاستفهام، ثم يتدرّج إلى أن يصير عرضاً وحثاً، والحثّ كالإغراء، والإغراء أمر. وقرأ زيد بن عليّ: (تؤمنوا، وتجاهدوا) على إضمار لام الأمر. وقيل: إن { يغفر لكم } مجزوم بشرط مقدّر، أي: إن تؤمنوا يغفر لكم، وقرأ بعضهم بالإدغام في يغفر لكم، والأولى ترك الإدغام؛ لأن الراء حرف متكرّر، فلا يحسن إدغامه في اللام { وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّـٰتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلأنْهَـٰرُ } قد تقدّم بيان كيفية جري الأنهار من تحت الجنات { وَمَسَـٰكِنَ طَيّبَةً فِى جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي: في جنات إقامة { ذٰلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ } أي: ذلك المذكور من المغفرة، وإدخال الجنات الموصوفة بما ذكر هو الفوز الذي لا فوز بعده، والظفر الذي لا ظفر يماثله. { وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا } قال الأخفش، والفرّاء: { أخرى } معطوفة على { تجارة } فهي في محل خفض، أي: وهل أدلكم على خصلة أخرى تحبونها في العاجل مع ثواب الآخرة، وقيل: هي في محل رفع، أي: ولكم خصلة أخرى، وقيل: في محل نصب، أي: ويعطيكم خصلة أخرى. ثم بيّن سبحانه هذه الأخرى فقال: { نَصْرٌ مّن ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } أي: هي نصر من الله لكم، وفتح قريب يفتحه عليكم، وقيل: { نصر } بدل من { أخرى } على تقدير كونها في محلّ رفع، وقيل: التقدير ولكم نصر وفتح قريب. قال الكلبي: يعني النصر على قريش وفتح مكة. وقال عطاء: يريد فتح فارس والروم { وَبَشّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } معطوف على محذوف، أي: قل يا أيها الذين آمنوا، وبشر، أو على { تؤمنون }؛ لأنه في معنى الأمر، والمعنى: وبشّر يا محمد المؤمنين بالنصر والفتح، أو، وبشّرهم بالنصر في الدنيا والفتح، وبالجنة في الآخرة، أو وبشّرهم بالجنة في الآخرة. ثم حضّ سبحانه المؤمنين على نصرة دينه فقال: { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ أَنصَـٰرَ ٱللَّهِ } أي: دوموا على ما أنتم عليه من نصرة الدين. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ونافع: (أنصاراً لله) بالتنوين، وترك الإضافة. وقرأ الباقون بالإضافة، والرسم يحتمل القراءتين معاً، واختار أبو عبيدة قراءة الإضافة لقوله: { نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ } بالإضافة { كَمَا قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أَنَّصَـٰرِى إِلَى ٱللَّهِ } أي: انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى: { مَنْ أَنصَارِى إِلَى ٱللَّهِ } فقالوا: { نَحْنُ أَنْصَارُ ٱللَّهِ } والكاف في { كَمَا قَالَ } نعت مصدر محذوف تقديره: كونوا كوناً، كما قال، وقيل: الكاف في محل نصب على إضمار الفعل، وقيل: هو كلام محمول على معناه دون لفظه، والمعنى: كونوا أنصار الله، كما كان الحواريون أنصار عيسى حين قال لهم من أنصاري إلى الله، وقوله: { إِلَى ٱللَّهِ } قيل: إلى بمعنى: مع، أي: من أنصاري مع الله، وقيل: التقدير: من أنصاري فيما يقرّب إلى الله، وقيل التقدير: من أنصاري متوجهاً إلى نصرة الله، وقد تقدّم الكلام على هذا في سورة آل عمران. والحواريون هم أنصار المسيح وخلص أصحابه، وأوّل من آمن به، وقد تقدّم بيانهم { فآمنت طائفة من بني اسرائيل وكفرت طائفة } أي: آمنت طائفة بعيسى وكفرت به طائفة، وذلك لأنهم لما اختلفوا بعد رفعه تفرّقوا وتقاتلوا { فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم } أي: قوينا المحقين منهم على المبطلين { فَأَصْبَحُواْ ظَـٰهِرِينَ } أي: عالين غالبين، وقيل المعنى: فأيدنا الآن المسلمين على الفرقتين جميعاً.

وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قالوا: لو كنا نعلم أيّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ فنزلت { ٱلْمُشْرِكُونَ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَـٰرَةٍ تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } فكرهوا، فنزلت: { ٱلْحَكِيمُ يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } إلى قوله: { { بُنْيَـٰنٌ مَّرْصُوصٌ } . وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة في قوله: { يأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ أَنصَـٰرَ ٱللَّهِ } قال: قد كان ذلك بحمد الله جاءه سبعون رجلاً، فبايعوه عند العقبة وآووه ونصروه حتى أظهر الله دينه. وأخرج ابن إسحاق، وابن سعد عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنفر الذين لقوه بالعقبة: "أخرجوا إليّ اثني عشر منكم يكونون كفلاء على قومهم، كما كفلت الحواريون لعيسى ابن مريم" . وأخرج ابن سعد عن محمود بن لبيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقباء: "إنكم كفلاء على قومكم ككفالة الحواريين لعيسى ابن مريم، وأنا كفيل قومي" ، قالوا: نعم. وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس { فأيدنا الذين ءامنوا } قال: فقوينا الذين آمنوا. وأخرج ابن أبي حاتم عنه، فأيدنا الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمته على عدوّهم، فأصبحوا اليوم ظاهرين.