التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً
١٩
إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً
٢٠
وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً
٢١
إِلاَّ ٱلْمُصَلِّينَ
٢٢
ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ
٢٣
وَٱلَّذِينَ فِيۤ أَمْوَٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ
٢٤
لِّلسَّآئِلِ وَٱلْمَحْرُومِ
٢٥
وَٱلَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ
٢٦
وَٱلَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ
٢٧
إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ
٢٨
وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
٢٩
إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
٣٠
فَمَنِ ٱبْتَغَىٰ وَرَآءَ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ
٣١
وَٱلَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ
٣٢
وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ
٣٣
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ
٣٤
أُوْلَـٰئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ
٣٥
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ
٣٦
عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ عِزِينَ
٣٧
أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ
٣٨
كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ
٣٩
-المعارج

فتح القدير

قوله: { إِنَّ ٱلإنسَـٰنَ خُلِقَ هَلُوعاً } قال في الصحاح: الهلع في اللغة: أشدّ الحرص، وأسوأ الجزع وأفحشه. يقال: هلع بالكسر، فهو هلع وهلوع على التكثير. وقال عكرمة: هو الضجور. قال: الواحدي، والمفسرون يقولون تفسير الهلع ما بعده يعني قوله: { إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً } أي: إذا أصابه الفقر والحاجة، أو المرض، أو نحو ذلك، فهو جزوع، أي: كثير الجزع، وإذا أصابه الخير من الغنى والخصب والسعة، ونحو ذلك، فهو كثير المنع والإمساك. وقال أبو عبيدة: الهلوع هو الذي إذا مسه الخير لم يشكر، وإذا مسه الشرّ لم يصبر. قال ثعلب: قد فسّر الله الهلوع: هو الذي إذا أصابه الشرّ أظهر شدّة الجزع، وإذا أصابه الخير بخل به ومنعه الناس، والعرب تقول: ناقة هلوع، وهلواع: إذا كانت سريعة السير خفيفته، ومنه قول الشاعر:

شكاء ذعلبة إذا استدبرتها جرح إذا استقبلتها هلواع

والذعلبة: الناقة السريعة، وانتصاب هلوعاً وجزوعاً ومنوعاً على أنها أحوال مقدّرة، أو محققة؛ لكونها طبائع جبل الإنسان عليها، والظرفان معمولان لجزوعاً ومنوعاً. { إِلاَّ ٱلْمُصَلّينَ } أي: المقيمين للصلاة وقيل: المراد بهم أهل التوحيد يعني: أنهم ليسوا على تلك الصفات من الهلع والجزع والمنع؛ وأنهم على صفات محمودة وخلال مرضية؛ لأن إيمانهم وما تمسكوا به من التوحيد ودين الحق يزجرهم عن الاتصاف بتلك الصفات، ويحملهم على الاتصاف بصفات الخير.

ثم بيّنهم سبحانه فقال: { ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ } أي: لا يشغلهم عنها شاغل، ولا يصرفهم عنها صارف، وليس المراد بالدوام أنهم يصلون أبداً. قال الزجاج: هم الذين لا يزيلون وجوههم عن سمت القبلة، وقال الحسن، وابن جريج: هو التطوع منها. قال النخعي: المراد بالمصلين الذين يؤدّون الصلاة المكتوبة. وقيل: الذين يصلونها لوقتها، والمراد بالآية جميع المؤمنين، وقيل: الصحابة خاصة، ولا وجه لهذا التخصيص لاتصاف كل مؤمن بأنه من المصلين. { وَٱلَّذِينَ فِى أَمْوٰلِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ } قال قتادة، ومحمد بن سيرين: المراد الزكاة المفروضة. وقال مجاهد: سوى الزكاة. وقيل: صلة الرحم، والظاهر أنه الزكاة لوصفه بكونه معلوماً، ولجعله قريناً للصلاة، وقد تقدّم تفسير السائل والمحروم في سورة الذاريات مستوفى. { وَٱلَّذِينَ يُصَدّقُونَ بِيَوْمِ ٱلدّينِ } أي: بيوم الجزاء، وهو يوم القيامة لا يشكون فيه ولا يجحدونه. وقيل: يصدّقونه بأعمالهم، فيتعبون أنفسهم في الطاعات { وَٱلَّذِينَ هُم مّنْ عَذَابِ رَبّهِم مُّشْفِقُونَ } أي: خائفون وجلون مع ما لهم من أعمال الطاعة استحقاراً لأعمالهم، واعترافاً بما يجب لله سبحانه عليهم. وجملة: { إِنَّ عَذَابَ رَبّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } مقرّرة لمضمون ما قبلها مبينة أن ذلك مما لا ينبغي أن يأمنه أحد، وأن حق كل أحد أن يخافه. { وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـٰفِظُونَ } إلى قوله: { فَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْعَادُونَ } قد تقدم تفسيره في سورة المؤمنين مستوفى.

{ وَٱلَّذِينَ هُمْ لاِمَـٰنَـٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رٰعُونَ } أي: لا يخلون بشيء من الأمانات التي يؤتمنون عليها، ولا ينقضون شيئًا من العهود التي يعقدونها على أنفسهم. قرأ الجمهور: { لأماناتهم } بالجمع، وقرأ ابن كثير، وابن محيصن "لأمانتهم" بالإفراد، والمراد: الجنس: { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَـٰدٰتِهِم قَائِمُونَ } أي: يقيمونها على من كانت عليه من قريب أو بعيد، أو رفيع أو وضيع، ولا يكتمونها ولا يغيرونها، وقد تقدّم القول في الشهادة في سورة البقرة، قرأ الجمهور: "بشهادتهم" بالإفراد. وقرأ حفص، ويعقوب وهي رواية عن ابن كثير بالجمع. قال الواحدي: والإفراد أولى لأنه مصدر، ومن جمع ذهب إلى اختلاف الشهادات. قال الفرّاء: ويدل على قراءة التوحيد قوله تعالى: { وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَـٰدَةَ لِلَّهِ } [الطلاق: 2]. { وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } أي: على أذكارها وأركانها وشرائطها، لا يخلون بشيء من ذلك. قال قتادة: على وضوئها وركوعها وسجودها. وقال ابن جريج: المراد التطوّع، وكرر ذكر الصلاة لاختلاف ما وصفهم به أوّلاً، وما وصفهم به ثانياً، فإن معنى الدوام: هو أن لا يشتغل عنها بشيء من الشواغل، كما سلف؛ ومعنى المحافظة: أن يراعي الأمور التي لا تكون صلاة بدونها وقيل: المراد يحافظون عليها بعد فعلها من أن يفعلوا ما يحبطها ويبطل ثوابها، وكرّر الموصولات للدلالة على أن كل وصف من تلك الأوصاف لجلالته يستحقّ أن يستقلّ بموصوف منفرد، والإشارة بقوله: { أُوْلَـٰئِكَ } إلى الموصوفين بتلك الصفات { فِى جَنَّـٰتٍ مُّكْرَمُونَ } أي: مستقرّون فيها، مكرمون بأنواع الكرامات، وخبر المبتدأ قوله: { فِي جَنَّـٰتِ }، وقوله: { مُّكْرَمُونَ } خبر آخر، ويجوز أن يكون الخبر مكرمون، وفي جنات متعلق به. { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } أي: أيّ شيء لهم حواليك مسرعين، قال الأخفش: مهطعين مسرعين، ومنه قول الشاعر:

بمكة أهلها ولقد أراهم إليهم مهطعين إلى السماع

وقيل: المعنى: ما بالهم يسرعون إليك يجلسون حواليك، ولا يعملون بما تأمرهم؟ وقيل: ما بالهم مسرعين إلى التكذيب. وقيل: ما بال الذين كفروا يسرعون إلى السماع إليك، فيكذبونك ويستهزئون بك. وقال الكلبي: إن معنى { مُهْطِعِينَ }: ناظرين إليك. وقال قتادة: عامدين. وقيل: مسرعين إليك مادّي أعناقهم مديمي النظر إليك. { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشّمَالِ عِزِينَ } أي: عن يمين النبيّ صلى الله عليه وسلم وعن شماله جماعات متفرقة، وعزين جمع عزة، وهي العصبة من الناس، ومنه قول الشاعر:

ترانا عنده والليل داج على أبوابه حلقاً عزينا

وقال الراعي:

أخليفة الرحمٰن إن عشيرتي أمسى سراتهم إليك عزينا

وقال عنترة:

وقرن قد تركت لدي ولي عليه الطير كالعصب العزينا

وقيل: أصلها عزوة من العزو؛ كأن كل فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الأخرى. قال في الصحاح: والعزة: الفرقة من الناس، والهاء عوض من التاء، والجمع عزى وعزون، وقوله: { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشّمَالِ } متعلق بعزين، أو بمهطعين. { أَيَطْمَعُ كُلُّ ٱمْرِىء مّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ } قال المفسرون: كان المشركون يقولون: لئن دخل هؤلاء الجنة لندخلنّ قبلهم، فنزلت الآية. قرأ الجمهور: { أن يدخل } مبنياً للمفعول، وقرأ الحسن، وزيد بن عليّ، وطلحة بن مصرف، والأعرج، ويحيـى بن يعمر، وأبو رجاء، وعاصم في رواية عنه على البناء للفاعل. ثم ردّ الله سبحانه عليهم فقال: { كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَـٰهُم مّمَّا يَعْلَمُونَ } أي: من القذر الذين يعلمون به، فلا ينبغي لهم هذا التكبر. وقيل المعنى: إنا خلقناهم من أجل ما يعلمون، وهو امتثال الأمر والنهي، وتعريضهم للثواب والعقاب، كما في قوله: { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 59]، ومنه قول الأعشى:

وأزمعت من آل ليلى ابتكارا وشطت على ذي هوى أن يزارا

وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: سئل ابن عباس عن الهلوع، فقال: هو كما قال الله: { إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً }. وأخرج ابن المنذر عنه: { هَلُوعاً } قال: الشره. وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن ابن مسعود: { ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ } قال: على مواقيتها. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر عن عمران بن حصين: { ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ } قال: الذي لا يلتفت في صلاته. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن عقبة بن عامر { ٱلَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ } قال: هم الذين إذا صلوا لم يلتفتوا. وأخرج ابن المنذر من طريق أخرى عنه نحوه.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } قال: ينظرون { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشّمَالِ عِزِينَ } قال: العصب من الناس عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به. وأخرج مسلم، وغيره عن جابر قال: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، ونحن حلق متفرقون فقال: "ما لي أراكم عزين" وأخرج أحمد، وابن ماجه، وابن سعد، وابن أبي عاصم، والباوردي، وابن قانع، والحاكم، والبيهقي في الشعب، والضياء عن بشر بن جحاش قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } إلى قوله: { كَلاَّ إِنَّا خَلَقْنَـٰهُم مّمَّا يَعْلَمُونَ }، ثم بزق رسول الله صلى الله عليه وسلم على كفه، ووضع عليها أصبعه، وقال: "يقول الله: ابن آدم، أنى تعجزني، وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سوّيتك وعدّلتك مشيت بين بردين، وللأرض منك وئيد، فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت التراقي قلت أو أتى أوان الصدقة" .