التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ
٢٠٠
-البقرة

محاسن التأويل

{ فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ } أي: فرغتم من أعمال الحج ونفرتم: { فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } أي: فأكثروا ذكر الله، وابذلوا جهدكم ي الثناء عليه، وشرح آلائه ونعمائه، كما تفعلون في ذكر آبائكم ومفاخرهم وأيامهم بعد قضاء مناسككم. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يطعم ويحمل الحمالات ويحمل الديات.. ! ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم، فأنزل هذه الآية. وفيها إشعار بتحويل القوم عما اعتادوه، وحثّ على إفراد ذكره جل شأنه.
ثم أرشد تعالى إلى دعائه - بعد كثرة ذكره - فإنه مظنة الإجابة، وذم من لا يسأله إلا في أمر دنياه وهو معرض على أخراه، فقال: { فَمِنَ النَّاسِ } أي: الذين نسوا قدر الآخرة وكانت الدنيا أكبر همّهم: { مَن يَقُولُ } أي: في ذكره: { رَبَّنَا آتِنَا } أي: مرغوباتنا: { فِي الدُّنْيَا } لا نطلب غيرها: { وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } أي: نصيب وحظ لأنه استوفى نصيبه في الدنيا بتخصيص دعائه به. فالجملة إخبار منه تعالى ببيان حاله في الآخرة؛ أو المعنى: ما له في الآخرة من طلب خلاق. فهو بيان لحاله في الدنيا، وتصريح بما علم ضمناً من قوله: { آتِنَا فِي الدُّنْيَا }؛ أو تأكيد لكون همّه مقصوراً على الدنيا. وقوله: { فِي الآخِرَةِ } حينئذ متعلق بـ: { خَلاَقٍ } حال منه، وتضمن هذا الذم والتنفير عن التشبه بمن هو كذلك.
قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون: اللهم ! اجعله عام غيث وعام خصب وعام ولاد حسن.. ! لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً. فنزل فيهم ذلك.
وهؤلاء الذين حكى الله عنهم - أنهم يقتصرون في الدعاء على طلب الدنيا - قال قوم: هم مشركو العرب. وكونهم لا خلاق لهم في الآخرة ظاهر؛ إذ لا نصيب لهم فيها من كرامةٍ ونعيم وثواب. وقال قوم: هؤلاء قد يكونون مؤمنين ولكنهم يسألون الله لدنياهم لا لأخراهم، ويكون سؤالهم هذا من جملة الذنوب، حيث سألوا الله تعالى - في أعظم المواقف وأشرف المشاهد - حطام الدنيا وعرضها الفاني، معرضين عن سؤال النعيم الدائم في الآخرة.. ! ومعنى كونهم لا خلاق لهم في الآخرة، أي: إلا أن يتوبوا، أو إلا أن يعفو الله عنه، أو لا خلاق له في الآخرة، كخلاق من سأل المولى لآخرته، والله أعلم. كذا يستفاد من الرازي.