التفاسير

< >
عرض

وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ
١٢٦
-النحل

محاسن التأويل

{ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ } أي: الزموا سيرة العدالة، لا تجاوزوها. فإنها أقل درجات كمالكم. فإن كان لكم قدم في الفتوة، وعرق راسخ في الفضل والكرم والمروءة؛ فاتركوا الانتصار والانتقام ممن جنى عليكم، وعارضوه بالعفو مع القدرة، واصبروا على الجناية، فإنه: { لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ } ألا تراه كيف أكده بالقسم واللام في جوابه، وترك المضمر إلى المظهر حيث ما قال: ( لَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) بل قال: { لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ } للتسجيل عليهم بالمدح والتعظيم بصفة الصبر. فإن الصابر ترقى عن مقام النفس وقابل فعل نفس صاحبه بصفة القلب. فلم يتكدر بظهور صفة النفس. وعارض ظلمة نفس صاحبه بنور قلبه. فكثيراً ما يندم ويتجاوز عن مقام النفس. وتنكسر سورة غضبه فيصلح. وإن لم يكن لكم هذا المقام الشريف، فلا تعاقبوا المسيء بسورة الغضب بأكثر مما جنى عليكم فتظلموا، أو تتورطوا بأقبح الرذائل وأفحشها، فيفسد حالكم ويزيد وبالكم على وبال الجاني. أفاده القاشانِيِّ.
تنبيهات
الأول: في " الإكليل ": قال ابن العربي: في الآية جواز المماثلة في القصاص خلافاً لمن قال: لا قود إلا بالسيف. ويستدل بها لمسألة الظفر، كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن سيرين والنخعي؛ أنهما استدلا بها عليها. ولفظ النَّخَعِي: سئل عن الرجل يخون الرجل ثم يقع له في يده الدراهم؟ قال: إن شاء ذهب من دراهمه بمثل ما خانه. ثم قرأ هذه الآية. ولفظ ابن سيرين: إن أخذ منكم رجل شيئاً، فخذوا مثله.
قال ابن كثير: وكذا قال مجاهد وإبراهيم والحسن البصري وغيرهم، واختاره ابن جرير. فعمومها يشمل العدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق.
الثاني: قال محمد بن إسحاق عن بعض أصحابه، عن عطاء بن يسار قال: نزلت سورة النحل كلها بمكة. وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة بعد أحد، حين قتل حمزة رضي الله عنه ومُثِّلَ به. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم " . فلما سمع المسلمون ذلك قالوا: والله! لئن أظهرنا الله عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط. فأنزل الله الآية هذه، إلى آخر السورة.
قال الحافظ ابن كثير: هذا مرسل وفيه مبهم لم يسم. ورواه الحافظ البزار من وجه آخر موصولاً عن أبي هريرة رضي الله عنه؛
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، حين استشهد، فنظر إلى منظر لم ينظر أوجع للقلب منه، وقد مُثِّلَ به. فقال: رحمة الله عليك. إن كنتَ لما علمتُ، لوصولاً للرحم، فعولاً للخيرات. والله لولا حزنٌ من بعدك عليك، لسرَّني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع. ( أو كلمة نحوها ). أما والله! على ذلك لأمثلن بسبعين كمثلتك " . فنزلت هذه الآية. فكفَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني عن يمينه، وأمسك عن ذلك.
قال ابن كثير: وهذا إسناد فيه ضعف؛ لأن صالحاً ( أحد رواته ) هو ابن بشير المريِّ، ضعيف عند الأئمة. وقال البخاري: هو منكر الحديث. وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في مسند أبيه عن أُبَيِّ بن كعب، قال: لما كان يوم أحد قتل من الأنصار ستون رجلاً ومن المهاجرين ستة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لئن كان لنا يوم مثل هذا من المشركين لنمثلن بهم. فلما كان يوم الفتح قال رجل: لا تعرف قريش بعد اليوم. فنادى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمَّنَ الأسود والأبيض إلا فلاناً وفلاناً - ناساً سماهم - فنزلت الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" نصبر ولا نعاقب " .
أقول: بمعرفة ما قدمنا من معنى سبب النزول - في مقدمة التفسير - يعلم أن لا حاجة إلى الذهاب إلى أنها مدنية ألحقت بالسورة؛ ولا إلى ما روي من هذه الآثار؛ إذ به يتضح عدم التنافي، والتقاء الآثار مع الآية فتذكَّره.
الثالث: قال ابن كثير: هذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن، فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل، كما في قوله تعالى:
{ { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } [الشورى: 40]. ثم قال: { { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ } [الشورى: 40] الآية. وقال: { { وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ } [المائدة: 45] ثم قال: { { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } [المائدة: 45] انتهى.
ثم أكد تعالى الأمر بالصبر، ليقوي الثبات والاحتمال، لكل ما يلاقيه في سبيل الحق، بقوله:
{ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ... }.