التفاسير

< >
عرض

وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً
١٣
ٱقْرَأْ كِتَٰبَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً
١٤
مَّنِ ٱهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً
١٥
-الإسراء

محاسن التأويل

{ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } أي: ألزمناه عمله الصادر منه باختياره خيراً وشراً، بحيث لا يفارقه أبداً. بل يلزمه لزوم الطوق في العنق، لا ينفك عنه بحال.
قال الطبري: المعنى: وكل إنسان ألزمناه ما قضي أنه عامله، وهو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله، في عنقه لا يفارقه. وإنما قوله: { أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } مثل لما كانت العرب تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها.
وذلك أن العرب كانوا إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال؛ وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شر، اعتبروا أحوال الطير: وهو أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى إزعاجه. وإذا طار فهل يطير متيامناً أو متياسراً أو صاعداً إلى الجو، إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها، ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة، فلما كثر ذلك منهم، سمي الخير والشر بالطائر، تسمية للشيء باسم لازمه.
قال الطبري: فأعلمهم جل ثناؤه أن كل إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره في عنقه، نحساً كان ذلك الذي ألزمه من الطائر وشقاء يورده سعيراً، أو كان سعداً يورده جنان عدن. وإنما أضيف إلى العنق ولم يضف إلى اليد أو غيرها من أعضاء الجسد، قيل: لأن العنق هو موضع السمات وموضع القلائد والأطوقة وغير ذلك مما يزين أو يشين، فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة ببني آدم وغيرهم من ذلك، إلى أعناقهم. وكثر استعمالهم ذلك حتى أضافوا الأشياء اللازمة سائر الأبدان إلى الأعناق. كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد، فقالوا: ذلك بما كسبت يداه. وإن كان الذي جر عليه لسانه أو فرجه. فكذلك قوله: { أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } وحاصله: - كما قاله الرازي - أن قوله: { في عُنُقِهِ } كناية عن اللزوم. كما يقال: ( جعلت هذا في عنقك ) أي: قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به. ويقال: ( قلدتك كذا وطوقتك كذا ) أي: صرفته إليك وألزمته إياك. ومنه ( قلده السلطان كذا ) أي: صارت الولاية، في لزومها له، في موضع القلادة ومكان الطوق. ومنه يقال ( فلان يقلد فلاناً ) أي: يجعل ذلك الاعتقاد كالقلادة المربوطة على عنقه. وقوله تعالى: { وَنُخْرِجُ لَهُ } أي: نظهر له: { يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي: البعث للجزاء على الأعمال: { كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً } أي: يجده مفتوحاً فيه حسناته وسيئاته. ويقال له: { اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } أي: شهيداً بما عملت.
قال القاشاني: { كِتَاباً } هيكلاً مصوراً يصور أعماله: { يَلْقَاهُ مَنشُوراً } لظهور تلك الهيئات فيه بالفعل مفصلة، لا مطوياً كما كان عند كونها فيه بالقوة. يقال له: { اقْرَأْ كَتَابَكَ } أي: اقرأه قراءة المأمور الممتثل لأمر آمرٍ مطاع يأمره بالقراءة. أو تأمره القوى الملكوتية. سواء كان قارئاً أو غير قارئ؛ لأن الأعمال هناك ممثلة بهيئاتها وصورها، يعرفها كل أحد. لا على سبيل الكتابة بالحروف فلا يعرفها الأميِّ: { كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } لأن نفسه تشاهد ما فعلته لازماً إياها، نصب عينها، مفصلاً لا يمكنها الإنكار.
وقوله تعالى: { مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ } قال أبو السعود: فذلكة لما تقدم من بيان كون القرآن هادياً لأقوم الطرائق، ولزوم الأعمال لأصحابها. أي: من اهتدى بهدايته، وعمل بما فيه تضاعيفه من الأحكام، وانتهى عما نهاه عنه، فإنما تعود منفعة اهتدائه إلى نفسه، لا تتخطاه إلى غيره ممن لا يهتدي: { وَمَن ضَلَّ } أي: عن الطريقة التي يهديه إليها: { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي: وبال ضلاله عليها، لا على من عداه ممن لم يباشره. فقوله: { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } مؤكد لما قبله للاهتمام به.
قال أبو السعود: أي: لا تحمل نفسه حاملة للوزر، وزر نفس أخرى، حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن وزرها. ويختل ما بين العامل وعمله من التلازم. بل إنما تحمل كل منهما وزرها. وهذا تحقيق لمعنى قوله عز وجل: { وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } وأما ما يدل عليه قوله تعالى:
{ { مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا } [النساء: 85]، وقوله تعالى: { { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [النحل: 25] من حمل الغير وزر الغير، وانتفاعه بحسنته، وتضرره بسيئته، فهو في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه، وتضرر بسيئته. فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له. وإنما الذي يصل إلى من يشفع جزاء شفاعته، لا جزاء أصل الحسنة والسيئة، وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين. وما يحمله المضلون إنما هو جزاء الإضلال لا جزاء الضلال.
وإنما خصَّ التأكيد بالجملة الثانية قطعاً للأطماع الفارغة. حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق، فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم. انتهى.
وقوله تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } بيان للعناية الربانية، إثر بيان اختصاص آثار الهداية والضلال بأصحابها، وعدم حرمان المهتدي من ثمرات هدايته، وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها. أي: وما صح وما استقام منا، بل استحال في سنتنا المبنية على الحكم البالغة، أن نعذب قوماً حتى نبعث إليهم رسولاً يهديهم إلى الحق، ويردعهم عن الضلال؛ لإقامة الحجة وقطعاً للعذر. والعذاب أعم من الدنيوي والأخروي، لقوله تعالى:
{ { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى } [طه: 134] وقال تعالى: { { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ } [الملك: 8 - 9]، وكذا قوله: { { وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ } [الزمر: 71]، وقال تعالى: { { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ } [فاطر: 37]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى لا يعذب قوماً عذاب استئصال، ولا يدخل أحداً النار إلا بعد إرسال الرسل. قال قتادة: إن الله تعالى لا يعذب أحداً حتى يتقدم إليه بخبر أو بينة. ولا يعذب أحداً إلا بذنبه.