التفاسير

< >
عرض

فَلآ أُقْسِمُ بِرَبِّ ٱلْمَشَٰرِقِ وَٱلْمَغَٰرِبِ إِنَّا لَقَٰدِرُونَ
٤٠
عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ
٤١
فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِي يُوعَدُونَ
٤٢
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ
٤٣
خَٰشِعَةً أَبْصَٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ
٤٤
-المعارج

فتح القدير

قوله: { فَلاَ أُقْسِمُ } «لا» زائدة كما تقدّم قريباً، والمعنى: فأقسم { بِرَبّ ٱلْمَشَـٰرِقِ وَٱلْمَغَـٰرِبِ } يعني: مشرق كل يوم من أيام السنة ومغربه. قرأ الجمهور: { المشارق والمغارب } بالجمع، وقرأ أبو حيوة، وابن محيصن، وحميد بالإفراد. { إِنَّا لَقَـٰدِرُونَ * عَلَىٰ أَن نُّبَدّلَ خَيْراً مّنْهُمْ } أي: على أن نخلق أمثل منهم، وأطوع لله حين عصوه ونهلك هؤلاء. { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي: بمغلوبين إن أردنا ذلك بل نفعل ما أردنا لا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر؛ ولكن مشيئتنا وسابق علمنا اقتضيا تأخير عقوبة هؤلاء، وعدم تبديلهم بخلق آخر. { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ } أي: اتركهم يخوضوا في باطلهم ويلعبوا في دنياهم، واشتغل بما أمرت به ولا يعظمنّ عليك ما هم فيه، فليس عليك إلاّ البلاغ { حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِى يُوعَدُونَ } وهو يوم القيامة، وهذه الآية منسوخة بآية السيف. قرأ الجمهور: { يلاقوا }. وقرأ أبو جعفر، وابن محيصن، وحميد، ومجاهد: "حتى يلقوا" { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلأَجْدَاثِ سِرَاعاً } يوم بدل من يومهم، وسراعاً منتصب على الحال من ضمير يخرجون، قرأ الجمهور { يخرجون } على البناء للفاعل. وقرأ السلمي، والأعمش، والمغيرة، وعاصم في رواية على البناء للمفعول، والأجداث جمع جدث، وهو القبر { كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } قرأ الجمهور: { نصب } بفتح النون وسكون الصاد. وقرأ ابن عامر، وحفص بضم النون والصاد، وقرأ عمرو بن ميمون، وأبو رجاء بضم النون وإسكان الصاد. قال في الصحاح: والنصب ما نصب فعبد من دون الله، وكذا النصب بالضم، وقد يحرّك. قال الأعشى:

وذا النصب المنصوب لا تعبدنه ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا

والجمع الأنصاب. وقال الأخفش، والفراء: النصب جمع النصب، مثل رهن ورهن، والأنصاب جمع النصب فهو جمع الجمع. وقيل: النصب جمع نصاب، وهو حجر أو صنم يذبح عليه، ومنه قوله: { { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } [المائدة: 3]. وقال النحاس: نصب ونصب بمعنى واحد. وقيل: معنى { إِلَىٰ نُصُبٍ }: إلى غاية، وهي التي تنصب إليها بصرك، وقال الكلبي: إلى شيء منصوب علم أو راية أي: كأنهم إلى علم يدعون إليه، أو راية تنصب لهم يوفضون، قال الحسن: كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أوّلهم على آخرهم. وقال أبو عمرو: النصب شبكة الصائد يسرع إليها عند وقوع الصيد فيها مخافة انفلاته. ومعنى يوفضون: يسرعون، والإيفاض الإسراع. يقال: أوفض إيفاضاً، أي: أسرع إسراعاً، ومنه قول الشاعر:

فوارس ذبيان تحت الحديد كالجنّ يوفض من عبقر

وعبقر: قرية من قرى الجن، كما تزعم العرب، ومنه قول لبيد:

كهول وشبان كجنة عبقر

وانتصاب { خَـٰشِعَةً أَبْصَـٰرُهُمْ } على الحال من ضمير يوفضون، وأبصارهم مرتفعة به، والخشوع الذلة والخضوع، أي: لا يرفعونها لما يتوقعونه من العذاب { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أي: تغشاهم ذلة شديدة. قال قتادة هي: سواد الوجوه، ومنه غلام مراهق: إذا غشيه الاحتلام، يقال: رهقه بالكسر يرهقه رهقاً، أي: غشيه، ومثل هذا قوله: { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ } [يونس: 26] والإشارة بقوله: { ذٰلِكَ } إلى ما تقدّم ذكره. وهو مبتدأ وخبره: { ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ } أي: الذي كانوا يوعدونه في الدنيا على ألسنة الرسل قد حاق بهم وحضر، ووقع بهم من عذابه ما وعدهم الله به، وإن كان مستقبلاً، فهو في حكم الذي قد وقع لتحقق وقوعه.

وقد أخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: { فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبّ ٱلْمَشَـٰرِقِ وَٱلْمَغَـٰرِبِ } قال: للشمس كل يوم مطلع تطلع فيه، ومغرب تغرب فيه غير مطلعها بالأمس وغير مغربها بالأمس. وأخرج ابن جرير عنه: { إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ } قال: إلى علم يستبقون.