التفاسير

< >
عرض

فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ
٩٨
-يونس

محاسن التأويل

{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ } أي: فهلا كانت قرية من القرى المهلكة آمنت قبل معاينة العذاب، ولم تؤخر إيمانها إلى حين معاينته، كما فعل فرعون، وفي هذا التخصيص معنى التوبيخ { فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا } بأن يقبله الله منها، ويكشف عنها بسببه العذاب { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } أي: لكنَّ قومه: { لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } أي: إلى آجالهم.
هذا، وقد جوز أن تكون الجملة في معنى النفي، لتضمن حرف التحضيض معناه، فيكون الاستثناء متصلاً؛ لأن المراد من القرى أهاليها، كأنه قال: ما آمن أهل قرية من القرى العاصية فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس. ويؤيده قراءة الرفع على البدل.
روي أن يونس عليه السلام بعثه الله إلى نينوى، من أرض الموصل، وكانت مدينة عظيمة، مسيرة ثلاثة أيام، وهي قصبة بلاد الآشوريين، بانيها آشور أو نينوس بن نمرود، وكلاهما من أولاد بني نوح، وكانت من أقدم مدن العالم وأشهرها، والمؤرخون الوثنيون يصفونها بأن ارتفاع أسوراها كان مائة قدم، ودائراتها ستون ميلاً، وهي محصنة بألف وخمسمائة قلعة، طول الواحدة منهن مائتا قدم. قيل: أهلها كانوا يبلغون نحو ستمائة ألف. وخلفاء نمرود في هذه المدينة دأبوا على تحسينها، وتوسيع بنائها، وقويت شوكة الآشوريين في تلك الأيام حتى خضع لهم أكثر ممالك آسيا، فتجبروا وتمردوا، وكانوا كلما ظفروا في غاراتهم يستغرقون في النهب والمظالم، فأرسل الله تعالى إليهم يونس عليه السلام، واسمه في العبرية ( يونان )، لينذرهم بأنهم لكفرهم واقترافهم الموبقات سيحل بهم العذاب بعد أربعين يوماً فتنقلب بهم نينوى. ثم خرج يونس من بينهم فأصحر، فلما فقدوه وبلغ أميرهم قول يونس؛ تخوفوا نزول العذاب الذي أُنذروا به، فقذف الله في قلب أميرهم الإيمان والتوبة، فنزل عن عرشه، وألقى عنه حلته، والتف بمسح، وجلس على التراب، وآمن بالله، وآمن أهل نينوى كلهم، وأمر أن ينادى بنينوى بالصيام، فلا يذوق أحد طعاماً ولا شراباً، ولا ترعى البهائم ولا تسقى، وأن يلبس الناس المسوح، صغيرهم وكبيرهم، وأن يجتمعوا في صعيد واحد، يجهرون بتسبيح الله والإنابة إليه، والاستغفار له، والتوبة عما أسلفوا من الظلم والجرم، وأن يحضروا أطفالهم وذويهم ومواشيهم معهم. ففعلوا وتضرعوا إلى الله واستكانوا لجلاله، وسألوه أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم. فلما علم منهم الصدق من قلوبهم، والتوبة والندامة على ما مضى منهم، كشف عنهم العذاب ورحمهم. وسيأتي في ( سورة الصافات ) زيادة في نبأ يونس عما هنا.
تنبيهات
الأول: يروي بعض المفسرين هنا أن العذاب تدلى عليهم وغشيهم، وجعل يدور على رؤوسهم، وغامت السماء غيماً أسود، ونحو هذا. وليس في التنزيل بيان لهذا، ولا في صحيح السنة، وكأن من زعمه فهمه من لفظ: { كَشَفْنَا }، ولا صراحة فيه.
قال القرطبي: معنى: { كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ } أي: العذاب الذي وعدهم يونس أن ينزل أنه بهم لا أنهم رأوه حينئذ، فلا خصوصية، أي: كما روي عن قتادة أن هذا الكشف لم يكن لأمة من الأمم إلا لقوم يونس خاصة، فإنه لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا علامته.
الثاني: في الآية إشارة إلى أنه لم يوحد قرية آمنت بأجمعها بنبيها المرسل إليها من سائر القرى، إثر بعثته وإنذاره، إلا قوم يونس، والبقية دأبهم التكذيب، وكلهم أو أكثرهم كما قال تعالى:
{ { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ } [الزخرف: 23].
وفي الحديث الصحيح:
" عرض علي الأنبياء، فجعل النبي يمر ومعه الفئام من الناس، والنبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي ليس معه أحد " .
الثالث: أخرج ابن أبي حاتم عن علي رضي الله عنه قال: إن الحذر لا يرد القدر، وإن الدعاء يرد القدر، وذلك في كتاب الله: { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا } الآية.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: الدعاء يرد القضاء، وقد نزل من السماء. اقرؤوا إن شئتم: { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } الآية.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة مرفوعاً، في قوله تعالى: { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ } قال عليه السلام: " دعوا " - كذا في " الإكليل " -.