التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
١٢
وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
١٣
أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ
١٤
هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً فَٱمْشُواْ فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ
١٥
ءَأَمِنتُمْ مَّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ
١٦
أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي ٱلسَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ
١٧
وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ
١٨
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَـٰفَّـٰتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ
١٩
أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنِ ٱلْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ
٢٠
أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّواْ فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ
٢١
-الملك

فتح القدير

قوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ } لما فرغ سبحانه من ذكر أحوال أهل النار ذكر أهل الجنة، وبالغيب حال من الفاعل أو المفعول، أي: غائبين عنه، أو غائباً عنهم، والمعنى: أنهم يخشون عذابه، ولم يروه، فيؤمنون به خوفاً من عذابه، ويجوز أن يكون المعنى: يخشون ربهم حال كونهم غائبين عن أعين الناس، وذلك في خلواتهم، أو المراد بالغيب كون العذاب غائباً عنهم لأنهم في الدنيا، وهو إنما يكون يوم القيامة، فتكون الباء على هذا سببية { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } عظيمة يغفر الله بها ذنوبهم { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } وهو الجنة، ومثل هذه الآية قوله: { مَّنْ خَشِىَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } [ق: 33]. ثم عاد سبحانه إلى خطاب الكفار فقال: { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ } هذه الجملة مستأنفة مسوقة لبيان تساوي الإسرار والجهر بالنسبة إلى علم الله سبحانه، والمعنى: إن أخفيتم كلامكم أو جهرتم به في أمر رسول الله، فكلّ ذلك يعلمه الله لا تخفى عليه منه خافية، وجملة { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } تعليل للاستواء المذكور، وذات الصدور هي مضمرات القلوب. والاستفهام في قوله: { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } للإنكار، والمعنى: ألا يعلم السرّ، ومضمرات القلوب من خلق ذلك وأوجده، فالموصول عبارة عن الخالق، ويجوز أن يكون عبارة عن المخلوق، وفي يعلم ضمير يعود إلى الله، أي: ألا يعلم الله المخلوق الذي هو من جملة خلقه، فإن الإسرار والجهر ومضمرات القلوب من جملة خلقه، وجملة: { وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } في محل نصب على الحال من فاعل يعلم، أي: الذي لطف علمه بما في القلوب، الخبير بما تسرّه وتضمره من الأمور، لا تخفى عليه من ذلك خافية.

ثم امتنّ سبحانه على عباده، فقال: { هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ ذَلُولاً } أي: سهلة لينة تستقرّون عليها، ولم يجعلها خشنة بحيث يمتنع عليكم السكون فيها والمشي عليها، والذلول في الأصل هو المنقاد الذي يذلّ لك، ولا يستصعب عليك، والمصدر الذلّ، والفاء في قوله: { فَٱمْشُواْ فِى مَنَاكِبِهَا } لترتيب الأمر بالمشي على الجعل المذكور، والأمر للإباحة. قال مجاهد، والكلبي، ومقاتل: مناكبها طرقها وأطرافها وجوانبها. وقال قتادة، وشهر بن حوشب: مناكبها جبالها، وأصل المنكب الجانب، ومنه منكب الرجل، ومنه الريح النكباء لأنها تأتي من جانب دون جانب { وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ } أي: مما رزقكم وخلقه لكم في الأرض { وَإِلَيْهِ ٱلنُّشُورُ } أي: وإليه البعث من قبوركم لا إلى غيره، وفي هذا وعيد شديد.

ثم خوّف سبحانه الكفار فقال: { ءامَنْتُمْ مَّن فِى ٱلسَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ } قال الواحدي: قال المفسرون: يعني: عقوبة من في السماء، وقيل: من في السماء قدرته، وسلطانه، وعرشه، وملائكته، وقيل: من في السماء من الملائكة، وقيل: المراد جبريل، ومعنى { أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلاْرْضَ } يقلعها ملتبسة بكم، كما فعل بقارون بعد ما جعلها لكم ذلولاً تمشون في مناكبها، وقوله: { أَن يَخْسِفَ } بدل اشتمال من الموصول أي: ءأمنتم خسفه، أو على حذف من أي: من أن يخسف { فَإِذَا هِىَ تَمُورُ } أي: تضطرب، وتتحرك على خلاف ما كانت عليه من السكون. قرأ الجمهور. { ءأمنتم } بهمزتين. وقرأ البصريون، والكوفيون بالتخفيف. وقرأ ابن كثير بقلب الأولى واواً. ثم كرّر سبحانه التهديد لهم بوجه آخر، فقال: { أَمْ أَمِنتُمْ مّن فِى ٱلسَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَـٰصِباً } أي: حجارة من السماء، كما أرسلها على قوم لوط وأصحاب الفيل، وقيل: سحاب فيها حجارة، وقيل: ريح فيها حجارة { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } أي: إنذاري إذا عاينتم العذاب، ولا ينفعكم هذا العلم، وقيل: النذير هنا محمد، قاله عطاء، والضحاك. والمعنى: ستعلمون رسولي وصدقه، والأوّل أولى. والكلام في: { أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَـٰصِباً } كالكلام في: { أَن يَخْسِفَ بِكُمُ ٱلأَرْضَ } فهو: إما بدل اشتمال، أو بتقدير من { وَلَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } أي: الذين قبل كفار مكة من كفار الأمم الماضية. كقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وأصحاب الأيكة، وأصحاب الرس، وقوم فرعون { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي: فكيف كان إنكاري عليهم بما أصبتهم به من العذاب الفظيع.

{ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَــٰفَّـٰتٍ } الهمزة للاستفهام، والواو للعطف على مقدّر، أي: أغفلوا ولم ينظروا، ومعنى: { صَافَّـٰتٍ } أنها صافة لأجنحتها في الهواء، وتبسيطها عند طيرانها { وَيَقْبِضْنَ } أي: يضممن أجنحتهنّ. قال النحاس: يقال للطائر إذا بسط جناحه: صافّ، وإذا ضمها: قابض كأنه يقبضها، وهذا معنى الطيران، وهو بسط الجناح، وقبضه بعد البسط، ومنه قول أبي خراش:

يبادر جنح الليل فهو مزايل تحت الجناح بالتبسط والقبض

وإنما قال: { وَيَقْبِضْنَ } ولم يقل "قابضات"، كما قال صافات؛ لأن القبض يتجدد تارة فتارة، وأما البسط فهو الأصل، كذا قيل. وقيل: إن معنى { وَيَقْبِضْنَ }: قبضهنّ لأجنحتهنّ عند الوقوف من الطيران، لا قبضها في حال الطيران، وجملة { مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ ٱلرَّحْمَـٰنُ } في محل نصب على الحال من فاعل يقبضن، أو مستأنفة؛ لبيان كمال قدرة الله سبحانه. والمعنى: أنه ما يمسكهنّ في الهواء عند الطيران إلاّ الرحمٰن القادر على كلّ شيء { إِنَّهُ بِكُلّ شَىْء بَصِيرٌ } لا يخفى عليه شيء كائناً ما كان.

{ أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ } الاستفهام للتقريع والتوبيخ. والمعنى: أنه لا جند لكم يمنعكم من عذاب الله، والجند الحزب والمنعة. قرأ الجمهور: { أمّن } هذا بتشديد الميم على إدغام ميم أم في ميم من، وأم بمعنى بل، ولا سبيل إلى تقدير الهمزة بعدها، كما هو الغالب في تقدير أم المنقطعة ببل والهمزة؛ لأن بعدها هنا "من" الاستفهامية، فأغنت عن ذلك التقدير، ومن الاستفهامية مبتدأ، واسم الإشارة خبره، والموصول مع صلته صفة اسم الإشارة، وينصركم صفة لجند، ومن دون الرحمٰن في محل نصب على الحال من فاعل ينصركم، والمعنى: بل من هذا الحقير الذي هو في زعمكم جند لكم متجاوزاً نصر الرحمٰن. وقرأ طلحة بن مصرف بتخفيف الأولى وتثقيل الثانية، وجملة: { إِنِ ٱلْكَـٰفِرُونَ إِلاَّ فِى غُرُورٍ } معترضة مقرّرة لما قبلها ناعية عليهم ما هم فيه من الضلال، والمعنى: ما الكافرون إلاّ في غرور عظيم من جهة الشيطان يغرّهم به.

{ أَمَّنْ هَـٰذَا ٱلَّذِى يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } الكلام في هذا كالكلام في الذي قبله قراءة وإعراباً، أي: من الذي يدرّ عليكم الأرزاق من المطر وغيره، إن أمسك الله ذلك عنكم ومنعه عليكم { بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ } أي: لم يتأثروا لذلك بل تمادوا في عناد واستكبار عن الحقّ ونفور عنه، ولم يعتبروا ولا تفكروا، وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي: إن أمسك رزقه فمن يرزقكم غيره، والعتوّ العناد، والطغيان، والنفور الشرود.

وقد أخرج ابن مردويه عن ابن عباس { إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ } قال: أبو بكر، وعمر، وعليّ، وأبو عبيدة بن الجراح. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عنه في قوله: { فِى مَنَاكِبِهَا } قال: جبالها. وأخرج ابن جرير عنه أيضاً قال: أطرافها. وأخرج الطبراني، وابن عديّ، والبيهقي في الشعب، والحكيم الترمذي عن ابن عمر قال: قال رسول الله: "إن الله يحبّ العبد المؤمن المحترف" وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { بَل لَّجُّواْ فِى عُتُوّ وَنُفُورٍ } قال: في ضلال.