التفاسير

< >
عرض

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ تَنزِيلاً
٢٣
فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً
٢٤
وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً
٢٥
وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً
٢٦
إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً
٢٧
نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً
٢٨
إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً
٢٩
وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً
٣٠
يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ وَٱلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
٣١
-الإنسان

فتح القدير

قوله: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْءانَ تَنزِيلاً } أي: فرّقناه في الإنزال، ولم ننزله جملة واحدة. وقيل المعنى: نزلناه عليك، ولم تأت به من عندك، كما يدّعيه المشركون. { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ } أي: لقضائه، ومن حكمه، وقضائه تأخير نصرك إلى أجل اقتضته حكمته. قيل: وهذا منسوخ بآية السيف { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءاثِماً أَوْ كَفُوراً } أي: لا تطع كل واحد من مرتكب لإثم وغال في كفر، فنهاه الله سبحانه عن ذلك. قال الزجاج: إن الألف هنا آكد من الواو وحدها؛ لأنك إذا قلت: لا تطع زيداً، وعمراً، فأطاع أحدهما كان غير عاص؛ لأنه أمره أن لا يطيع الاثنين، فإذا قال: لا تطع منهم آثماً أو كفوراً دلّ ذلك على أن كل واحد منهما أهل أن يعصى، كما أنك إذا قلت: لا تخالف الحسن أو ابن سيرين، فقد قلت إنهما أهل أن يتبعا، وكل واحد منهما أهل أن يتبع. وقال الفرّاء: «أو» هنا بمنزلة لا، كأنه قال: ولا كفوراً. وقيل المراد بقوله: { ءاثِماً } عتبة بن ربيعة، وبقوله: { أَوْ كَفُوراً } الوليد بن المغيرة؛ لأنهما قالا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: ارجع عن هذا الأمر، ونحن نرضيك بالمال والتزويج. { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي: دم على ذكره في جميع الأوقات. وقيل المعنى: صلّ لربك أوّل النهار وآخره، فأوّل النهار صلاة الصبح، وآخره صلاة العصر. { وَمِنَ ٱلَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ } أي: صلّ المغرب والعشاء. وقيل: المراد الصلاة في بعضه من غير تعيين، ومن للتبعيض على كل تقدير { وَسَبّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } أي: نزّهه عما لا يليق به، فيكون المراد: الذكر بالتسبيح سواء كان في الصلاة، أو في غيرها. وقيل: المراد التطوّع في الليل. قال ابن زيد، وغيره: إن هذه الآية منسوخة بالصلوات الخمس. وقيل: الأمر للندب. وقيل: هو مخصوص بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.

{ إِنَّ هَـٰؤُلاَء يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ } يعني: كفار مكة ومن هو موافق لهم. والمعنى: أنهم يحبون الدار العاجلة، وهي دار الدنيا، { وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } أي: يتركون، ويدعون وراءهم، أي: خلفهم، أو بين أيديهم وأمامهم يوماً شديداً عسيراً، وهو يوم القيامة، وسمي ثقيلاً لما فيه من الشدائد والأهوال. ومعنى كونه يذرونه وراءهم: أنهم لا يستعدّون له، ولا يعبئون به، فهم كمن ينبذ الشيء وراء ظهره تهاوناً به، واستخفافاً بشأنه، وإن كانوا في الحقيقة مستقبلين له وهو أمامهم. { نَّحْنُ خَلَقْنَـٰهُمْ } أي: ابتدأنا خلقهم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة إلى أن كمل خلقهم، ولم يكن لغيرنا في ذلك عمل ولا سعي لا اشتراكاً ولا استقلالاً { وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ } الأسر: شدّة الخلق، يقال شدّ الله أسر فلان، أي: قوّى خلقه. قال مجاهد، وقتادة، ومقاتل، وغيرهم: شددنا خلقهم. قال الحسن: شددنا أوصالهم بعضاً إلى بعض بالعروق، والعصب. قال أبو عبيد: يقال فرس شديد الأسر، أي: الخلق. قال لبيد:

ساهم الوجه شديد أسره مشرف الحارك محبوك القتد

وقال الأخطل:

من كل مجتنب شديد أسره سلس القياد تخاله مختالا

وقال ابن زيد: الأسر القوّة، واشتقاقه من الإسار، وهو القدّ الذي تشدّ به الأقتاب، ومنه قول ابن أحمر يصف فرساً:

يمشي بأوطفة شداد أسرها شمّ السبائك لا تفي بالجدجد

{ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَـٰلَهُمْ تَبْدِيلاً } أي: لو شئنا لأهلكناهم، وجئنا بأطوع لله منهم. وقيل المعنى: مسخناهم إلى أسمج صورة، وأقبح خلقة. { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ } يعني: إن هذه السورة تذكير وموعظة { فَمَن شَاء ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبّهِ سَبِيلاً } أي: طريقاً يتوسل به إليه، وذلك بالإيمان، والطاعة. والمراد إلى ثوابه، أو إلى جنته. { وَمَا تَشَاءونَ إِلاَّ أَن يَشَاء ٱللَّهُ } أي: وما تشاءون أن تتخذوا إلى الله سبيلاً إلاّ أن يشاء الله، فالأمر إليه سبحانه ليس إليهم. والخير والشرّ بيده، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، فمشيئة العبد مجرّدة لا تأتي بخير ولا تدفع شرّاً، وإن كان يثاب على المشيئة الصالحة، ويؤجر على قصد الخير، كما في حديث: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرىء ما نوى" قال الزجاج أي: لستم تشاءون إلاّ بمشيئة الله { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } في أمره ونهيه، أي: بليغ العلم والحكمة. { يُدْخِلُ مَن يَشَاء فِى رَحْمَتِهِ } أي: يدخل في رحمته من يشاء أن يدخله فيها، أو يدخل في جنته من يشاء من عباده، قال عطاء: من صدقت نيته أدخله جنته { وَٱلظَّـٰلِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } انتصاب الظالمين بفعل مقدّر يدل عليه ما قبله، أي: يعذب الظالمين، نصب الظالمين؛ لأن ما قبله منصوب، أي: يدخل من يشاء في رحمته ويعذب الظالمين، أي: المشركين، ويكون أعدّ لهم تفسيراً لهذا المضمر، والاختيار النصب، وإن جاز الرفع، وبالنصب قرأ الجمهور، وقرأ أبان بن عثمان بالرفع على الابتداء، ووجهه أنه لم يكن بعده فعل يقع عليه.

وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس: { وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ } قال: خلقهم. وأخرج ابن جرير عن أبي هريرة { وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ } قال: هي المفاصل.