التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٢
-الفاتحة

محاسن التأويل

{ الْحَمْدُ للّهِ } أي : الثناء بالجميل ، والمدح بالكمال ثابت لله ، دون سائر ما يعبد من دونه ، ودون كل ما برأ من خلقه . واللام في : { الْحَمْدُ } للاستغراق أي : استغراق جميع أجناس الحمد وثبوتها لله تعالى تعظيماً وتمجيداً - كما في الحديث: " اللهم لك الحمد كله ، ولك الملك كله "
. قال الإمام ابن القيم في " طريق الهجرتين " : الملك والحمد في حقه تعالى متلازمان . فكل ما شمله ملكه وقدرته شمله حمده ، فهو محمود في ملكه ، وله الملك والقدرة مع حمده ، فكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدراته ، يستحيل خروجها عن حمده وحكمته ، ولهذا يحمد سبحانه نفسه عند خلقه ، وأمره لينبَّه عباده على أن مصدر خلقه وأمره عن حمده . فهو محمود على كل ما خلقه وأمر به ، حمد شكر وعبودية ، وحمد ثناء ومدح ، ويجمعهما التبارك ، { تَبَارَكَ اللَّهُ } يشمل ذلك كله ، ولهذا ذكر هذه الكلمة عقيب قوله : { { أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [ الأعراف : 54 ] . فالحمد أوسع الصفات واعم المدائح . والطرق إلى العلم به في غاية الكثرة ، والسبيل إلى اعتباره في ذرات العالم وجزئياته ، وتفاصيل الأمر والنهي واسعة جداً ، لأن جميع أسمائه ، تبارك وتعالى حمدٌ ، وصفاته حمدٌ ، وأفعاله حمد ، وأحكامه حمد ، وعدله حمد ، وانتقامه من أعدائه حمد ، وفضله في إحسانه إلى أوليائه حمد ، والخلق والأمر إنما قام بحمده ، ووجد بحمده ، وظهر بحمده ، وكان الغاية هي حمده ، فحمده سبب ذلك وغايته ومظهره وحامله ، فحمده روح كل شيء ، وقيام كل شيء بحمده ، وسريان حمده في الموجودات ، وظهور آثاره فيه أمرٌ مشهود بالأبصار والبصائر - ثم قال - : وبالجملة فكل صفة علياء ، واسم حسن ، وثناء جميل ، وكل حمدٍ ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو لله عز وجل على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها ، وجميع ما يوصف به ، ويذكر به ، ويخبر عنه به فهو محامد له وثناء وتسبيح وتقديس ، فسبحانه وبحمده لا يُحصي أحدٌ من خلقه ثناء عليه .
{ رَبِّ الْعَالَمِينَ } الرب يطلق على السيد المطلق ، وعلى المصلح ، وعلى المالك - تقول : ربَّه يرُبُّه فهو ربّ كما تقول : نمّ عليه ينمّ فهو نمّ - فهو صفة مشبهة ، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى التربية ، وهي : تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً ، وصف به الفاعل مبالغة كما وصف بالعدل ، والرب - باللام - لا يقال إلا لله عز وجل . وهو في غيره على التقييد بالإضافة - كرب الدار - ومنه قوله تعالى :
{ { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ } [ يوسف : 50 ] : { { إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } [ يوسف : 23 ] .
و : { الْعَالَمِينَ } جمع عالم وهو : الخلق كله وكل صنف منه ، وإيثار صيغة الجمع لبيان شمول ربوبيته تعالى لجميع الأجناس ، والتعريف لاستغراق أفراد كل منها بأسرها .