التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي يُرِيكُمُ ٱلْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ ٱلسَّحَابَ ٱلثِّقَالَ
١٢
وَيُسَبِّحُ ٱلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَٱلْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ ٱلصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَٰدِلُونَ فِي ٱللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ ٱلْمِحَالِ
١٣
-الرعد

محاسن التأويل

{ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً } أي: من الصواعق: { وَطَمَعاً } أي: المطر أن يحيي النبات: { وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ } أي: الماء.
{ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ } أي: يسبح سامعوه من العباد الراجين للمطر متلبسين بحمده، أي: يضجون بـ ( سبحان الله والحمد لله ) فيكون على حذف مضاف أو إسناداً مجازياً للحامل والسبب، أو يسبح الرعد نفسه، بمعنى دلالته على وحدانيته تعالى وفضله، المستوجب لحمده. فيكون الإسناد على حقيقته والتجوز في التسبيح والتحميد. إذ شبه دلالته بنفسه على تنزيهه عن الشرك والعجز بالتسبيح والتنزيه اللفظي. ودلالته على فضله ورحمته، بحمد الحامد لما فيها من الدلالة على صفات الكمال.
قال الرازي: الرعد اسم لهذا الصوت المخصوص. والتسبيح والتقديس وما يجري مجراهما ليس إلا وجود لفظ يدل على حصول التنزيه والتقديس لله سبحانه وتعالى. فلما كان حدوث هذا الصوت دليلاً على وجود متعال عن النقص والإمكان؛ كان ذلك في الحقيقة تسبيحاً وهو معنى قوله تعالى:
{ { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [الإسراء: 44].
{ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } أي: وتسبح الملائكة من خوف الله تعالى وخشيته وإجلاله: { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ } أي: فيهلك بها من يشاء. وقوله تعالى: { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ } يعني الكفرة المخاطبين في قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ } وقد التفت إلى الغيبة؛ إيذاناً بإسقاطهم عن درجة الخطاب وإعراضاً عنهم، وتعديداً لجناياتهم لدى كل من يستحق الخطاب. كأنه قيل: هو الذي يفعل أمثال هذه الأفاعيل العجيبة، من إراءة البرق، وإنشاء السحاب الثقال، وإرسال الصواعق الدالة على كمال علمه وقدرته، ويعقلها من يعقلها من المؤمنين، أو الرعد نفسه، والملائكة. ويعملون بموجب ذلك من التسبيح والحمد والخوف من هيبته تعالى و ( هم ) أي: الكفرة الذين حكيت هناتهم مع ذلهم وهوانهم وحقارة شأنهم، يجادلون في شأنه تعالى، بإنكار البعث واستعجال العذاب، استهزاء واقتراح الآيات. قالوا: ولعطف الجملة على ما قبلها من قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ }. أفاده أبو السعود.
أي: يريكم ما ذكر من الآيات الباهرة الدالة على القدرة والوحدانية. وأنتم تجادلون فيه، و ( الجدال ) أشد الخصومة، من ( الجدال ) بالسكون، وهو فتل الحبل ونحوه؛ لأنه يقوى به وتشتد طاقته { وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } أي: والحال أنه شديد المماحلة والمماكرة والمكايدة لأعدائه، يأتيهم بالهلكة من حيث لا يحتسبون من ( محله ) إذا كاده وعرَّضه للهلاك، ومنه ( تمحّل لكذا ) إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه.
تنبيه
ذكر في العلم الطبيعي: أن الصواعق شرارات تنطلق دفعة واحدة من تموجات السحب ومصادمتها لبعضها؛ فيحصل في الهواء اهتزاز قوي. وأما الرعد فهو الصوت الذي يحصل من ذلك الانطلاق ويصل إلينا ببطء على حسب بعد السحب الحاملة للصواعق عنا. وعلى حسب اتساع السحب يطول سماعنا لصوت الرعد. وإذا لمع البرق من السحابة، فقد تمت نتائج الصاعقة، فمتى مضت برهة لطيفة بين لمعان البرق وسماع الرعد، فقد أُمن ضررها. فإن لم يمض بينهما شيء، بأن كان الإنسان قريباً من محل الصاعقة وسمع الرعد مع مشاهدة البرق في آن واحد؛ أمكن أن يصاب بالصاعقة في مرورها. وأما سبب انفجار الصاعقة فقالوا: من المعلوم أن انطلاق الكهربائية إنما يحصل باتحاد كهربائية الأجسام مع بعضها، فإذا قرب السحاب من الأجسام الأرضية طلبت الكهربائية السحابية أن تتحد بالكهربائية الأرضية فتنبجس بينهما شرارة كهربائية هي البرق. وحينئذ يقال: إن الأجسام الأرضية صعقت. هذا مجمل ما قالوه.
وقد حاول الرازي الجمع بين ما روي عن بعض السلف: أن الرعد ملك، وبين ما ثبت في العلم الطبيعي بما يدفع المنافاة فقال: اعلم أن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية، فللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره. وكذا القول في الرياح وفي سائر الآثار العلوية. قال: وهذا عين ما نقلناه من أن الرعد اسم ملك من الملائكة يسبح الله، فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء. فكيف يليق بالعاقل الإنكار؟! انتهى.