التفاسير

< >
عرض

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ
١
مِن شَرِّ مَا خَلَقَ
٢
وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ
٣
وَمِن شَرِّ ٱلنَّفَّاثَاتِ فِي ٱلْعُقَدِ
٤
وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ
٥
-الفلق

محاسن التأويل

{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ } أي: ألوذ به وألتجئ إليه. والفلق فعل بمعنى المفعول، كقصَص بمعنى مقصوص.
قال ابن تيمية: كلُّ ما فلقَه الربُّ فهو فلق. قال الحسن: الفلق كل ما انفلق عن شيء كالصبح والحَب والنَّوى. قال الزجاج: وإذا تأملت الخلق بان لك أن أكثره عن انفلاق كالأرض بالنبات والسحاب بالمطر. وقد قال كثير من المفسرين: الفلق الصبح، فإنه يقال: هذا أبين من فلق الصبح وفرق الصبح.
وقال بعضهم: الفلق الخلق كله، وأما من قال: إنه وادٍ في جهنم أو شجرة في جهنم، أو: إنه اسم من أسماء جهنم، فهذا أمر لا نعرف صحته، لا بدلالة الاسم عليه، ولا بنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا في تخصيص ربوبيته بذلك حكمة، بخلاف ما إذا قال: رب الخلق أو رب كلِّ ما انفلق أو رب النور الذي يظهره على العباد بالنهار، فإن في تخصيصه هذا بالذكر. ما يظهر به عظمة الرب المستعاذ به. انتهى
وقوله تعالى: { مِن شَرِّ مَا خَلَقَ } أي: من شر ما خلقه من الثقلين وغيرهم. كائناً ما كان من ذوات الطبائع والاختيار.
وقوله سبحانه: { وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } قال أبو السعود: تخصيص لبعض الشرور بالذِّكر، مع اندراجه فيما قبله لزيادة مساس الحاجة إلى الاستعاذة، وأدعى إلى الإعاذة. وقال الإمام ابن تيمية: وإذا قيل: الفلق يعمُّ ويخص، فبعمومه استعيذ من شر ما خلق، وبخصوصه للنور النهاريّ استعيذ من شر غاسق إذا وقب؛ فإن الغاسق قد فسر بالليل كقوله:
{ { أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ } [الإسراء: 78]، وهذا قول أكثر المفسرين، وأهل اللغة قالوا: ومعنى { وَقَبَ } دخل في كل شيء. قال الزجاج: الغاسق البارد. وقيل لليل: غاسق؛ لأنه أبرد من النهار. وقد روى الترمذي والنسائي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال: "يا عائشة ! تعوَّذي بالله من شره، فإنه الغاسق إذا وقب" . وروي من حديث أبي هريرة مرفوعاً: "الغاسق النجم" . وقال ابن زيد: هو الثريا، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها وترتفع عند طلوعها. وهذا المرفوع قد ظن بعض الناس منافاته لمن فسره بالليل فجعلوه قولاً آخر، ثم فسروا وقوبه بسكونه. قال ابن قتيبة: ويقال: الغاسق القمر إذا كسف واسودَّ. ومعنى وقب دخل في الكسوف. وهذا ضعيف فإن ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعارض بقول غيره، وهو لا يقول إلا الحق، وهو لم يأمر عائشة بالاستعاذة منه عند كسوفه بل مع ظهوره. وقد قال الله تعالى: { { وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً } [الإسراء: 12]، فالقمر آية الليل، وكذلك النجوم إنما تطلع فترى بالليل؛ فأمره بالاستعاذة من ذلك أمرٌ بالاستعاذة من آية الليل ودليله وعلامته. والدليل مستلزم للمدلول. فإذا كان شر القمر موجوداً، فشر الليل موجود، وللقمر من التأثير ما ليس لغيره. فتكون الاستعاذة من الشر الحاصل عنه أقوى، ويكون هذا كقوله عن المسجد المؤسس على التقوى: "هو مسجدي" هذا مع أن الآية تتناول مسجد قباء قطعاً، وكذلك قوله عن أهل الكساء: "هؤلاء أهل بيتي" مع أن القرآن يتناول نساءه؛ فالتخصيص لكونه المخصوص أولى بالوصف؛ فالقمر أحق ما يكون بالاستعاذة، والليل مظلم منتشر فيه شياطين الإنس والجن مالا تنتشر بالنهار، ويجري فيه من أنواع الشر ما لا يجري بالنهار من أنواع الكفر والفسوق والعصيان والسرقة والخيانة والفواحش وغير ذلك؛ فالشر دائماً مقرون بالظلمة. ولهذا إنما جعله الله لسكون الآدميين وراحتهم، لكن شياطين الإنس والجن تفعل فيه من الشر ما لا يمكنها فعله بالنهار، ويتوسلون بالقمر وبدعوته وعبادته، وأبو معشر البلخيّ له "مصحف القمر" يذكر فيه من الكفريات والسِّحريات ما يناسب الاستعاذة منه. انتهى كلام ابن تيميةرحمه الله .
ثم خص تعالى مخلوقات أُخَر بالاستعاذة من شرها، لظهور ضررها وعسر الاحتياط منها؛ فلا بد من الفزع إلى الله والاستنجاد بقدرته الشاملة على دفع شرها، فقال سبحانه: { وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ } قال ابن جرير: أي: ومن شر السواحر اللاتي ينفثن في عُقد الخيط حين يَرقين عليها، وبه قال أهل التأويل، فعن مجاهد: الرقي في عقد الخيط. وعن طاوس: ما من شيء أقرب إلى الشرك من رقية المجانين، ومثله عن قتادة والحسن. وقال الزمخشري: النفاثات النساء أو الجماعات السواحر اللاتي يعقدن عقداً في خيوط ويَنفثن عليها ويرقين. والنفث: النفخ مع ريق، ولا تأثير لذلك، اللهم إلا إذا كان ثَمَّ إطعام شيء ضار أو سقيه أو إشمامه، أو مباشرة المسحور به على بعض الوجوه، ولكن الله عز وجل قد يفعل عند ذلك فعلاً على سبيل الامتحان الذي يتميز به الثبت على الحق من الحشوية والجهلة من العوام، فينسبه الحشوية والرّعاع إليهن وإلى نفثهن. والثابتون بالقول الثابت لا يلتفتون إلى ذلك ولا يعبؤون به.
فإن قلت: فما معنى الاستعاذة من شرهن؟ قلت: فيها ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يستعاذ من عملهن الذي هو صنعة السحر، ومن إثمهن في ذلك.
والثاني: أن يستعاذ من فتنتهن الناس بسحرهن وما يخدعنهم به من باطلهن.
الثالث: أن يستعاذ مما يصيب الله به من الشر عند نفثهن. انتهى.
وفي الآية تأويل آخر، وهو اختيار أبي مسلمرحمه الله ، قال: النفاثات النساء، والعقد عزائم الرجال وآراؤهم، مستعار من عقد الحبال، والنفث وهو تليين العقدة من الحبل بريق يقذفه عليه ليصير حبلهُ سهلاً. فمعنى الآية: أن النساء لأجل كثرة حبِّهن في قلوب الرجال يتصرفن في الرجال يحولنهم من رأي إلى رأي ومن عزيمة إلى عزيمة؛ فأمر الله رسوله بالتعوذ من شرهن. كقوله:
{ { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } [التغابن: 14]، فكذلك عظم الله كيدهن فقال: { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } [يوسف: 28].
تنبيه:
قال الشهاب: نقل في "التأويلات" عن أبي بكر الأصم أنه قال: إن حديث "سحره صلوات الله عليه"، المروي هنا، متروك لِما يلزم من قول الكفرة أنه مسحور. وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه. ونقل الرازي عن القاضي أنه قال: هذه الرواية باطلة، وكيف يمكن القول بصحتها، والله تعالى يقول:
{ { وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ } [المائدة: 67] وقال: { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [طه: 69] ولأن تجويزه يفضي إلى القدح في النبوة؛ ولأنه لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى ضرر جميع الأنبياء والصالحين، ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم، وكلُّ ذلك باطلٌ، ولكان الكفار يعيرونه بأنه مسحور. فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوة، ولحصل فيه - عليه السلام - ذلك العيب. ومعلوم أن ذلك غير جائز. انتهى. ولا غرابة في أن لا يقبل هذا الخبر لما برهن عليه، وإن كان مخرَّجاً في الصحاح؛ وذلك لأنه ليس كل مخرج فيها سالماً من النقد، سنداً أو معنى، كما يعرفوه الراسخون. على أن المناقشة في خبر الآحاد معروفة من عهد الصحابة. قال الإمام الغزالي في "المستصفى": ما من أحد من الصحابة إلا وقد ردَّ خبر الواحد، كردِّ عليٍّ رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعي في قصة بروع بنت واشق، وقد ظهر منه أنه كان يحلف على الحديث. وكردِّ عائشة خبر ابن عمر في "تعذيب الميت ببكاء أهله عليه"، وظهر من عمر نهيه لأبي موسى وأبي هريرة عن الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمثال ذلك مما ذكر. أورد الغزالي ذلك في مباحث: خبر الآحاد في معرفة شبه المخالفين فيه، وذكررحمه الله في مباحث الإجماع إجماعَ الصحابة على تجويز الخلاف للآحاد، لأدلة ظاهرة قامت عندهم.
وقال الإمام ابن تيمية في "المسودة": الصواب أن من رد الخبر الصحيح كما كانت الصحابة ترده، لاعتقاده غلط الناقل أو كذبه، لاعتقاد الراد أن الدليل قد دل على أن الرسول لا يقول هذا، فإن هذا لا يكفر ولا يفسق، وإن لم يكن اعتقاده مطابقاً، فقد رد غير واحد من الصحابة غير واحد من الأخبار التي هي صحيحة عند أهل الحديث. انتهى
وقال العلامة الفناري في "فصول البدائع": ولا يضلل جاحد الآحاد، والمسألة معروفة في الأصول، وإنما توسعت في نقولها لأني رأيت من متعصبة أهل الرأي مَن أكبر ردَّ خبر رواه مثل البخاري، وضلل منكره؛ فعلمت أن هذا من الجهل بفنِّ الأصول، لا بأصول مذهبه، كما رأيت عن الفناري. ثم قلت: العهد بأهل الرأي أن لا يقيموا للبخاري وزناً، وقد ردوا المئين من مروياته بالتأويل والنسخ، فمتى صادقوه حتى يضللوا من رد خبراً فيه؟ وقد برهن على مدعاه. وقام يدافع عن رسول الله ومصطفاه.
وبعد، فالبحث في هذا الحديث شهير قديماً وحديثاً، وقد أوسع المقال فيه شراح " الصحيح " وابن قتيبة في شرح "تأويل مختلف الحديث" والرازي. والحق لا يخفى على طالبه. والله أعلم.
{ وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ } قال الزمخشري: أي: إذا أظهر حسده وعمل بمقتضاه من بغي الغوائل للمحسود. لأنه إذا لم يظهر أثر ما أضمره، فلا ضرر يعود منه على حسده بل هو الضار لنفسه، لاغتمامه بسرور غيره.