التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٥٢
إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَىٰ أحَدٍ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِيۤ أُخْرَٰكُمْ فَأَثَـٰبَكُمْ غَمّاً بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَـٰبَكُمْ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٥٣
-آل عمران

أيسر التفاسير

شرح الكلمات:
صدقكم الله وعده: أنجزكم ما وعدكم على لسان رسوله بقوله للرماة اثبتوا أماكنكم فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم.
تحسونهم: تقتلونهم إذ الحس القتل يقال حسه إذا قتله فابطل حسّه.
بإذنه: بإذنه لكم في قتالهم وبإعانته لكم على ذلك.
فشلتم: ضعفتم وجبنتم عن القتال.
تصعدون: تذهبون في الأرض فارين من المعركة يقال أصعد إذا ذهب في صعيد الأرض.
ولا تلوون على أحد: لا تلوون رؤوسكم على أحد تلتفتون إليه.
والرسول يدعوكم في أخراكم: أي يناديكم من خلفكم إليّ عباد الله ارجعوا إليّ عباد الله ارجعوا.
فأثابكم غما بغم: جزاكم على معصيتكم وفراركم غماً على غم. والغم ألم النفس وضيق الصدر.
ما فاتكم: من الغنائم.
ولا ما أصابكم: من الموت والجراحات والآلام والأتعاب.
معنى الآيات:
ما زال السياق في أحداث أحد فقد تقدم في السياق قريبا نهى الله تعالى المؤمنين عن طاعة الكافرين في كل ما يقترحون، ويشيرون به عليهم. ووعدهم بأنه سليقي الرعب في قلوب الكافرين وقد فعل فله الحمد حيث عزم أبو سفيان على أن يرجع إلى المدينة ليقتل من بها ويستأصل شأفتهم فأنزل الله تعالى في قلبه وقلوب أتباعه الرعب فعدلوا عن غزو المدينة مرة ثانية وذهبوا إلى مكة. ورجع الرسول والمؤمنون من حمراء الأسد ولم يلقوا أبا سفيان وجيشه. وفي هاتين الآيتين يخبرهم تعالى بمنته عليهم حيث أنجزهم ما وعدهم من النصر فقال تعالى: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ }، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما بوأ الرماة مقاعدهم. وكانوا ثلاثين رامياً وجعل عليهم عبد الله بن جبير أمرهم بأن لا يبرحوا أماكنهم كيفما كانت الحال وقال لهم:
"إنا لا نزال غالبين ما بقيتم في أماكنكم ترمون العدو فتحمون ظهورنا بذلك" ، وفعلاً دارت المعركة وأنجز الله تعالى لهم وعده ففر المشركون أمامهم تاركين كل شيء هاربين بأنفسهم والمؤمنون يحسونهم حسَّاً أي يقتلونهم قتلا بإذن الله وتأييده لهم ولما رأى الرماة هزيمة المشركين والمؤمنون يجمعون الغنائم قالوا: ما قيمة بقائنا هنا والناس يغنمون فهَيَّا بنا ننزل إلى ساحة المعركة لنغنم، فذكرهم عبد الله بن جبير قائدهم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأولوه ونزلوا إلى ساحة المعركة يطلبون الغنائم، وكان على خيل المشركين خالد بن الوليد فلما رأى الرماة أَخْلَوْا مراكزهم إلا قليلا منهم كرَّ بخيله عليهم فاحتل أماكنهم وقتل من بقي فيها، ورمى المسلمين من ظهورهم فتضعضوا لذلك فعاد المشركون إليهم ووقعوا بين الرماة الناقمين والمقاتلين الهائجين فوقعت الكارثة فقتل سبعون من المؤمنين ومن بينهم حمزة عم الرسول صلى الله عليه وسلم وجرح رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه وكسرت رباعيته وصاح الشيطان قائلا أن محمداً قد مات وفر المؤمنون من ميدان المعركة إلا قليلا منهم وفي هذا يقول تعالى: { حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ }، يريد تنازع الرماة مع قائدهم عبد الله بن جبير حيث نهاهم عن ترك مقاعدهم وذكرهم بأمر رسول الله فنازعوه في فهمه وخالفوا الأمر ونزلوا، وكان ذلك بعد أن رأوا إخوانهم قد انتصروا وأعداءهم قد انهزموا، وهو معنى قوله تعالى: { وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } أي من النصر { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } وهم الذين نزلوا إلى الميدان يجمعون الغنائم، { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ } وهم عبد الله بن جبير والذين صبروا معه في مراكزهم حتى استشهدوا فيها وقوله تعالى { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } وذلك إخبار عن ترك القتال لما أصابهم من الضعف حينما رأوا أنفسهم محصورين بين رماة المشركين ومقاتليهم فأصعدوا في الوادي هاربين بأنفسهم، وحصل هذا بعلم الله تعالى وتدبيره، والحكمة فيه أشار إليها تعالى بقوله: { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أي يختبركم فيرى المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، والصابر من الجزع، وقوله تعالى { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } يريد أنه لو شاء يؤاخذهم بمعصيتهم أمر رسولهم فسلط عليهم المشركين فقتلوهم أجمعين ولم يُبقوا منهم أحداً إذ تمكنوا منهم تماما ولكن الله سلم. هذا معنى { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } هذا ما تضمنته الآية الأولى [152] أما الآية الثانية [153] فهي تصور الحال التي كان عليها المؤمنون بعد حصول الانكسار والهزيمة فيقول تعالى { إِذْ تُصْعِدُونَ } أى عفا عنكم في الوقت الذي فررتم مصعدين في الأودية هاربين من المعركة والرسول يدعوكم من ورائكم إليّ عباد الله ارجعوا، وأنتم فارون لا تلوون على أحد، أي لا تلتفتوا إليه. وقوله تعالى: { فَأَثَـٰبَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ } يريد جزاكم على معصيتكم غماّ والغم ألم النفس لضيق الصدر وصعوبة الحال. وقوله بغم أي على غم، وسبب الغم الأول فوات النصر والغنيمة والثاني القتل والجراحات وخاصة جراحات نبيّهم، وإذاعة قتله صلى الله عليه وسلم.
وقوله تعالى: { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَآ أَصَـٰبَكُمْ } أي ما أصابكم بالغم الثاني الذي هو خبر قتل الرسول صلى الله عليه وسلم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر والغنيمة، ولا على ما أصابكم من القتل والجراحات فأنساكم الغم الثاني ما غمكم به الغم الأول الذي هو فوات النصر والغنيمة. وقوله { وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } يخبرهم تعالى أنه بكل ما حصل منهم من معصية وتنازع وفرار، وترك للنبي صلى الله عليه وسلم في المعركة وحده وانهزامهم وحزنهم خبير مطلع عليه عليم به وسيجزي به المحسن بإحسانه والمسيىء بإساءته أو يعفو عنه، والله عفو كريم.
هداية الآيتين
من هداية الآيتين:
1- مخالفة القيادة الرشيدة والتنازع في حال الحرب يسبب الهزيمة المنكرة.
2- معصية الله ورسوله والإختلافات بين أفراد الأمة تعقب آثاراً سيئة أخفها عقوبة الدنيا بالهزائم وذهاب الدولة والسلطان.
3- ما من مصيبة تصيب العبد إلاّ وعند الله ما هو أعظم منها فلذا يجب حمد الله تعالى على أنها لم تكن أعظم.
4- ظاهر هزيمة أحد النقمة وباطنها النعمة، وبيان ذلك أَنْ عَلِمَ المؤمنون أن النصر والهزيمة يتمان حسب سنن إلهية فما أصبحوا بعد هذه الحادثة المؤلمة يغفلون تلك السنن أو يهملونها.
5- بيان حقيقة كبرى وهي أن معصية الرسول صلى الله عليه وسلم مرة واحدة وفي شيء واحد ترتب عليها آلام وجراحات وقتل وهزائم وفوات خير كبير وكثير فكيف بالذين يعصون رسول الله طوال حياتهم وفي كل أوامره ونواهيه وهم يضحكون ولا يبكون، وآمنون غير خائفين.