التفاسير

< >
عرض

قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً
٤
-مريم

محاسن التأويل

{ قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي } أي: ضعف. قال الزمخشريّ: وإنما ذكر العَظْم لأنه عمود البدن. وبه قوامه، وهو أصل بنائه. فإذا وهن تداعى وتساقطت قوته. ولأنه أشد ما فيه وأصلبه. فإذا وهن كان ما وراءَه أوهن. ووحّده، لأن الواحد هو الدال على معنى الجنسية، المنبئة عن شمول الوهن بكل فرد من أفراده. وقرئ: { وَهُِنَ } بكسر الهاء وضمها: { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً } قال الزمخشريّ: شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وإنارته، وانتشاره في الشعر وفشوه فيه، وأخذه منه كل مأخذ - باشتعال النار. ثم أخرجه مخرج الاستعارة. ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس. وأخرج الشيب مميزاً ولم يضف الرأس اكتفاءً بعلم المخاطب أنه رأس زكريا. فمن ثم فصحت هذه الجملة وشهد لها بالبلاغة. وظاهره أن فيه استعارتين مبنيتين على تشبيهين: أولاهما تصريحية تبعية في اشتعل بتشبيه انتشار المبيضّ في المسودّ باشتعال النار، كما قال ابن دريد في "مقصورته".

إِمَّا تَرَى رَأْسِيَ حَاكى لَوْنُهُ طرّةَ صبحٍ تَحْتَ أذيال الدجا
واشتعل المبيضُّ في مسودِّهِ مثلَ اشتعالِ النَّارِ في جَزْلِ الغضَا

والثانية مكنية. بتشبيه الشيب، في بياضه وإنارته، باللهب. وهذا بناء على أن المكنية قد تنفك عن التخييلية، وعليه المحققون من أهل المعاني. وقيل: إن الاستعارة هنا تمثيلية. فشبه حال الشيب بحال النار، في بياضه وانتشاره: { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً } أي: ولم أكن بدعائي إياك خائباً في وقت لم أعوّد منك إلا الإجابة في الدعاء، ولم تردَّني قط. وهذا توسل منه إلى الله تعالى بما سلف له معه من الاستجابة، إثر تمهيد ما يستدعي الرحمة ويستجلب الرأفة، من كبر السن وضعف الحال. فإنه تعالى بعدما عوَّد عبده بالإجابة دهراً طويلاً. لا يكاد يخيبه أبداً. لا سيما عند اضطراره وشدة افتقاره.
تنبيه:
استفيد من هذا الآيات آداب الدعاء [في المطبوع: الاعاء] وما يستحب فيه. فمنها الإسرار بالدعاء، لقوله خَفِيّاً ومنها استحباب الخضوع في الدعاء وإظهار الذل والمسكنة والضعف لقوله: { وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً } ومنها التوسل إلى الله تعالى بنعمه وعوائده الجميلة لقوله: { وَلَمْ أَكُنْ } الخ كما قدمنا.