التفاسير

< >
عرض

أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ
١٠٠
-البقرة

محاسن التأويل

{ أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } الهمزة للإنكار، والواو للعطف على محذوف يقتضيه المقام، أي: كفروا بالآيات بالبينات، { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ } الخ، أو أينكرون فسقهم وكلما الخ، وقيل: الواو زائدة، وقيل هي " أَوْ " التي لأحد الشيئين. حركت بالفتح. وقد قرئ شاذاً بسكونها. فتكون بمعنى بل. دلت عليه القرينة. أعني قوله: { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ترقياً إلى الأغلظ فالأغلظ. قال ابن جنيّ: " أو " هذه هي التي بمعنى " أم " المنقطعة، وكلتاهما بمعنى " بل " موجودة في الكلام كثيراً. أنشد الفراء لذي الرمة:

بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ فِيْ رَوْنَقِ الضُّحَى وَصُوْرَتِهَا. أَوْ أَنْتَ فِيْ الْعَيْنِ أَمْلَحُ

وكذا قال في قوله تعالى: { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } وعلى الوجه الأول، فالمقصود من هذا الاستفهام الإنكار، وإعظام ما يَقْدمون عليه، لأن مثل ذلك، إذا قيل بهذا اللفظ كان أبلغ في التنكير والتبكيت. ودل بقوله: { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ } على عهد بعد عهد نقضوه ونبذوه. بل يدل على أن ذلك كالعادة فيهم. فكأنه تعالى أراد تسلية الرسول عند كفرهم بما أنزل عليه من الآيات، بأن ذلك ليس ببدع منهم بل هو سجيتهم وعادتهم وعادة سلفهم، على ما بيّنه في الآيات المتقدمة من نقضهم العهود والمواثيق حالاً بعد حال ؛ لأن من يعتاد منه هذه الطريقة لا يصعب على النفس مخالفته، كصعوبة من لم تجر عادته بذلك.
قال العلامة: واليهود موسومون بالغدر ونقض العهود، وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوا، وكم عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يفوا:
{ { الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } [الأنفال: 56]، والنبذ الرمي بالذمام، ورفضه. وإسناده إلى فريق منهم، لأن منهم من لم ينبذه. وفي قوله: { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } دفع لما يتوهم من أن النابذين هم الأقلون. قوله تعالى:
{ وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ ... }.