التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَٰرِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ ٱللَّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَٰهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
٢٤٣
-البقرة

محاسن التأويل

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ } أي: ممن تقدمكم من الأمم: { مِن دِيَارِهِمْ } أي: التي ألفوها لما وقع فيها مما لا طاقة لهم به من الموت. ولفظة: { أَلَمْ تَرَ } قد تذكر لمن تقدم علمه، فتكون للتعجيب والتقرير والتذكير - كالأحبار وأهل التاريخ - وقد تذكر لمن لا يكون كذلك. فتكون لتعريفه وتعجيبه.
قال الراغب: " رأيت " يتعدى بنفسه دون الجار. لكن لما استعير " ألم تر " لمعنى " ألم تنظر " عدى تعديته بـ " إلى " وفائدة استعارته: أن النظر قد يتعدى عن الرؤية، فإذا أريد الحث على نظر ناتج لا محالة للرؤية استعيرت له، وقلما استعمل ذلك في غير التقرير فلا يقال: رأيت إلى كذا.
{ وَهُمْ أُلُوفٌ } أي: في العدد جمع ألف، أو وهم مؤتلفون ومجتمعون مع آلف، بالمد - كشاهد وشهود - أي: إن خروجهم لم يكن عن افتراق كان منهم ولا تباغض، ولكن: { حَذَرَ الْمَوْتِ } مفعول له - أي: قرار منه. وقوله: { فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ }، معناه: فأماتهم، وإنما جيء به على هذه العبارة؛ للدلالة على أنهم ماتوا ميتة رجل واحد بأمر الله ومشيئته، وتلك مشيته خارجة عن العادة كأنهم أمروا بشيء فامتثلوه امتثالاً من غير إباء ولا توقف، كقوله تعالى:
{ { إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [يس: 82].
{ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ } عطف. إما على مقدر يستدعيه المقام، أي: فماتوا ثم أحياهم - وإنما حذف للدلالة على الاستغناء عن ذكره لاستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته، وإما على " قال " لما أنه عبارة عن الإماتة: { إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ } قاطبة. أما أولئك فقد أحياهم ليعتبروا بما جرى عليهم فيفوزوا بالسعادة، وأما الذين سمعوا قصتهم فقد هداهم إلى مسلك الاعتبار والاستبصار، فقد تفضل على الجميع ليشكروه: { وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ }، أي: فضله كما ينبغي.
تنبيه
روي عن ابن عباس: أن الآية عُني بها قوم كثيرو العدد، خرجوا من ديارهم فراراً من الجهاد في سبيل الله فأماتهم الله ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا عدوهم. فكأنها كرت ممهدة للأمر بالقتال بعدها في قوله تعالى: { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ }.
ومعلوم أن سورة البقرة مما نزل في المدينة إثر الهجرة قبل فتح مكة. وكان العدو في مكة وما حولها في كثرة وقوة ومنعة، فأمر المسلمون المهاجرون ومن آواهم أن يقاتلوا في سبيل الله. وقص لهم من الأنباء ما فيه بعث لهم على الجهاد وتبشير لهم بالفوز والعاقبة. وأن يكونوا في قلة وضعف، ما داموا مستمسكين بحبل الوفاق والصبر والمصابرة. وقد ذهب بعض الرواة إلى أن هذه الآية عني بها ما قص في التوراة عن حزقيل - أحد أنبياء بني إسرائيل - أنه أوحى إليه أن يخرج إلى فلاة واسعة قد ملئت عظاماً يابسة من موتى بني إسرائيل. وأن يناديها باسمه تعالى. فجعلت تتقارب ثم كسيت لحماً. ثم نادى أرواحها فعادت إلى أجسامها واستووا أحياء على أقدامهم بأمره تعالى. وهم جيش كثير جداً. وأوحى إلى حزقيل أنهم سيعودون إلى وطنهم بعد أن أجلوا عنه. وهذه القصة مبسوطة في توراتهم في الفصل السابع والثلاثين من نبوة حزقيل.
وممن روي عنه أنه عني بهذه الآية نبأ حزقيل، وهب بن منبه وأشعث بن أسلم البصري والحجاج بن أرطاة والسدي وهلال بن يساف وغيرهم. أخرجه عنهم ابن جرير. فإن صحت هذه الرواية يكون ذلك من معجزات حزقيل في إحياء الموتى له، كما أحيي لعيسى عليه السلام. فيرى قومه ما لا ييأسون معه من جهاد عدوهم ليسترجعوا وطنهم الذي أجلاهم عنه عدوهم، لأن حزقيل كان فيمن أجلي إلى بابل. قالوا ونبوته تتضمن القضاء المنزل على بني إسرائيل وبشرى السلام الذي يعقب ذلك القضاء. وقد نقل ابن كثير عن عطاء أنه قال في هذه الآية: إنها مَثَلٌ. ولعل مراده: أنها مثل في تكوينه تعالى أمة قوية تقهر وتغلب وتسوس غيرها بعد بلوغها غاية الضعف والخمول. فكان حياتها وموتها تمثيلاً لحالتيها قبل وبعد. فيكون إشعاراً بما ستصير إليه العرب من القوة العظيمة والمدنية الفخيمة، وتنبيهاً على أن الوصول إلى ذلك إنما يكون بجهاد الظالمين واتفاق المتقين على دحر المتغلبين الباغين والله أعلم.
ثم إنه لا خفاء في أن ما قص من حوادث الإسرائيليين كان معروفاً في الجملة لمخالطة اليهود للعرب في قرون كثيرة.
قال ولي الله الدهلوي في " الفوز الكبير ": واختار سبحانه في تنزيله من أيام الله، يعني: الوقائع التي أحدثها الله سبحانه وتعالى: كإنعام المطيعين وتعذيب العصاة، ما قرع سمعهم. وذكر لهم إجمالاً مثل قصص قوم نوح وعاد وثمود. وكانت العرب تتلقاها أباً عن جد، ومثل قصص سيدنا إبراهيم وأنبياء بني إسرائيل فإنها كانت مألوفة لأسماعهم لمخالطة اليهود العرب في قرون كثيرة، وانتزع من القصص المشهورة جملاً تنفع في تذكيرهم. ولم يسرد القصص بتمامها مع جميع خصوصياتها. والحكمة في ذلك أن العوام إذا سمعوا القصص النادرة غاية الندرة، أو استقصى بين أيديهم ذكر الخصوصيات، يميلون إلى القصص نفسها ويفوتهم التذكر الذي هو الغرض الأصلي فيها. ونظير هذا الكلام ما قاله بعض العارفين: إن الناس لما حفظوا قواعد التجويد شغلوا عن الخشوع في التلاوة.