التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٦٧
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي ٱلأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ ٱلصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ
١٦٨
فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَٰقُ ٱلْكِتَٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ
١٦٩
وَٱلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِٱلْكِتَابِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ
١٧٠
-الأعراف

فتح القدير

.

قوله: { وَإِذ تَأَذَّنَ رَبُّكَ } معطوف على ما قبله، أي واسألهم وقت تأذن ربك، وتأذن تفعل من الأيذان، وهو الإعلام. قال أبو علي الفارسي: آذن بالمد أعلم، وأذّن بالتشديد نادى. وقال قوم: كلاهما بمعنى أعلم، كما يقال أيقن وتيقن، والمعنى في الآية: واسألهم وقت أن وقع الإعلام لهم من ربك { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } قيل: وفي هذا الفعل معنى القسم كعلم الله، وشهد الله، ولذلك أجيب بما يجاب به القسم، حيث قال: { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } أي: ليرسلنّ عليهم، ويسلطن، كقوله: { { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ } [الإسراء: 5] { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } غاية لسومهم سوء العذاب ممن يبعثه الله عليهم، وقد كانوا أقمأهم الله هكذا أذلاء مستضعفين معذبين بأيدي أهل الملل، وهكذا هم في هذه الملة الإسلامية، في كل قطر من أقطار الأرض، في الذلة المضروبة عليهم والعذاب والصغار، يسلمون الجزية بحقن دمائهم، ويمتهنهم المسلمون فيما فيه ذلة من الأعمال التي يتنزه عنها غيرهم من طوائف الكفار. ومعنى { يَسُومُهُمْ }: يذيقهم. وقد تقدّم بيان أصل معناه، ثم علل ذلك بقوله: { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ ٱلْعِقَابِ } يعاجل به في الدنيا كما وقع لهؤلاء { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي: كثير الغفران والرحمة.

{ وَقَطَّعْنَـٰهُمْ فِي ٱلأرْضِ } أي: فرّقناهم في جوانبها، أو شتتنا أمرهم، فلم تجتمع لهم كلمة، و { أُمَمًا } منتصب على الحال، أو مفعول ثان لقطعنا، على تضمينه معنى صيرنا، وجملة { مّنْهُمُ ٱلصَّـٰلِحُونَ } بدل من { أمماً }، قيل: هم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن مات قبل البعثة المحمدية غير مبدّل. وقيل: هم الذين سكنوا وراء الصين كما تقدّم بيانه قبل هذا { وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ } أي: دون هذا الوصف الذي اتصفت به الطائفة الأولى وهو الصلاح، ومحل { دُونِ ذَلِكَ } الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقدير: ومنهم أناس دون ذلك، والمراد بهؤلاء هم من لم يؤمن، بل انهمك في المخالفة لما أمره الله به. قال النحاس { دُونِ } منصوب على الظرف، ولا نعلم أحداً رفعه { وَبَلَوْنَـٰهُمْ بِٱلْحَسَنَـٰتِ وَٱلسَّيّئَاتِ } أي: امتحناهم بالخير والشرّ رجاء أن يرجعوا مما هم من الكفر والمعاصي.

{ فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } المراد بهم: أولاد الذين قطعهم الله في الأرض. قال أبو حاتم: الخلف بسكون اللام: الأولاد، الواحد والجمع سواء. والخلف بفتح اللام البدل ولداً كان أو غيره. وقال ابن الأعرابي: الخلف بالفتح الصالح، وبالسكون الطالح. قال لبيد:

ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب

ومنه قيل للرديء من الكلام خلف بالسكون، وقد يستعمل كل واحد منهما موضع الآخر، ومنه قول حسان ابن ثابت:

لنا القدم الأولى إليك وخلفنا لأوّلنا في طاعة الله تابع

{ وَرِثُواْ ٱلْكِتَـٰبَ } أي: التوراة من أسلافهم يقرءونها ولا يعملون بها { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأَدْنَىٰ } أخبر الله عنهم بأنهم يأخذون ما يعرض لهم من متاع الدنيا لشدّة حرصهم وقوّة نهمتهم، والأدنى: مأخوذ من الدنوّ، وهو القرب، أي يأخذون عرض هذا الشيء الأدنى، وهو الدنيا يتعجلون مصالحها بالرشاء، وما هو مجعول لهم من السحت في مقابلة تحريفهم لكلمات الله، وتهوينهم للعمل بأحكام التوراة، وكتمهم لما يكتمونه منها. وقيل: إن الأدنى مأخوذ من الدناءة والسقوط، أي إنهم يأخذون عرض الشيء الدنيء الساقط.

{ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } أي: يعللون أنفسهم بالمغفرة، مع تماديهم في الضلالة، وعدم رجوعهم إلى الحق. وجملة { يَأْخُذُونَ } يحتمل أن تكون مستأنفة لبيان حالهم، أو في محل نصب على الحال. وجملة { يَقُولُونَ } معطوفة عليها، والمراد بهذا الكلام: التقريع والتوبيخ لهم، وجملة { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } في محل نصب على الحال، أي يتعللون بالمغفرة، والحال أنهم إذا أتاهم عرض مثل العرض الذي كانوا يأخذونه أخذوه غير مبالين بالعقوبة، ولا خائفين من التبعة. وقيل: الضمير في { يَأْتِهِمْ } ليهود المدينة، أي وإن يأت هؤلاء اليهود الذين هم في عصر محمد صلى الله عليه وسلم عرض مثل العرض الذي كان يأخذه أسلافهم، أخذوه كما أخذه أسلافهم.

{ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ ٱلْكِتَـٰبِ } أي: التوراة { أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ الْحَقّ } والاستفهام للتقريع والتوبيخ، وجملة { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } معطوفة على { يُؤْخَذْ } على المعنى، وقيل: على { وَرِثُواْ ٱلْكِتَـٰبَ }، والأولى: أن تكون في محل نصب على الحال بتقدير قد. والمعنى: أنهم تركوا العمل بالميثاق المأخوذ عليهم في الكتاب، والحال أن قد درسوا ما في الكتاب وعلموه، فكان الترك منهم عن علم لا عن جهل، وذلك أشدّ ذنباً وأعظم جرماً. وقيل: معنى { َدَرَسُوا مَا فِيهِ } أي: محوه بترك العمل به والفهم له، من قولهم درست الريح الآثار: إذا محتها. { وَٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ خَيْرٌ } من ذلك العرض الذي أخذوه وآثروه عليها { لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الله، ويجتنبون معاصيه { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } فتعلمون بهذا وتفهمونه، وفي هذا من التوبيخ والتقريع ما لا يقادر قدره.

قوله: { وَٱلَّذِينَ يُمَسّكُونَ بِٱلْكِتَـٰبِ } قرأ الجمهور { يمسكون } بالتشديد من مسك وتمسك، أي استمسك بالكتاب، وهو التوراة. وقرأ أبو العالية، وعاصم، في رواية أبي بكر، بالتخفيف من أمسك يمسك. وروي عن أبيّ بن كعب أنه قرأ «مسكوا» والمعنى: أن طائفة من أهل الكتاب لا يتمسكون بالكتاب، ولا يعملون بما فيه، مع كونهم قد درسوه وعرفوه، وهم من تقدّم ذكره. وطائفة يتمسكون بالكتاب، أي التوراة ويعملون بما فيه، ويرجعون إليه في أمر دينهم، فهم المحسنون الذين لا يضيع أجرهم عند الله، والموصول مبتدأ. و { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ ٱلْمُصْلِحِينَ } خبره، أي لا نضيع أجر المصلحين منهم، وإنما وقع التنصيص على الصلاة مع كونها داخلة في سائر العبادات التي يفعلها المتمسكون بالتوراة، لأنها رأس العبادات وأعظمها، فكان ذلك وجهاً لتخصيصها بالذكر. وقيل لأنها تقام في أوقات مخصوصة، والتمسك بالكتاب مستمرّ، فذكرت لهذا وفيه نظر. فإن كل عبادة في الغالب تختصّ بوقت معين، ويجوز أن يكون الموصول معطوفاً على الموصول الذي قبله، وهو { للذين يتقون }، وتكون { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } جملة معترضة.

وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، في قوله: { يَسُومُهُمْ سُوء ٱلْعَذَابِ } قال محمد وأمته إلى يوم القيامة وسوء العذاب: الجزية. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، قال { سُوء ٱلْعَذَابِ } الخراج. وفي قوله: { وَقَطَّعْنَـٰهُمُ } قال: هم اليهود بسطهم الله في الأرض، فليس منها بقعة إلا وفيها عصابة منهم وطائفة. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، في قوله: { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } قال: على اليهود والنصارى { إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوء ٱلْعَذَابِ } فبعث الله عليهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يأخذون منهم الجزية، وهم صاغرون { وَقَطَّعْنَـٰهُمْ فِي ٱلأرْضِ أُمَمًا } قال: يهود { مّنْهُمُ ٱلصَّـٰلِحُونَ } وهم مسلمة أهل الكتاب { وَمِنْهُمْ دُونَ ذٰلِكَ } قال: اليهود { وَبَلَوْنَـٰهُمْ بِٱلْحَسَنَـٰتِ } قال: الرخاء والعافية { وَٱلسَّيّئَاتِ } قال: البلاء والعقوبة. وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس { وَبَلَوْنَـٰهُمْ بِٱلْحَسَنَـٰتِ وَٱلسَّيّئَاتِ } بالخصب والجدب.

وأخرج أبو الشيخ، عنه، أنه سئل عن هذه الآية { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ ٱلْكِتَـٰبَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأدْنَىٰ } قال: أقوام يقبلون على الدنيا، فيأكلونها، ويتبعون رخص القرآن { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا } ولا يعرض لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد في قوله: { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } قال: النصارى { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَـٰذَا ٱلأدْنَىٰ } قال: ما أشرف لهم من شيء من الدنيا حلالاً أو حراماً يشتهونه أخذوه، ويتمنون المغفرة، وإن يجدوا الغد مثله يأخذوه. وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } الآية يقول: يأخذون ما أصابوا ويتركون ما شاءوا من حلال أو حرام { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا }.

وأخرج أبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مّيثَاقُ ٱلْكِتَـٰبِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ إِلاَّ ٱلْحَقَّ } فيما يوجبون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون إليها ولا يتوبون منها. وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن أبي زيد، في قوله: { وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ } قال: علموا ما في الكتاب، لم يأتوه بجهالة.

وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن الحسن، في قوله: { وَٱلَّذِينَ يُمَسّكُونَ بِٱلْكِتَـٰبِ } قال: هي لأهل الإيمان منهم. وأخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد في قوله: { وَٱلَّذِينَ يُمَسّكُونَ بِٱلْكِتَـٰبِ } قال: من اليهود والنصارى.