التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ
١١
أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ
١٢
-البقرة

محاسن التأويل

شروع في تعديد بعضٍ من مساوئهم المتفرعة - على ما حكى عنهم من الكفر والنفاق -، والفساد: خروج الشيء عن حال استقامته وكونه منتفعاً به، ونقيضه الصلاح: وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة. والفساد في الأرض: تهييج الحروب والفتن، لأن في ذلك فساد ما في الأرض، وانتفاء الاستقامة عن أحوال الناس، والزروع، والمنافع الدينية والدنيوية. قال الله تعالى: { { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ } [البقرة: 205] { { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ } [البقرة: 30]. ومنه قيل لحربٍ كانت بين طيء: حرب الفساد -.
وكان إفساد المنافقين في الأرض أنهم كانوا يُمالئون الكفار على المسلمين بإفشاء أسرارهم إليهم، وإغرائهم عليهم، واتخاذهم أولياء، مع ما يدعون في السر إلى تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم وجحد الإسلام، وإلقاء الشبه، وذلك مما يجرئ الكفرة على إظهار عداوة النبي صلى الله عليه وسلم، ونصب الحرب له، وطمعهم - في الغلبة، فلما كان ذلك من صنيعهم مؤدّياً إلى الفساد - بتهييج الفتن بينهم - قيل لهم: لا تفسدوا - كما تقول للرجل: لا تقتل نفسك بيدك ولا تلق نفسك في النار، إذا أقدم على ما هذه عاقبته - وقد قال تعالى:
{ { وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } [الأنفال: 73]. فأخبر أن مولاة الكافرين تؤدّي إلى الفتنة والفساد، لما تقدم.
و قولهم: { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي: بين المؤمنين و أهل الكتاب. نداري الفريقين و نريد الإصلاح بينهما كما حكى الله عنهم أنهم قالوا:
{ { إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } [النساء: 62]. أو معناه: إنما نحن مصلحون في الأرض بالطاعة والانقياد.
قال الراغب: تصوروا إفسادهم بصورة الإصلاح - لما في قلوبهم من المرض - كما قال:
{ { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } [فاطر: 8] وقوله: { { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام: 43 ]. وقوله: { { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [الكهف: 104].
وقال القاشاني كانوا يرون الصلاح في تحصيل المعاش، وتيسير أسبابه، وتنظيم أمور الدنيا - لأنفسهم خاصة - لتوغّلهم في محبة الدنيا، و انهماكهم في اللذات البدنية، واحتجابهم - بالمنافع الجزئية، والملاذّ الحسية - عن المصالح العامة الكلّية، واللذات العقلية، وبذلك يتيسر مرادهم، ويتسهل مطلوبهم، وهم لا يحسون بإفسادهم المدرك بالحس.