التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٢٤
وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٢٥
-الأنفال

فتح القدير

.

الأمر هنا بالاستجابة مؤكد لما سبق من الأمر بالطاعة، ووحد الضمير هنا حيث قال: { إِذَا دَعَاكُمْ } كما وحده في قوله: { { وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ } [الأنفال: 20] وقد قدّمنا الكلام في وجه ذلك، والاستجابة: الطاعة. قال أبو عبيدة معنى استجيبوا: أجيبوا. وإن كان استجاب يتعدّى باللام، وأجاب بنفسه كما في قوله: { يٰقَوْمَنَا أَجِيبُواْ دَاعِىَ ٱللَّهِ } [الأحقاف: 31]، وقد يتعدّى استجاب بنفسه كما في قول الشاعر:

وداع دعا يا من يجيب إلى الندى فلم يستجبه عند ذاك مجيب

{ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } اللام متعلقة بقوله: { ٱسْتَجِيبُواْ } أي: استجيبوا لما يحييكم إذا دعاكم، ولا مانع من أن تكون متعلقة "بدعا" أي إذا دعاكم إلى ما فيه حياتكم من علوم الشريعة، فإن العلم حياة، كما أن الجهل موت. فالحياة هنا مستعارة للعلم. قال الجمهور من المفسرين: المعنى استجيبوا للطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواه ففيه الحياة الأبدية، والنعمة السرمدية. وقيل المراد بقوله: { لِمَا يُحْيِيكُمْ } الجهاد، فإنه سبب الحياة في الظاهر، لأن العدوّ إذا لم يغز غزا.

ويستدلّ بهذا الأمر بالاستجابة على أنه يجب على كل مسلم إذا بلغه قول الله أو قول رسوله في حكم من الأحكام الشرعية أن يبادر إلى العمل به كائناً ما كان، ويدع ما خالفه من الرأي وأقوال الرجال. وفي هذه الآية الشريفة أعظم باعث على العمل بنصوص الأدلة، وترك التقيد بالمذاهب، وعدم الاعتداد بما يخالف ما في الكتاب والسنة كائناً ما كان.

قوله: { وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْء وَقَلْبِهِ } قيل معناه: بادروا إلى الاستجابة قبل أن لا تتمكنوا منها بزوال القلوب التي تعقلون بها بالموت الذي كتبه الله عليكم. وقيل معناه: إنه خاف المسلمون يوم بدر كثرة العدوّ، فأعلمهم الله أنه يحول بين المرء وقلبه بأن يبدلهم بعد الخوف أمناً، ويبدل عدوّهم من الأمن خوفاً. وقيل هو: من باب التمثيل لقربه سبحانه من العبد كقوله: { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } [قۤ: 16] ومعناه: أنه مطلع على ضمائر القلوب، لا تخفى عليه منها خافية.

واختار ابن جرير أن هذا من باب الإخبار من الله عزّ وجلّ بأنه أملك لقلوب عباده منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يدرك الإنسان شيئاً إلا بمشيئته عزّ وجلّ. ولا يخفاك أنه لا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني. { وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } معطوف على { أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْء وَقَلْبِهِ } وأنكم محشورون إليه، وهو مجازيكم بالخير خيراً، وبالشرّ شرّاً. قال الفراء: ولو استأنفت فكسرت همزة "إنَّه" لكان صواباً. ولعل مراده أن مثل هذا جائز في العربية.

قوله: { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } أي: اتقوا فتنة تتعدّى الظالم فتصيب الصالح والطالح، ولا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم.

وقد اختلف النحاة في دخول هذه النون المؤكدة في { تُصِيبَنَّ } فقال الفراء: هو بمنزلة قولك: انزل عن الدابة لا تطرحنك، فهو جواب الأمر بلفظ النهى، أي إن تنزل عنها لا تطرحنك، ومثله قوله تعالى: { { ٱدْخُلُواْ مَسَـٰكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَـٰنُ وَجُنُودُهُ } [النمل: 18] أي: إن تدخلوا لا يحطمنكم. فدخلت النون لما فيه من معنى الجزاء.

وقال المبرد: إنه نهى بعد أمر. والمعنى: النهي للظالمين، أي لا يقربنّ الظلم، ومثله ما روى عن سيبويه لا أرينك هاهنا. فإن معناه: لا تكن هاهنا، فإن من كان ها هنا رأيته. وقال الجرجاني: إن { لا تصيبنّ } نهي في موضع وصف لفتنة. وقرأ عليّ، وزيد بن ثابت، وأبيّ وابن مسعود "لتصيبنّ" على أن اللام جواب لقسم محذوف، والتقدير: اتقوا فتنة والله لتصيبنّ الذين ظلموا منكم خاصة. فيكون معنى هذه القراءة مخالفاً لمعنى قراءة الجماعة، لأنها تفيد أن الفتنة تصيب الظالم خاصة، بخلاف قراءة الجماعة.

{ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ }، ومن شدّة عقابه أنه يصيب بالعذاب من لم يباشر أسبابه، وقد وردت الآيات القرآنية بأنه لا يصاب أحد إلا بذنبه، ولا يعذب إلا بجنايته، فيمكن حمل مافي هذه الآية على العقوبات التي تكون بتسليط العباد بعضهم على بعض. ويمكن أن تكون هذه الآية خاصة بالعقوبات العامة، والله أعلم. ويمكن أن يقال: إن الذين لم يظلموا قد تسببوا للعقوبة بأسباب: كترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتكون الأسباب المتعدّية للظالم إلى غيره مختصة بمن ترك ما يجب عليه عند ظهور الظلم.

وقد أخرج ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: { إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } قال: للحق. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن قتادة في الآية: قال هو هذا القرآن فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة. وأخرج ابن إسحاق، وابن أبي حاتم، عن عروة بن الزبير، في قوله: { إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ } أي: للحرب التي أعزّكم الله بها بعد الذلّ. وقوّاكم بها بعد الضعف، ومنعكم بها من العذاب بعد القهر منهم لكم. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد بن المعلي، قال كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم أجبه، ثم أتيته فقلت: يا رسول الله إني كنت أصلي، فقال: "ألم يقل الله تعالى { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم }" . الحديث. وفيه دليل على ما ذكرنا من أن الآية تعمّ كل دعاء من الله أو من رسوله.

وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والحاكم وصححه من طرق، عن ابن عباس، في قوله: { وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْء وَقَلْبِهِ } قال: يحول بين المؤمن وبين الكفر ومعاصي الله. ويحول بين الكافر وبين الإيمان وطاعة الله. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الربيع بن أنس، في الآية قال علمه يحول بين المرء وقلبه. وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في الآية قال: يحول بين المرء وقلبه حتى يتركه لا يعقل. وأخرج عبد بن حميد، عن الحسن، في الآية قال: في القرب منه.

وأخرج أحمد، والبزار، وابن المنذر، وابن مردويه، وابن عساكر، عن مطرف، قال: قلت للزبير يا أبا عبد الله ضيعتم الخليفة حتى قتل، ثم جئتم تطلبون بدمه. قال الزبير: إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } ولم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت. وأخرج ابن أبي حاتم، عن الحسن، قال: قرأ الزبير { وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً } قال: البلاء والأمر الذي هو كائن. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن الحسن، في الآية قال: نزلت في عليّ وعثمان وطلحة والزبير.

وأخرج عبد بن حميد، عن الضحاك قال نزلت في أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة. وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن السديّ قال: نزلت في أهل بدر خاصة، فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا، فكان من المقتولين طلحة والزبير، وهما من أهل بدر. وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ في الآية قال: تصيب الظالم والصالح عامة. وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد مثله.

وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد في الآية قال: هي مثل { يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْء وَقَلْبِهِ } حتى يتركه لا يعقل. وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في الآية قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقرّوا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بالعذاب. وقد وردت الأحاديث الصحيحة الكثيرة بأن هذه الأمة إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، عمهم الله بعذاب من عنده.