التفاسير

< >
عرض

قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ
١
ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ
٢
لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ
٣
وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ
٤
-الاخلاص

محاسن التأويل

{ قُلْ هُوَ } أي: الخبر الحق المؤيد بالبرهان الذي لا يرتاب فيه، وهو ما يعبِّر عنه النحويون بالقصة أو الحديث أو الشأن. قال أبو السعود: ومدار وضعه موضعه، مع عدم سبق ذكره الإيذانُ بأنه من الشهرة والنباهة بحيث يستحضره كل أحد، وإليه يشير كل مشير، وإليه يعود كل ضمير { اللّهُ أحْدَ } أي: واحد في الألوهية والربوبية.
قال الزمخشري: { أَحَدٌ } بمعنى واحد. وقال ابن الأثير: الأحد في أسمائه تعالى الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر. والهمزة فيه بدل من الواو. وأصله: وحد؛ لأنه من الوحدة.
وفي "المصباح": يكون أحد مرادفاً لواحد في موضعين سماعاً: أحدهما: وصف اسم البارئ تعالى، فقال: هو الواحد وهو الأحد؛ لاختصاصه بالأحدية، فلا يشركه فيها غيره. ولهذا لا يُنعت به غير الله تعالى؛ فلا يقال: رجل أحد، ولا: درهم أحد، ونحو ذلك.
والموضع الثاني: أسماء العدد للغلبة وكثرة الاستعمال، فيقال: أحد وعشرون، وواحد وعشرون. وفي غير هذين يقع الفرق بينهما في الاستعمال، بأن الأحد لنفي ما يذكر معه، فلا يستعمل إلا في الجحد، لما فيه العموم، نحو: ما قام أحد. أو مضافاً نحو: ما قام أحد الثلاثة. و الواحد اسم لمفتتح العدد، ويستعمل في الإثبات، مضافاً وغير مضاف. فيقال: جاءني واحد من القوم. انتهى.
وقال الأزهري: الواحد من صفات الله تعالى، معناه أنه لا ثاني له، ويجوز أن ينعت الشيء بأنه واحد. فأما { أَحَدٌ } فلا ينعت به غير الله تعالى؛ لخلوص هذا الاسم الشريف له جل ثناؤه.
قال الإمام: ونكّر الخبر لأن المقصود أن يخبر عن الله بأنه واحد، لا بأنه لا واحد سواه. فإن الوحدة تكون لكل واحد، تقول: لا أحد في الدار، بمعنى لا واحد من الناس فيها. والذي كان يزعمه المخاط بون هو التعدد في ذاته، فأراد نفي ذلك بأنه أحد. وهو تقرير لخلاف ما يعتقد به أهل الأصلين من المجوس، وما يعتقده القائلون بالثلاثة، منهم ومن غيرهم. وسيأتي لابن تيمية كلام آخر في سر إيثاره بالتنكير.
{ اللَّهُ الصَّمَدُ } أي: الذي يُصمَد إليه في الحوائج، ويُقصد إليه في الرغائب. إذ ينتهي إليه منتهى السؤدد، قاله الغزاليّ في "المقصد الأسنى". وهكذا قال ابن جرير: الصمد عند العرب هو السيد الذي يصمد إليه، الذي لا أحد فوقه، وكذلك تسمى أشرافها. ومنه قول الشاعر:

ألا بَكََرَ النَّاعي بخَيْرَيْ أَسَدْ بعَمْرِو بن مسعودٍ وبالسَّيِّدِ الصَّمَدْ

قال الشهاب: فهو فَعَل بمعنى مفعول، وصمد بمعنى قصد. فيتعدى بنفسه وباللام وإلى.
وقال ابن تيميةرحمه الله : وفي الصمد للسلف أقوال متعددة، قد يظن أنها مختلفة وليست كذلك، بل كلها صواب والمشهور منها قولان:
أحدهما: أن الصمد هو الذي لا جوف له.
والثاني: أنه السيد الذي يُصمد إليه في الحوائج.
والأول هو قول أكثر السلف من الصحابة والتابعين وطائفة من أهل اللغة.
والثاني قول طائفة من السلف والخلف وجمهور اللغويين.
ثم توسعرحمه الله في مأخذ ذلك واشتقاقه والمأثور فيه، إلى أن قال: وإنما أدخل اللام في { الصَّمَدُ } ولم يدخلها في { أَحَدٌ } لأنه ليس في الموجودات ما يسمى أحداً في الإثبات مفرداً غير مضاف، ولم يوصف به شيء من الأعيان إلا الله وحده. وإنما يستعمل في غير الله في النفي وفي الإضافة وفي العدد المطلق، وأما اسم الصمد فقد استعمله أهل اللغة في حق المخلوقين، كما تقدم، فلم يقل: صمد، بل قال: { اللَّهُ الصَّمَدُ } فبين أنه المستحق لأن يكون هو الصمد دون ما سواه؛ فإنه المستوجب لغايته على الكمال، والمخلوق وإن كان صمداً من بعض الوجوه، فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه، فإنه يقبل التفرق والتجزئة، وهو أيضاً محتاج إلى غيره، فإن كل ما سوى الله محتاج إليه من كل وجه، فليس أحد يصمد إليه كلُّ شيء ولا يصمد هو على شيء إلا الله، وليس في المخلوقات إلا ما يقبل أن يتجزأ ويتفرق وينقسم وينفصل بعضه من بعض، والله سبحانه هو الصمد الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك، بل حقيقة الصمدية وكمالها له وحده واجبة لازمة، لا يمكن عدم صمديته بوجه من الوجوه، كما لا يمكن تثنية أحديته بوجه من الوجوه.
وقال أبو السعود: وتكرير الاسم الجليل للإشعار بأن من لم يتصف بذلك فهو بمعزل من استحقاق الألوهية. وتعرية الجملة على العاطف لأنها كالنتيجة للأولى، بيَّن أولاً ألوهيته عزَّ وجلّ المستتبعة لكافة نعوت الكمال، ثم أحديته الموجبة تنزهه عن شائبة التعدد والتركيب بوجه من الوجوه، وتوهم المشاركة في الحقيقة وخواصها، ثم صمديته المقتضية لاستغنائه الذاتيّ عما سواه، وافتقار جميع المخلوقات إليه في وجودها وبقائها وسائر أحوالها؛ تحقيقاً للحق وإرشاداً لهم إلى سننه الواضح، ثم صرح ببعض ما يندرج فيما تقدم، بقوله سبحانه: { لَمْ يَلِدْ } نصيباً على إبطال زعم المفترين في حق الملائكة والمسيح؛ ولذلك ورد النفي على صيغة الماضي، أي: لم يصدر عنه ولد؛ لأنه لا يجانسه شيء ليمكن أن يكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا، كما نطق به قوله تعالى:
{ { أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ } [الأنعام: 101]، ولا يفتقر إلى ما يعينه أو يخلفه؛ لاستحالة الحاجة والفناء عليه سبحانه. انتهى.
وقال ابن تيمية: وقد شمل ما أخبر به سبحانه من تنزيهه وتقديسه عما أضافوه إليه من الولادة كلَّ أفرادها، سواء سموها حسية أو عقلية، كما تزعمه الفلاسفة الصابئون من تولد العقول العشرة والنفوس الفلكية التسعة التي هم مضطربون فيها، هل هي جواهر أو أعراض؟ وقد يجعلون العقول بمنزلة الذكور والنفوسَ بمنزلة الإناث، ويجعلون ذلك آباءهم وأمهاتهم وآلهتهم وأربابهم القريبة، وذلك شبيه بقول مشركي العرب وغيرهم، الذين جعلوا له بنين وبنات، قال تعالى:
{ { وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاءٍَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ } [الأنعام: 100]، وقال تعالى: { { أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [الصافات: 151 - 152]، وكانوا يقولون: الملائكة بنات الله. كما يزعم هؤلاء أن النفوس هي الملائكة، وهي متولدة عن الله، فقال تعالى: { { وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ } [النحل: 57]، والآيات في هذا كثيرة.
وقوله:
{ وَلَمْ يُولَدْ } نفي لإحاطة النسب من جميع الجهات، فهو الأول الذي لم يتقدمه والد كان منه، وهو الآخر الذي لم يتأخر عنه ولد يكون عنه. قال الإمام: قوله { وَلَمْ يُولَدْ } يصرح ببطلان ما يزعمه بعض أرباب الأديان من أن ابناً لله يكون إلهاً، ويُعبد عبادة الإله، ويُقصد فيه الإله، بل لا يَستحي الغالون منهم أن يعبِّروا عن والدته بأم الإله القادرة؛ فإن المولود حادث ولا يكون إلا بمزاج، وهو لا يسلم من عاقبة الفناء، ودعوى أنه أزلي مع أبيه، مما لا يمكن تعقلهُ؛ فهو سبحانه منزَّه عن ذلك.
{ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } أي: ولم يكن أحد يكافئه أي: يماثله من صاحبة أو غيرها. وقال الإمام: الكفؤ معناه المكافئ والمماثل في العمل والقدرة. وهو نفي لما يعتقده بعض الوثنيين في الشيطان مثلاً. فقد نفى بهذه السورة جميع أنواع الشرك، وقرَّر جميع أصول التوحيد والتنزيه. وقال ابن جرير: الكفؤ والكفئ والكفاء في كلام العرب واحد، وهو المثل والشبه.
وقرئ: { كُفُواً } بضم الكاف والفاء وقلب الهمزة واواً. وقرئ بتسكين الفاء وهمزها، وهما قراءتان معروفتان، ولغتان مشهورتان. و { لَّهُ } صلة لـ: { كُفُواً } قدمت عليه، مع أن حقها التأخر عنه؛ للاهتمام بها، لأن المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى. وأما تأخير اسم كان فلمراعاة الفواصل.
فوائد من هذه السورة:
الأولى: قال الشهاب: فإن قلت المأمور: { قُلُ } من شأنه إذا امتثل أن يتلفظ بالمقول وحده، فلِم كانت { قُلْ } من المتلوّ فيه وفي نظائره في القراءة؟ قلت: المأمور به سواء كان معيناً أم لا، مأمور بالإقرار بالمقول، فأثبت القول ليدل على إيجاب مقوله ولزوم الإقرار به على مرّ الدهور.
الثانية: قال الإمام ابن تيمية: احتج بقوله تعالى: { اللَّهُ الصَّمَدُ } من أهل الكلام المحدث من يقول: الرب- تعالى- جسم. كبعض الذين وافقوا هشام بن الحكم ومحمد بن كرام وغيرهما، قالوا: هو صمد، والصمد الذي لا جوف له. وهذا إنما يكون في الأجسام المصمتة، فإنها لا جوف لها، كما في الجبال والصخور وما يصنع من عواميد الحجارة؛ ولهذا قيل في تفسيره: إنه الذي لا يخرج منه شيء ولا يدخل فيه شيء ولا يأكل ولا يشرب. ونفي هذا لا يعقل إلا عما هو جسم.
وقالوا: أصل الصمد: الاجتماع، ومنه تصميد المال. وهذا إنما يعقل في الجسم المجتمع. وأما النفاة فقالوا: الصمد الذي لا يجوز عليه التفرق والانقسام، وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والانقسام.
وقالوا أيضاً: الأحد الذي لا يقبل التجزؤ والانقسام. وكل جسم في العالم يجوز عليه التفرق والتجزؤ والانقسام. وقالوا: إذا قلتم: هو جسم كان مركباً مؤلفاً من الجواهر الفردة أو من المادة والصورة. وما كان مركباً مؤلفاً من غيره كان مفتقراً إليه، وهو سبحانه صمد، والصمد الغني عمن سواه، فالمركب لا يكون صمداً. انتهى.
وقال الرازي: قد استدل القوم من جهَّال المشبهة بهذه الآية في أنه تعالى جسم، وهذا باطل لأنا بينا أن كونه أحداً ينافي كونه جسماً. فمقدمة هذه الآية دالة على أنه لا يمكن أن يكون المراد من الصمد هذا المعنى، ولأن الصمد بهذا التفسير صفة الأجسام المتضاغظة، وتعالى الله عن ذلك. فإذن يجب أن يحمل ذلك على مجازه؛ وذلك لأن الجسم الذي يكون كذلك، يكون عديم الانفعال والتأثر عن الغير، وذلك إشارة إلى كونه سبحانه واجباً لذاته ممتنع التغير في وجوده وبقائه وجميع صفاته. انتهى.
وأقول: التصحيح في تأويل الصمد ما ذكرناه أولاً، وهو ما حكاه ابن جرير وغيره عن العرب في معناه. وإذا تحقق هذا، فلا يعول على هذا الثاني ولا لوازمه.
الثالثة: قال ابن تيمية: كما يجب تنزيه الرب عن كل نقص وعيب، يجب أن تنزيهه عن أن يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفات الكمال الثابتة له، وهذان النوعان يجمعان التنزيه الواجب لله، وهذه السورة دلت على النوعين، فقوله: { أَحَدٌ } من قوله: { وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } ينفي المماثلة والمشاركة. وقوله: صمد يتضمن جميع صفات الكمال، فالنقائص جنسُها منفيٌّ عن الله تعالى، وكل ما اختص به المخلوق فهو من النقائص التي يجب تنزيه الرب عنها. بخلاف ما يوصف به الرب، ويوصف العبد بما يليق به مثل العلم والقدرة والرحمة ونحو ذلك، فإن هذه ليست نقائص بل ما ثبت لله من هذه المعاني، فإنه يثبت لله على وجه لا يقاربه فيه أحد من المخلوقات، فضلاً عن أن يماثله فيه، بل ما خلقه الله في الجنة من المآكل والمشارب والملابس لا يماثل ما خلقه في الدنيا وإن اتفقا في الاسم، فكلاهما مخلوق. فالخالق تعالى أبعد في مماثلة المخلوقات من المخلوقات إلى المخلوق. وقد سمَّى الله نفسَه عليماً حليماً رؤوفاً رحيماً سميعاً بصيراً عزيزاً ملِكاً جباراً متكبراً، وسمَّى أيضا بعض مخلوقاته بهذه الأسماء، مع العلم أنه ليس المسمى بهذه الأسماء من المخلوقين مماثلاً للخالق جلَّ جلاله في شيء من الأشياء.
الرابعة: قدمنا ما ورد في الحديث من أن "سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن".
وقد ذكروا في ذلك وجوها، منها ما قاله أبو العباس بن سريج: أن القرآن أنزل على ثلاثة أقسام: ثلث منها للأحكام، وثلث منها وعد ووعيد، وثلث منها الأسماء والصفات. وهذه السورة جمعت الأسماء والصفات. وقال الغزالي في "جواهر القرآن": مهمات القرآن هي معرفة الله ومعرفة الآخرة ومعرفة الصراط المستقيم، فهذه المعارف الثلاثة هي المهمة، والباقي توابع. وسورة الإخلاص تشتمل على واحدة من الثلاث، وهي معرفة الله، وتقديسه وتوحيده عن مشارك في الجنس والنوع. وهو المراد بنفي الأصل والفرع والكفؤ.
قال: والوصف بالصمد يشعِر بأنه السيد الذي لا يقصد في الوجود للحوائج سواه. نعم، ليس فيها حديث الآخرة والصراط المستقيم، فلذلك تعدل ثلث القرآن، أي: ثلث الأصول من القرآن كما قال:
"الحج عرفة" أي: هو الأصل والباقي تبعٌ.
وقال ابن القيم في "زاد المعاد": "كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في سنة الفجر والوتر بسورتي الإخلاص والكافرون" وهما الجامعتان لتوحيد العلم والعمل، وتوحيد المعرفة والإرادة، وتوحيد الاعتقاد والقصد؛ فسورة الإخلاص متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباته للرب تعالى من الأحدية المنافية لمطلق الشرِكة بوجه من الوجوه. والصمدية المثبتة له جميعَ صفات الكمال الذي لا يلحقه نقصٌ بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد الذي هو من لازم الصمدية وغناه وأحديته، ونفي الكفؤ المتضمن لنفي الشبيه والمثيل والنظير، فتضمنت هذه السورة إثبات كلَّ كمال له، ونفي كل نقص عنه، ونفي إثبات شبيه أو مثل له في كماله ونفي مطلق الشريك عنه، وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي الذي يباين صاحبه جميع فرق الضلال والشرك؛ ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن، فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء، والإنشاء ثلاثة: أمر، ونهي، وإباحة. والخبر نوعان: خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه، وخبر عن خلقه؛ فأخلصت سورة الإخلاص الخبر عنه وعن أسمائه وصفاته فعدلت ثلث القرآن، وخلَّصت قارئها المؤمن من الشرك العلمي، كما خلّصت سورة { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } من الشرك العملي الإرادي القصدي. ولما كان العلم قبل العمل وهو إمامه وقائده وسائقه والحاكم عليه ومنزِلُه منازله، كانت سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تعدل ثلث القرآن، والأحاديث بذلك تكاد تبلغ مبلغَ التواتر، و { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } تعدل ربع القرآن، وفي الترمذي: من رواية ابن عباس رضي الله عنهما، يرفعه:
"{ إِذَا زُلْزِلَتِ } تعدل نصف القرآن و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } تعدل ثلث القرآن و { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } تعدل ربع القرآن" رواه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد. ولما كان الشرك العملي الإرادي أغلب على النفوس لأجل متابعتها هواها، وكثير منها ترتكبه مع علمها بمضرته وبطلانه، لِما لها فيه من نيل الأغراض، وإزالته وقلعه منها أصعب وأشد من قلع الشرك العلمي وإزالته؛ لأن هذا يزول بالعلم والحجة، ولا يمكن صاحبه أن يعلم الشيء على غير ما هو عليه، بخلاف شرك الإرادة والقصد، فإن صاحبه يرتكب ما يدله العلم على بطلانه وضرره لأجل غلبة هواه واستيلاء سلطن الشهوة والغضب على نفسه؛ فجاء من التأكيد والتكرار في سورة: { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } المتضمنة لإزالت الشرك العملي ما يجيء مثله في سورة: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ }
ولمّا كان القرآن شطرين: شطراً في الدنيا وأحكامها ومتعلقاتها والأمور الواقعة فيها من أفعال المكلفين وغيرها، وشطراً في الآخرة وما يقع فيها، وكانت سورة { إِذَا زُلْزِلَتِ } قد أخلصت من أولها وأخرها لهذا الشطر، فلم يذكر إلا الآخرة، وما يكون من أحوال الأرض وسكانها، كانت تعدل نصف القرآن فأحْرِ بهذا الحديث أن يكون صحيحاً. والله أعلم.
الخامسة: قال ابن تيمية: سورة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ } أكثرهم على أنها مكية، وقد ذكر في أسباب نزولها سؤال المشركين بمكة، وسؤال الكفار من أهل الكتاب اليهود بالمدينة، ولا منافاة؛ فإن الله أنزلها بمكة أولا، ثم لما سئل نحو ذلك أنزلها مرة أخرى، وهذا مما ذكر طائفة من العلماء. وقالوا: إن الآية أو السورة قد تنزل مرتين وأكثر من ذلك؛ فما يذكر من أسباب النزول المتعددة قد يكون جميعه حقّاً، والمراد بذلك أنه إذا حدث سبب يناسبها، نزل جبريل فقرأها عليه، ليعلمه أنها تتضمن جواب ذلك السبب، وإن كان الرسول يحفظها قبل ذلك. انتهى.
وقد تقدم في مقدمة هذا التفسير ومواضع أُخَر منه تحقيق البحث في معنى النزول بما يدفع المنافاة في أمثال هذا، فراجعه.
ولهذه السورة الشريفة تفاسير على حدة، من أمثلها كتابان لشيخ الإسلام ابن تيمية: أحدهما في تفسيرها، والثاني في سر كونها تعدل ثلث القرآن، فاحتفظ بهما. والله الهادي.