التفاسير

< >
عرض

إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ وَٱلْفَتْحُ
١
وَرَأَيْتَ ٱلنَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ ٱللَّهِ أَفْوَاجاً
٢
فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَٱسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً
٣
-النصر

محاسن التأويل

{ إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ } أي: لدينه الحق على الباطل { وَالْفَتْحُ } أي: فتح مكة الذي فتح الله بينه وبين قومه صلوات الله عليه، فجعل له الغلبة عليهم وضعف أمرهم في التمسك بعقائدهم الباطلة.
{ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً } أي: ورأيت الناس من صنوف العرب وقبائلها عند ذلك يدخلون في دين الله، وهو دينك الذي جئتهم به لزوال ذلك الغطاء الذي كان يحول بينهم وبينه، وهو غطاء قوة الباطل فيقبلون عليه أفواجاً طوائف وجماعات لا آحاداً، كما كان في بدء الأمر أيام الشدة؛ إذ حصل ذلك كله وهو لا ريب حاصل. { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } أي: فنزِّه ربك عن أن يهمل الحق ويدعه للباطل يأكله، وعن أن يخلف وعده في تأييده، وليكن هذا التنزيه بواسطة حمده والثناء عليه بأنه القادر الذي لا يغلبه غالب، والحكيم الذي إذا أمهل الكافرين ليمتحن قلوب المؤمنين، فلن يضيع أجر العاملين ولا يصلح عمل المفسدين. والبصير بما في قلوب المخلصين والمنافقين، فلا يذهب عليه رياء المفسدين، والبصير بما في قلوب المخلصين والمنافقين، فلا يذهب عليه رياء المرائين { وَاسْتَغْفِرْهُ } أي: اسأله أن يغفر لك ولأصحابك ما كان من القلق والضجر والحزن، لتأخر زمن النصر والفتح. والاستغفار إنما يكون بالتوبة الخالصة. والتوبة من القلق إنما تكون بتكميل الثقة بوعد الله، وتغليب هذه الثقة على خواطر النفس التي تحدثها الشدائد، وهو وإن كان مما يشق على نفوس البشر، ولكن الله علم أن نفس نبيه صلى الله عليه وسلم قد تبلغ ذلك الكمال؛ فلذلك أمره به، وكذلك تقاربه قلوب الكمّل من أصحابه وأتباعه عليه السلام. والله يتقبل منهم { إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } أي: إنه سبحانه لا يزال يوصف بأنه كثير القبول للتوبة، لأنه ربٌّ يربي النفوس بالمحن، فإذا وجدتْ الضعف أنهضها إلى طلب القوة، وشدد همها بحسن الوعد، ولا يزال بها حتى تبلغ الكمال، وهي في كل منزلة تتوب عن التي قبلها، وهو سبحانه يقبل توبتها فهو التواب الرحيم. وكأن الله يقول: إذا حصل الفتح وتحقق النصر وأقبل الناس على الدين الحق، فقد ارتفع الخوف وزال موجب الحزن، فلم يبق إلا تسبيح الله وشكره والنزوع إليه عما كان من خواطر النفس، فلن تعود الشدة تأخذ نفوس المخلصين ما داموا على تلك الكثرة في ذلك الإخلاص. ومن هذا أخذ النبي صلى الله عليه وسلم أن الأمر قد تم ولم يبق له إلا أن يسير إلى ربه، فقال فيما روي عنه: "إنه قد نعيت إليه نفسه". هذا ملخص ما أورده الإمام في تفسيره.
تنبيهات:
الأول: قال ابن كثير: المراد بالفتح هاهنا فتح مكة قولاً واحداً؛ فإن أحياء العرب كانت تتلوّم بإسلامها فتح مكة، يقولون: إن ظهر على قومه فهو نبيّ. فلما فتح الله عليه مكة، دخلوا في دين الله أفواجاً، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيماناً، ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهِر للإسلام ولله الحمد والمنة. وقد روى البخاري في "صحيحه" عن عمرو بن سلمة: كنا بماءٍ ممرَّ الناس، وكان يمرُ بنا الركبان فنسألهم: ما للناس؟ ما للناس؟ ما هذا الرجل؟ فيقولون: يزعم أن الله تعالى أرسله أوحى إليه، أو أوحى الله بكذا، فكنت أحفظ ذلك الكلام وكأنما يُغزى في صدري. وكانت العرب تَلَوَّمُ بإسلامهم الفتح، فيقولون: اتركوه وقومه، فإنه إن ظهر عليهم فهو نبي صادق. فلما كانت وقعة أهل الفتح بادر كل قوم بإسلامهم وبدر أبي قومي بإسلامهم.... الحديث.
الثاني: قال الرازي: إذا حملنا الفتح على فتح مكة، فللناس في وقت النزول هذه السورة قولان:
أحدهما: أن فتح مكة كان سنة ثمان. ونزلت هذه السورة سنة عشر، وروي أنه "اش بعد نزول هذه السورة سبعين يوماً"؛ ولذلك سميت سورة التوديع.
ثانيهما: أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة، وهو وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينصره على أهل مكة وأن يفتحها عليه. ونظيره:
{ { إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ } [القصص: 85]، وقوله: { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } يقتضي الاستقبال؛ إذ لا يقال فيما وقع: { إِذَا جَاء } و: إذا وقع، وإذا صح القول صارت هذه الآية من جملة المعجزات؛ من حيث إنه خبر وجد مخبره بعد حين مطابقاً له؛ والإخبار عن الغيب معجزة. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري": ولأبي يعلى، من حديث ابن عمر: نزلت هذه السورة في أوسط أيام التشريق، في حجة الوداع "فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الوداع". ثم قال: وسئلت عن قول "الكشاف": أن سورة النصر نزلت في حجة الوداع أيام التشريق، فكيف صدرت بـ: إذا الدالة على الاستقبال؟ فأجبت بضعف ما نقله. وعلى تقدير صحته، فالشرط لم يتكمل بالفتح؛ لأن مجيء الناس أفواجاً لم يكن كمل، فبقية الشرط مستقبل.
وقد أورد الطيبي السؤال، وأجاب بجوابين:
أحدهما: أن إذا قد ترد بمعنى إذ كما في قوله تعالى:
{ { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً } [الجمعة: 11] الآية.
ثانيهما: أن كلام الله قديم. وفي كل من الجوابين نظر لا يخفى. انتهى كلامه.
الثالث: قال الشهاب: المراد بالناس العرب. فـ أل عهدية. أو المراد الاستغراق العرفيّ والمراد عبدة الأصنام منهم؛ لأن نصارى تغلب لم يسلموا في حياته صلى الله عليه وسلم وأعطوا الجزية.
الرابع: روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت:
"ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن نزلت عليه: { إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } إلا يقول فيها: سبحانك ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" .
وفيه عنها أيضاً: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربَّنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، يتأول القرآن" .
قال الحافظ ابن حجر: معنى يتأول القرآن، يجعل ما أمر به من التسبيح والتحميد والاستغفار، في أشرف الأوقات والأحوال.
وقال ابن القيم في "الهدى" كأنه أخذه من قوله تعالى: { وَاسْتَغْفِرْهُ } لأنه كان يجعل الاستغفار في خواتم الأمور؛ فيقول إذا سلم من الصلاة: "أستغفر الله" ثلاثاً. وإذا خرج من الخلاء قال: "غفرانك". وورد الأمر بالاستغفار عند انقضاء المناسك:
{ { ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ } [البقرة: 199] الآية.