التفاسير

< >
عرض

وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلاۤ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَىٰ
١٣٤
قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ ٱلصِّرَاطِ ٱلسَّوِيِّ وَمَنِ ٱهْتَدَىٰ
١٣٥
-طه

محاسن التأويل

{ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ } أي: من قبل إتيان البينة، أو محمد عليه السلام: { لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ } أي: بالعذاب الدنيويّ: { وَنَخْزَى } أي: بالعذاب الأخرويّ. أي: ولكنا لم نهلكهم قبل إتيانها. فانقطعت معذرتهم. فعند ذلك، قالوا: بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا: ما نزل الله من شيء: { قُلْ } أي: لأولئك الكفرة المتمردين: { كُلٌّ } أي: منا ومنكم: { مُتَرَبِّصٌ } أي: منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم: { فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ } أي: عن قرب: { مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ } أي: المستقيم: { وَمَنِ اهْتَدَى } أي: من الزيغ والضلالة. أي: هل هو النبي وأتباعه، أم هم وأتباعهم.
وقد حقّق الله وعده. ونصر عبده. وأعز جنده. وهزم الأحزاب وحده. فله الحمد في الأولى والآخرة.
(/) سورة طه بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى: { طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [1 - 3]. { طه } قدمنا أن الحق في هذه الحروف التي افتتحت بها سورها، أنها أسماء لها. وفيه إشارة إلى أنها مؤلفة منها. ومع ذلك ففي عجزهم عن محاكاتها أبلغ آية على صدقها. ونبه الإمام ابن القيمرحمه الله على نكتة أخرى في " الكافية الشافية " بقوله: ~وانظر إلى السور التي افتتحت بأحْ رفها ترى سرّاً عظيم الشان ~لم يأت قط بسورة إلا أتى في إثرها خبر عن القرآن ~إذ كان إخباراً به عنها. وفي هذا الشفاءُ لطالب الإيمان ~ويدل أن كلامه هو نفسها لا غيرها، والحق ذو تبيان ~فانظر إلى مبدا الكتاب وبعدها الـ أعراف ثم كذا إلى لقمان ~مع تلوها أيضاً ومع حَمَ مع يسَ وافهم مقتضى الفرقان { مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } أي: لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا والشقاء في معنى التعب. ومنه المثل: أشقى من رائض مهر. وقوله تعالى: { إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى } أي: تذكيراً له. أي: { مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ } لتتعب بتبليغه، ولكن تذكرة لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار. والقصد أنه ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة. وقد جرت السنة الإلهية في خطاب الرسول في مواضع من التنزيل، أن ينهاه عن الحزن عليهم وضيق الصدر بهم، كقوله تعالى: { فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } [الأعراف: 2]، { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ } [الكهف: 6]، { وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر } [آل عِمْرَان: 176]، وهذه الآية من هذا الباب أيضاً. وفي ذلك كله من تكريم الرسول صلوات الله عليه، وحسن العناية به والرأفة، ما لا يخفى. ثم أشار إلى تضخيم شأن هذا المنزل الكريم، لنسبته إلى المتفرد بصفاته وأفعاله، بقوله: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [4 - 5]. { تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ } قرئ بالرفع على المدح. أي: هو الرحمن. وبالجر على أنه صفة للموصول. وقوله: { عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } أي: علا وارتفع. قاله ابن جرير. وقد ذهب الخلف إلى جعل ذلك مجازاً عن الملك والسلطان. كقولهم: استوى فلان على سرير الملك , وإن لم يقعد على السرير أصلاً. وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته أيضاً. قال ابن كثير: والمسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف، من إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة، من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل. وقد أسلفنا ما حققته أئمة الفلك الحديث؛ من أن العرش جرم حقيقيّ موجود وأنه مركز العوالم كلها. أي: مركز الجذب والتدبير والتأثير والنظام. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } [6]. { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى }. بيان لشمول قهره وملكته للكل. أي: كلها تحت ملكته وقهره وسلطنته وتأثيره. لا توجد ولا تتحرك ولا تسكن ولا تتغير ولا تثبت إلا بأمره. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } [7]. { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }. بيان لكمال لطفه. أي: علمه نافذ في الكل. يعلم ظواهرها وبواطنها والسر وسر السر. فكذلك إن تجهر وإن تخفت، فيعلمه بجهر وخفت. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [8]. { اللَّهُ } أي: ذلك المُنْزل الموصوف بهذه الصفات هو الله: { لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } أي: الفضلى، لدلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والأفعال التي هي النهاية في الحسن. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً } [9 - 10]. { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } من عطف القصة أو استئناف. والقصد تقرير أمر التوحيد الذي انتهى إليه الآية قبله، ببيان أنه دعوى كل نبيّ لا سيما أشهرهم نبأ، وهو موسى عليه السلام. فقد خوطب بقوله تعالى: { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا } [14] وبه ختم تعالى نبأه في هذه السورة بقوله: { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } [98]، أو تقرير لسعة علمه المبين في قوله تعالى: { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ } [7] الخ لقوله بعدُ: { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [98]، أولهما معاً. أو لحمله، صلوات الله عليه، على التأسي بموسى في الصبر والثبات. لكونه ابتلي بأَعظم من هذا فصبر، وكانت العاقبة له. وقد أشير في طليعة نبأ موسى عليه السلام، إلى كيفية ابتداء الوحي إليه، وتكليمه تعالى إياه. وذلك بعد أن قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم. وصار بأهله قاصداً بلاد مصر، بعد ما طالت غيبته عنها ومعه زوجته. فأضلّ الطريق. وكانت ليلة شاتية، ونزل منزلاً بين شعاب وجبال في برد وشتاء. وبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور ناراً، كما قصه تعالى بقوله: { إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً } أي: أبصرتها إبصاراً بيّناً لا شبهة فيه: { لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ } أي: بشعلة مقتبسة تصطلون بها: { أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً } أي: هادياً يدلني على الطريق. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً } [11 - 12]. { فَلَمَّا أَتَاهَا } أي: النار: { نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً } أي فيجب فيه رعاية الأدب، بتعظيمه واحترامه لتجلي الحق فيه، كما يراعى أدب القيام عند الملوك وطُوىً: اسم للوادي. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } [13 - 15]. { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ } أي: اصطفيتك للنبوة: { فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } أي: للذي يوحي. أو للوحي. ثم بينه بقوله: { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } أي: خصني بالعبادة: { وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي } أي: لتذكرني فيها بقلبك ولسانك وسائر جوارحك، بأن تجعل حركاتها دالة على ما في القلب واللسان. قال أبو السعود: خصت الصلاة بالذكر وأفردت بالأمر بالعبادة، لفضلها وإنافتها على سائر العبادات، بما نيطت به من ذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره. وذلك قوله تعالى: { لِذِكْرِي } أي: لتذكرني. فإن ذكري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة. أو لتذكرني فيها لاشتمالها على الأذكار. أو لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري. أو لإخلاص ذكري وابتغاء وجهي. لا ترائي بها، ولا تقصد بها غرضاً آخر. أو لتكون ذاكراً لي غير ناس. انتهى ثم أشار إلى وجوب إفراده بالعبادة وإقامة الصلاة لذكره. بقوله: { إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ } أي: واقعة لا محالة: { أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } أي: بسعيها عن اختيار منها. واللام متعلقة بآتية. ولما كان خفاء الساعة من اليقينيات وفي كاد معنى القرب من ذلك، لعدم وضعها للجزم بالفعل، تأولوا الآية على وجوه: أحدها: أن كَادَ منه تعالى واجب. والمعنى أنا أخفيها عن الخلق. كقوله: { عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً } [الإسراء: 51 )، أي: هو قريب. ثانيها: قال أبو مسلم: أَكَادُ بمعنى أريد كقوله: { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } [يوسف: 76]. ومن أمثالهم المتداولة: لا أفعل ذلك ولا أكاد , أي: ولا أريد أن أفعله. قال الشهاب: تفسير أَكَادُ بأريد هو أحد معانيها. كما نقله ابن جني في " المحتسب " عن الأخفش. واستدلوا عليه بقوله. ~كادتْ وكدتُ وتلك خيرُ إرادةٍٍ لو عاد من لَهْوِ الصِّبابِة مَا مَضَى بمعنى أرادت. لقوله: تلك خير إرادة. ثالثها: أن أَكَادُ صلة في الكلام. قال زيد الخيل. ~سريعٌ إِلى الهيجاء شاكٍ سلاحُهُ فما إِنْ يَكَادُ قِرْنُهُ يَتَنَفَّسُ رابعها: أن المعنى أكاد أخفيها فلا أذكرها إِجمالاً ولا أقول هي آتية. وذلك لفرط إرادته تعالى إخفاءها. إلا أن في إِجمال ذكرها حكمة، وهي اللطف بالمؤمنين، لحثهم على الأعمال الصالحة، وقطع أعذار غيرهم حتى لا يعتذروا بعدم العلم. وثمة وجوه أخر لا تخلو من تكلف، وإن اتسع اللفظ لها. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى } [16]. { فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا } أي: عن تصديق الساعة: { مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } أي: ما تهواه نفسه من الشهوات وترك النظر والاستدلال: { فَتَرْدَى } أي: فتهلك. قال الزمخشري: يعني أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجم الغفير. إذ لا شيء أطمّ على الكفرة، ولا هم أشد له نكيراً من البعث. فلا يهولنّك وفور دهمائهم, ولا عظم سوادهم. ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك. واعلم أنهم، وإن كثروا تلك الكثرة، فقدوتهم فيما هم فيه هو الهوى واتباعه. لا البرهان وتدابره. وفي هذا حث عظيم على العلم بالدليل، وزجر بليغ عن التقليد، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } [17 - 18]. { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى } شروع فيما سيؤتيه تعالى من البرهان الباهر. وفي الاستفهام إيقاظ له وتنبيه على ما سيبدو له من عجائب الصنع: { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } أي: أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفتُ على رأس القطيع وعند الطفرة: { وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي } أي: أخبط بها الورق وأسقطه عليها لتأكله: { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } أي: حاجات أخر. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى } [19 - 21]. { قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى } أي: هيئتها الأولى فتنتفع بها كما كنت تنتفع من قبل. أي: ليس القصد تخويفك، بل إظهار ما فيها من استعداد قبول الحياة، ومشاهدة معجزة وبرهان لك. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى } [22 - 23]. { وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ } أي: إبطك: { تَخْرُجْ بَيْضَاءَ } أي: نيَّرة: { مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } أي: قبيح وعيب كبياض البرص مما ينفر عنه. واعتمد الزمخشري؛ أن قوله تعالى: { مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } كناية عن البرص. كما كني عن العورة بالسوأة، قال: والبرص أبغض شيء إلى العرب، وبهم عنه نفرة عظيمة. وأسماعهم لاسمه مجّاجة. فكان جديراً بأن يكنى عنه. ولا ترى أحسن ولا ألطف ولا أحرّ للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه. انتهى { آيَةً أُخْرَى } أي: معجزة أخرى غير العصا: { لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى } متعلق بمضمر ينساق إليه النظم الكريم. أي: أريناك ما أريناك الآن، مع أن حقهما أن يظهرا بعد التحدي والمناظرة، لنريك أولاً بعض آياتنا الكبرى، فيقوى قلبك على مناظرة الطغاة. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } [24]. { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ } تخلص إلى ما هو المقصود من تمهيد المقدمات السالفة. فُصِل عما قبله من الأوامر إِيذاناً بأصالته. أي: اذهب إليه بما رأيتَه من الآيات الكبرى، وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي. أفاده أبو السعود. وقوله تعالى: { إِنَّهُ طَغَى } أي: جاوز الحد في التكبّر والعتوّ، حتى تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية. فلا بد من تنبيهه على طغيانه بالدلائل العقلية، التي صدقتها المعجزات. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي } [25 - 28]. { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي } إنما سأل ذلك، لما كان يتخوفه من آل فرعون في القتيل. ولما بعث به من صدع جبار عنيد، أطغى الملوك وأبلغهم تمرداً وكفراً، مما يحوج إلى عناية ربانية. وسأل أن يُمَدّ بمنطق فصيح، لما في لسانه من عقدة كانت بمنعه من كثير من الكلام كما قال: { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } [القصص: 34]، وقول فرعون: { وَلا يَكَادُ يُبِينُ } [الزخرف: 52]، ثم سأل عليه السلام ربه أن يعينه بأخيه هارون، ليكون له رِدْءاً، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، بقوله: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي } [29 - 31]. { وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي } أي: قَوِّ به ظهري. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً } [32 - 35]. { وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً } أي: كي نتعاون على تسبيحك وذكرك. لأن التعاون - لأنه مهيج الرغبات - يتزايد به الخير ويتكاثر: { إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً } أي: عالماً بأحوالنا، وبأن المدعوّ به مما يفيدنا. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى } [36 - 37]. { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } أي: أجيب دعاؤك. وقوله تعالى: { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى } كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله، وزيادة توطين نفس موسى عليه السلام بالقبول، ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعم التامة من غير سابقة دعاء منه وطلب، فَلأَنْ ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداعٍ، أولى وأحرى. وتصديره بالقسم، لكمال الاعتناء بذلك. أفاده أبو السعود. وقوله تعالى: { مَرَّةً أُخْرَى } أي: في وقت آخر. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [38 - 39]. { إِذْ أَوْحَيْنَا } أي: ألقينا بطريق الإلهام: { إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ } أي: الصندوق: { فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ } أي: البحر، متوكلةً على خالقه: { فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي } لدعواه الألوهية: { وَعَدُوٌّ لَهُ } لدعوته إلى نبذ ما يدعيه. قال الزمخشريّ: لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته - أن لا تخطئ جرية اليم، الوصولَ به إلى الساحل، وإلقاءه إليه - سلك في ذلك سبيل المجاز وجعل اليم كأنه ذو تمييز أُمر بذلك، ليطيع الأمر ويمتثل رسمه. فقيل: { فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ } أي: على سبيل الاستعارة بالكناية. بتشبيه اليم بمأمور منقاد. وإثبات الأمر تخييل، وقوله تعالى: { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي } أي: واقعة مني، زرعتها في قلب من يراك. ولذلك أحبك فرعون: { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } أي: ولتربَّى بيد العدوّ على نظري بالحفظ والعناية. فعلى عيني استعارة تمثيلية للحفظ والصون، لأن المصون يجعل بمرأى. قيل: وعلى بمعنى الباء لأنه بمعنى بمرأى مني، في الأصل. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } [40]. { إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ } أي: يضمن حضانته ورضاعته. فقبلوا قولها. وذلك لأنه لما استقر عند آل فرعون، عرضوا عليه المراضع فأباها كما قال تعالى: { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ } [القصص: 12]، فجاءت أخته فقالت: { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } [القصص: 12]، فجاءت بأمه كما قال: { فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ } أي: مع كونك بيد العدوّ: { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } أي: برؤيتك: { وَلا تَحْزَنَ } أي: بفراقك. فهذه منن زائدة على النجاة من القتل. ثم أشار إلى ما منّ عليه بالنجاة من القتل الذي لا يدفع بتلبيس، بقوله: { وَقَتَلْتَ نَفْساً } أي: من آل فرعون، وهو القبطيّ الذي استغاثه عليه الإسرائيليّ، إذ وكزه موسى فقضى عليه. أي: فاغتممت للقصاص: { فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ } أي: غم القتل بأن صرفنا عنك ما تخشاه. وذلك أنه عليه السلام فرَّ من آل فرعون حتى ورد ماء مدين. وقال له ذلك الرجل الصالح: { لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [القصص: 25]، { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } أي: ابتليناك ابتلاءً. على أن الفتون مصدر كالشكور، أو ضروباً من الفتن على أنه جمع فتنة أي: فجعلنا لك فرَجاً ومخرَجاً منها. وهو إجمال لما سبق ذكره. { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ } أي: معزز الجانب مكفيّ المؤونة في عشرة أتقى رجل منهم وأصلحهم، وهو نبيّهم عليه السلام: { ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } أي: بعد أن قضيت الأجل المضروب بينك وبين شعيب من الإجارة ,جئت بأهلك على وفق ما سبق في قضائي وقدري؛ أن أكلمك وأستنبئك في وقت يعينه قد وقَّته لذلك. فما جئت إلا على ذلك القدر، غير مستقدم ولا مستأخر. فالأمر له تعالى. وهو المسيّر عباده وخلقه فيما يشاء. قال أبو السعود: وقوله تعالى: { يَا مُوسَى } تشريف له عليه الصلاة والسلام، وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولاً. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي } [41 - 42]. { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } تذكير لقوله تعالى: { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ } وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيداً بأخيه والاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الصنيعة. يقال: اصطنع الأمير فلاناً لنفسه، أي: جعله محلاًّ لإكرامه باختيار وتقريبه منه، بجعله من خواص نفسه وندمائه، فاستعير استعارة تمثيلية من ذلك المعنى المشبه به إلى المشبه. وهو جعله نبيّاً مكرماً كليماً منعماً عليه بجلائل النعم. قال أبو السعود: والعدول عن نون الواقعة في قوله تعالى: { وَفَتَنَّاكَ } ونظيريه السابقين، تمهيد لإفراد لفظ النفس اللائق بالمقام، فإنه أدخل في تحقيق معنى الاصطناع والاستخلاص. ثم بين ما هو المقصود بالاصطناع بقوله سبحانه: { اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي } أي: بمعجزاتي. كالعصا وبياض اليد وحل العقدة، مع ما استظهره على يده: { وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي } أي: لا تَفْتُرَا ولا تقصّرا في ذكري بما يليق بي من النعوت الجليلة، عند تبليغ رسالتي والدعاء إليّ. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [43 - 44]. { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } أي: عقابي. فإن تليين القول مما يكسر سورة عناد العتاة، ويلين عريكة الطغاة. وقد بيّن ذلك في قوله تعالى: { فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [النازعات: 18 - 19]، وبمثل ذلك أمر نبينا صلوات الله عليه في قوله: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل: 125]، وظاهر أن الرجاء في لعله إنَما هو منهما، لا من الله. فإنه لا يصح منه. ولذا قال القاضي: أي: باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما أنه يثمر ولا نخيب سعيكما. فإن الراجي، مجتهد والآيس متكلف. والفائدة في إرسالها والمبالغة عليهما في الاجتهاد - مع علمه بأنه لا يؤمن - إلزام الحجة، وقطع المعذرة، وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [45 - 46]. { قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا } أي: يبادرنا بالعقوبة: { أَوْ أَنْ يَطْغَى } أي: يزداد طغياناً بالعناد، في دفع حججنا، ثم يأمر بقتلنا، أو بالتخطي إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي، لجرأته وقسوة قلبه. واقتصر على الثاني الزمخشري. وأفاد أن في المجيء به هكذا على الإطلاق، وعلى سبيل الرمز، باباً من حسن الأدب، وتحاشياً عن التفوه بالعظيمة: { قَالَ لا تَخَافَا } أي: من فرطه وطغيانه: { إِنَّنِي مَعَكُمَا } أي: بالحفظ والنصرة: { أَسْمَعُ وَأَرَى } أي: ما يجري بينكما وبينه. فأرعاكما بالحفظ. فالمفعول محذوف للقرينة، أو نزل منزلة اللازم تتميماً لما يستقل به الحفظ. كأنه قيل: أنا حافظ لكما وناصر، سامع وبصير. وإذا كان الحافظ كذلك، تمَّ الحفظ والتأييد، وذهبت المبالاة بالعدوّ. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } [47]. { فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ } أي: بإطلاقهم من الأسر والعبودية. وتسريحهم معنا إلى وطننا فلسطين: { وَلا تُعَذِّبْهُمْ } أي: بإبقائهم على ما هم عليه من التسخير والتذليل في الأمور الشاقة: { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ } أي: تحقق رسالتي إليك منه تعالى بذلك: { وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } أي: فصدق بآيات الله المبينة للحق. وفيه من ترغيبه في اتباعهما، على ألطف وجه، ما لا يَخْفَى. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [48]. { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا } أي: من ربنا: { أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ } أي: بآياته تعالى: { وَتَوَلَّى } أي: أعرض عنها. وفيه من التلطيف في الوعيد، حيث لم يصرح بحلول العذاب به، ما لا مزيد عليه. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [49 - 50]. { قَالَ } أي: فرعون: { فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } أي: منح كل شيء من الأنفس البشرية، صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، فسواه بها وعدّله، ثم هداه بأن وهبه العقل الذي يميز بين الخير والشر. وهذه الآية في معناها كآية: { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس: 7 - 8]، وآية: { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [البلد: 10]. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } [51 - 52]. { قَالَ } أي: فرعون: { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } أي: ما حال القرون السالفة وما جرى عليهم؟ وهذا السؤال إما لصرف موسى عليه السلام عما يدعوه إليه أمام ملئه، وإشغاله بما لا يعني ما أرسل به، وإما لتوهم أن الرسول يعلم الغيب، فأراد أن يقف على نبأ ما مضى، ويفتح باباً للتخطئة والتكذيب، بالعناد واللجاج. فأجابه موسى عليه السلام بأن هذا سؤال عن الغيب وقد استأثر الله به. فلا يعلمه إلا هو. وليس من وظيفة الرسالة. وإنما علمها مكتوب في اللوح المحفوظ، محصى غير منسي. ويجوز أن يكون: { فِي كِتَابٍ } تمثيلاً لتمكنه وتقريره في علم الله عزَّ وجلَّ، بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة. قال في العناية: فيشبه علمه تعالى بها علماً ثابتاً لا يتغير، بمن علم شيئاً وكتبه في جريدته، حتى لا يذهب أصلاً، فيكون قوله: { لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } ترشيحاً للتمثيل، واحتراساً أيضاً. لأن من يفعل ذلك إنما يفعله لخوف النسيان. والله تعالى منزه عنه. فالكتاب على هذا بمعناه اللغويّ. وهو الدفتر، لا اللوح المحفوظ. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } [53]. { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً } أي: فراشاً: { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } أي: أصنافاً من نبات مختلفة الأجناس، في الطعم والرائحة والشكل والنفع. لطيفة: جعل الزمخشري قوله تعالى: { فَأَخْرَجْنَا } من باب الالتفات. وناقشه الناصر؛ بأن الالتفات إنما يكون في كلام المتكلم الواحد. يصرّف كلامه على وجوه شتى. وما نحن فيه ليس كذلك. فإن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون: { عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } ثم قوله: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً } إلى قوله: { فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } فإما أن يجعل من قول موسى، فيكون باب قول خواص الملك: أمرنا وعمرنا وإنما يريدون الملك، وليس هذا بالتفات. وإما أن يكون كلام موسى قد انتهى عند قوله: { وَلا يَنْسَى } ثم ابتدأ الله تعالى وصف ذاته بصفات إنعامه على خلقه، فليس التفاتاً أيضاً. وإنما هو انتقال من حكاية إلى إنشاء خطاب. وعلى هذا التأويل ينبغي للقارئ أن يقف وُقَيْفَة عند قوله: { وَلا يَنْسَى } ليستقر بانتهاء الحكاية. ويحتمل وجهاً آخر وهو؛ أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفات على لفظ الغيبة. فقال: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } فلما حكاه الله تعالى عنه , أسند الضمير إلى ذاته. لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى. فمرجع الضميرين واحد. وهذا الوجه وجه حسن رقيق الحاشية. وهذا أقرب الوجوه إلى الالتفات. لكن الزمخشري لم يعنه. والله أعلم. انتهى كلام الناصر. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } [54 - 55]. { كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } حال من ضمير فَأَخْرَجْنَا على إرادة القول: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مِنْهَا } أي: من الأرض: { خَلَقْنَاكُمْ } أي: خلقنا أصلكم وهو آدم. أو خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة عن الأغذية، والمتولدة من الأرض بوسائط: { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } أي: بالإماتة إعادة البذر إلى الأرض: { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } أي: بردّهم كما كانوا، أحياء. ثم أشار تعالى إلى عتوّ فرعون وعناده، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً } [56 - 58]. { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا } أي: من العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين: { فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً } أي: مستوياً واضحاً يجمعنا. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى } [59 - 60]. { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِِ } وهو يوم مشتهر عندهم باجتماع الناس فيه: { وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً } أي: ضحوة النهار ليكون الأمر مكشوفاً لا سترة فيه: { فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ } أي انصرف عن المجلس: { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } أي: ما يكيد به موسى، من السحرة وأدواتهم: { ثُمَّ أَتَى } أي: الموعد ومعه ما جمعه. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } [61 - 63]. { قَالَ لَهُمْ مُوسَى } أي: مقدماً لهم النصح والإنذار، لينقطع عذرهم: { وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً } أي: لا تخيلوا للناس بأعمالكم، إيجاد أشياء لا حقائق لها، وأنها مخلوقة وليست مخلوقة. فتكونوا قد كذبتم على الله تعالى: { فَيُسْحِتَكُمْ } أي: يستأصلكم: { بِعَذَابٍ } أي: هائل لغضبه عليكم: { وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قَالُوا } أي: بطريق التناجي والإسرار: { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } أي: بمذهبكم الأفضل. وهو ما كانوا عليه. يعنون أن قصد موسى وهارون هو عزل فرعون عن ملكه، يجعله عبداً لغيره، واستقرارهما في مكانه، وجعل قومهما مكانكم. وإلجائكم إلى مبارحة أرضكم، وإبطال طريقتكم بسحرهما الذي يريدان إعجازكم به. و: { الْمُثْلَى } تأنيث الأمثل، بمعنى الأفضل. ودعواهم ذلك، لأن كل حزب بما لديهم فرحون. لطيفة: في قوله تعالى: { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } قراءات: الأولى: { إِنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ } بتشديد النون من إِنَّ وهَذَيْنِ بالياء وهي قراءة أبي عَمْرو، وهي جارية على السَّنَنِِ المشهور في عمل إِنَّ. الثانية: { إنِْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } بتحفيف إِنَّ وإهمالها عن العمل، كما هو الأكثر فيها إذا خففت. وما بعدها مرفوع بالابتداء والخبر. واللام لام الابتداء فرقاً بينها وبين النافية. ويرى الكوفيون أن اللام هذه بمعنى إِلاّ وإِنْ قبلها نافية، واستدلوا على مجيء اللام للاستثناء بقوله: ~أمس أبانُ ذليلاً بعد عِزَّتِهِ وما أبانُ لَمِنْ أعلاج سُودَانِ والثالثة: { إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } بتشديد إِنَّ وهذان بالألف. وخرّجت على أوجه: أحدها: موافقة لغة من يأتي في المثنى بالألف في أحواله الثلاث. وهم بنو الحارث بن كعب وخثعم وَزُبَيْد وكنانة وآخرون. قال قائلهم: ~تَزَوَّدَ مِنَّا بين أُذْنَاهُ طَعْنَةً وقال آخر: ~إنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا قد بلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا وثانيها: إِنَّ إِنَّ بمعنى نعم حكاه المبرد. واستدل بقول الراجز: ~يا عمر الخيرِ جُزِيتَ الجَنَّهْ اكسُ بُنَيَّانِي وَأُمَّهُنَّهْ ~وَقُلْ لَهُنَّ: إِنَّ أَنَّ إِنَّهْ أُقْسِمُ باللهِ لَتَفْعَلَنَّهْ وقول عبد الله بن قيس الرُّقَيَّات: ~ويَقُلْنَ شيب قد علا ك وقد كَبرْتَ فقلتُ إِنَّهُ وردَّ على المبرد أبو علي الفارسي، بأنه لم يتقدم ما يجاب بنعم وأجاب الشمنّي، بأن التنازع فيما بينهم، وإسرار النجوى، يتضمن استخبار بعضهم من بعض. فهو جواب للاستخبار الضمنيّ. ولا يخفى بعده. فإن إسرار النجوى فيما بينهم ليس في الاستخبار عن كونهما ساحرين، بل هم جزموا بالسحر فقالوا: { أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ } [57]، ثم أسروا النجوى فيما يغلبان به موسى. إلا أن يقال: محطّ الجواب قوله: { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ } الخ، وما قبله توطئة. وقد رد في " المغني " هذا التخريج؛ بأن مجيء نعم شاذ حتى نفاه بعضهم. ومنعه الدمامينيّ؛ بأن سيبويه والحذّاق حكوه عن الفصحاء. وعليه، فاللام في: { لَسَاحِرانِ } لام الابتداء، زحلقت للخبر. وأبى البصريون دخولها على الخبر. وزعموا أنها في مثله داخلة على مبتدأ محذوف، أو زائدة، أو دخلت مع إن التي بمعنى نعم لشبهها بالمؤكدة لفظاً. وأقول: فيه تكلف. والشواهد على اقتران الخبر باللام كثيرة. وثالثها: أنه لما كان الإعراب لا يظهر في الواحد، وهو هذا جعل كذلك في التثنية، ليكون المثنى كالمفرد. لأنه فرع عليه. واختار هذا القول الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيميةرحمه الله تعالى، وزعم أن بناء المثنى، إذا كان مفرده مبنيّاً، أفصح من إعرابه. قال: وقد تفطن لذلك غير واحد من حذاق النحاة. ثم اعترض بأمرين: أحدهما: أن السبعة أجمعوا عل الياء في قوله تعالى: { إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } [القصص: 27]، مع أن هاتين تثنية هاتا وهو مبني. والثاني: أن الذي مبني وقد قالوا في تثنيته اللَّذَيْنِ في الجر والنصب. وهي لغة القرآن، كقوله تعالى: { رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا } [فصلت: 29]، وأجاب الأول؛ بأنه إنما جاء هاتين بالياء على لغة الإعراب لمناسبة ابنتيّ قال: فالإعراب هنا أفصح من البناء، لأجل المناسبة. كما أن البناء في: { إِنّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } أفصح من الإعراب لمناسبة الألف في هذان للألف في ساحران. وأجاب عن الثاني بالفرق بين اللذان وهذان بأن اللَّذان تثنية اسم ثلاثي، فهو شبيه بالزيدان وهذان تثنية اسم على حرفين. فهو عريق في البناء لشبهه بالحروف. قالرحمه الله : وقد زعم قوم أن قراءة من قرأ إنّ هذان لحن وإن عثمان رضي الله عنه قال: إن في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها. وهذا خبر باطل لا يصح من وجوه. أحدها: إن الصحابة كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات، فكيف يقرّون اللحن في القرآن، مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته؟. والثاني: أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام , فكيف لا يستقبحون بقاءه في المصحف؟. والثالث: أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم. لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والعجمي. والرابع: أنه قد ثبت في الصحيح أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب التابوت بالهاء على لغة الأنصار، فمنعوه من ذلك ورفعوه إلى عثمان رضي الله عنهم. فأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة قريش. ولما بلغ عمر رضي الله عنه أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ: عَتَّى حين، على لغة هذيل، أنكر ذلك عليه وقال: أقرئ الناس بلغة قريش. فإن الله تعالى إنما أنزله بلغتهم، ولم ينزله بلغة هذيل. انتهى كلام تقي الدين مخلصاً. هذا حاصل ما في " المغني " و " الشذور " و " حواشيهما " وفي الآية وجوه أخرى استقصتها المطولات. وما ذكرناه أرقها. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } [64]. { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ } تصريح بالمطلوب، إثر تمهيد المقدمات. والفاء فصيحة. أي إذا كان الأمر كما ذكر، من كونهما ساحرين، يريدان بكم ما ذكر من الإخراج، والإذهاب، فأزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعاً عليه، بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم. أفاده أبو السعود. وقوله تعالى: { ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً } أي: مصطفين، ليكون أهيب في صدور الرائين: { وَقَدْ أَفْلَحَ } أي: فاز بالإنعامات العظيمة من فرعون وملئه: { الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } أي: علا وغلب. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [65 - 66]. { قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ } أي: التي ألقوها: { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } أي: حيّات تسعى على بطونها. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [67 - 69]. { فَأَوْجَسَ } أي: أحس: { فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى } وذلك لما جُبِلَ عليه الإنسان من النفرة من الحيات. أو خاف من توهم الخلق المعارضة، بأن لهم من حبالهم وعصيهم حيات. كما أن له من عصاه حيَّة: { قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا } أي: تلتقطه بفمها: { إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ } في مقابلة آية ربانية: { وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } أي: لا يفوز بمطلوبه، أي: مكانٍ جَاءَ لدفع الحق. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } [70 - 71]. { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً } أي: فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا فأَلْقيَ السَّحَرَةُ سُجَّدَاً، تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر، وإنما هي آية ربانية: { قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ } أي فرعون: { آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } أي: فاتفقتم معه ليكون لكم الملك: { فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ } أي: من جانبين متخالفين: { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } أي: التي هي أقوى الأخشاب وأخشنها: { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } يعني أنكم إنما آمنتم برب موسى خوفاً من شدة عذابه. أو من تخليده في العذاب: { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } فإن رب موسى لم يقطع من أحد يده ورجله من خلاف، ولم يصلبه في جذوع النخل، ولم يبقه مصلوباً، قاله المهايميّ. وضعّفه الزمخشري بأن فرعون يريد نفسه وموسى عليه السلام، بدليل قوله: { آمَنْتُمْ لَهُ } أي: لموسى. واللام مع الإيمان، في كتاب الله لغير الله تعالى كقوله تعالى: { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [التوبة: 61] وقصده إظهار اقتداره وبطشه، وما جرى [في المطبوع: ضرى] به من تعذيب الناس بأنواع العذاب. وتوضيع موسى عليه السلام واستضعافه مع الهزء به، لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } [72]. { قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ } أي: نختارك بالإيمان والاتباع: { عَلَى مَا جَاءَنَا } أي: من الله على يد موسى: { مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا } أي: وعلى الذي خلقنا. واختيارُ هذا الوصف للإشعار بعلة الحكم. فإن خالقيته تعالى لهم، وكون فرعون من جملة مخلوقاته، مما يوجب عدم إيثارهم له عليه، سبحانه و تعالى. وهذا جواب منهم لتوبيخ فرعون بقوله: { آمَنْتُمْ لَهُ } وقيل هو قسم محذوف الجواب: { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ } أي: اصنع ما أنت صانعه. وهذا جواب عن تهديده بقوله: { لَأُقَطِّعَنَّ } الخ: { إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي: فيها وهي لا بقاء لها، ولا سلطان لك بعدها. وإنما البغية الآخرة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [73]. { إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي: ثواباً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى } [74]. { إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا } أي: فينقضي عذابه: { وَلا يَحْيَى } أي: حياة طيبة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى } [75]. { وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى } أي: المنازل الرفيعة بسبب إيمانهم وعملهم الصالح. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى } [76]. { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى } أي: تطهر من دنس الكفر والمعاصي، بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة. لطائف: من " الكشاف " و " حواشيه للناصر ". الأولى: في تخيير السحرة بين إلقاء موسى وإلقائهم، استعمال أدب حسن معه، وتواضع له وخفض جناح. وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم. وكأن الله عزّ وعلا ألهمهم ذلك، وعلم موسى - صلوات الله عليه - اختيار إلقائهم، أوّلاً، مع ما فيه من مقابلة أدب بأدب، حتى يبرزوا ما معهم من مكايد السحر، ويستنفدوا أقصى طرقهم ومجهودهم. فإذا فعلوا أظهر الله سلطانه، وقذف بالحق على الباطل فدمغه، وسلط المعجزة على السحر فمحقته، وكانت آية نيرة للناظرين. وعبرة بينة للمعتبرين. وقبل ذلك تأدبوا معه بقولهم: { فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ } ففوضوا ضرب الموعد إليه، وكما ألهم الله عزَّ وجلَّ موسى ها هنا، أن يجعلهم مبتدئين بما معهم، ليكون إلقاؤه العصا، بعدُ، قذفاً بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، كذلك ألهمه من الأول، أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم، ليكون الحق أبلج على رؤوس الأشهاد، فيكون أفضح لكيدهم وأهتك لستر حرمهم. الثانية: جوز في إِيثار قوله تعالى: { مَا فِي يَميِنِكِِ } على: { عَصَاكَ } وجهان: أحدها: أن يكون تعظيماً لها. أي: لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة. فإِن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها. وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عنده. فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها. وثانيهما: أن يكون تصغيراً لها أي: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم. وألق العُوَيْد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك. فإِنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها. وإِنما المقصود بتحقيرها في جنب القدرة، تحقير كيد السحرة بطريق الأوْلى. لأنها إذا كانت أعظمُ مُنَّةً وهي حقيرة في جانب قدرة الله تعالى، فما الظن بكيدهم وقد تلقفته هذه الحقيرة الضئيلة؟ ولأصحاب البلاغة طريق في علوّ المدح بتعظيم جيش عدوّ الممدوح، ليلزم من ذلك تعظيم جيش الممدوح وقد قهره واستولى عليه. فصغر الله أمر العصا، ليلزم منه كيد السحرة الداحض بها في طرفة عين. واعلم أنه لا بد من نكتة تناسب الأمرين - التعظيم والتحقير - وتلك، والله أعلم، هي إرادة المذكور مبهماً، لأن: { مَا فِي يَميِنِكِِ } أبهم مِنْ: { عَصَاكَ } وللعرب مذهب في التنكير والإبهام، والإجمال، تسلكه مرة لتحقير شأن ما أبهمته، وأنه عند الناطق به أهون من أن يخصه ويوضحه. ومره لتعظيم شأنه، وليؤذن أنه من عناية المتكلم والسامع بمكان، يغني في الرمز والإِشارة. فهذا هو الوجه في إِسعاده بهما جميعاً. ثم قال الناصر: وعندي في الآية وجه سوى قصد التعظيم والتحقير. والله أعلم. وهو؛ أن موسى عليه السلام، أول ما علم أن العصا آية من الله تعالى، عندما سأله عنها بقوله تعالى: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى } ثم أظهر له تعالى آيتها، فلما دخل وقت الحاجة إلى ظهور الآية منها، قال تعالى: { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ } ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ } وقد أظهر له آيتها، فيكون ذلك تنبيهاً له وتأنيساً، حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت ظهور آيتها. وذلك مقام يناسب التأنيس والتثبيت. ألا ترى إلى قوله تعالى: { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى }؟ انتهى. ولأبي حيان نكتة أخرى. وهي ما في اليمين من الإشعار باليمن والبركة. ولا يقال جاء في سورة الأعراف: { أَلْقِ عَصَاكَ } والقصة واحدة. لأنه يجاب بأنه مانع من رعاية هذه النكتة فيما وقع هنا، وحكاية ما جاء بالمعنى. هذا وقال الشهاب الخفاجي: فيما ذكروه نظر لأنه إنما يتم إذا كان الخطاب بلفظ عربي أو مرادفٍ له، يجري فيه ما يجري فيه. والأول خلاف الواقع. والثاني دونه خرط القتاد، فتأمل. أقول: إِنما استبعد الثاني، لتوهم أن لا بلاغة ولا نكات إلا في اللغة العربية. مع أن الأمر ليس كذلك. وحينئذ فيتعين الثاني. وهو ظاهر. وبه تستعاد تلك اللطائف. ثم أشار تعالى إلى عنايته بموسى وقومه، من إِنجائهم وإِهلاك عدوهم، وقد طوى هنا ما فصل في آيات أخر: بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى } [77]. { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي } أي: سر بهم من مصر ليلاً: { فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً } أي: يابساً. فضرب موسى بعصاه البحر فانفلق وجاوزه إلى ساحله: { لا تَخَافُ دَرَكاً } أي: لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوك من ورائك { وَلا تَخْشَى } أي: غرقاً من بين يديك , ووحلاً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى } [78 - 79]. { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ } لأنه ندم على الإِذن بتسريحهم من مصر، وأنهم قهروه على قلتهم كما قال: { إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } [الشعراء: 54 - 55]، فتبعهم ومعه جنوده حتى لحقوهم، ونزلوا في الطريق الذي سلكوه. ففاجأهم الموج كما قال تعالى: { فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } أي: علاهم منه وغمرهم، ما لا يحاط بهوله: { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى } أي: أوردهم الهلاك، بعتوّه وعناده في الدنيا والآخرة. وما هداهم سبيل الرشاد. ثم ذكر تعالى نعمه على بني إِسرائيل ومننه الكبرى، وما وصاهم من المحافظة على شكرها، وحذرهم من التعرض لغضبه بكفرها، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَا بَنِي إِسْرائيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } [80 - 81]. { يَا بَنِي إِسْرائيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ } وهو فرعون وقومه. فقد كانوا يسومونكم سوء العذاب. يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم. وذلك بأن أقر أعينكم منهم، بإِغراقهم، وأنتم تنظرون: { وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ } أي: بمناجاة موسى وإنزال التوراة عليه. واليهود السامرية تزعم أن هذا الجبل في نابلس ويسمونه جبل الطور ويذكر في الجغرافيا بلفظ عيبال ولهم عيد سنوي فيه يصعدون إليه، ويقربون فيه القرابين. والله أعلم. قال الزمخشري: وإِنما عدَّى المواعدة إليهم، لأنها لابستهم واتصلت بهم، حيث كانت لنبيهم ونقبائهم. وإِليهم رجعت منافعها التي قام بها دينهم وشرعهم، وفيما أفاض عليهم من سائر نعمه وأرزاقه. وجانب مفعول فيه، أو مفعول به على الاتساع. أو بتقدير مضاف. أي: إِتيان جانب { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أي: من لذائذه. فإِن المن كالعسل. والسلوى من الطيور الجيد لحمها: { وَلا تَطْغَوْا فِيهِ } أي: فيما رزقناكم، بأن يتعدى فيه حدود الله، ويخالف ما أمر به: { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } أي: هلك. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } [82]. { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } أي: تاب عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق، وعمل صالحاً بجوارحه، ثم اهتدى، أي: استقام وثبت على الهدى المذكور. وهو التوبة والإِيمان والعمل الصالح. ونحوه قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } [فصلت: 30] و [الأحقاف: 13]، وفي الآية ترغيب لمن وقع في وهدة الطغيان، ببيان المخرج له منه، كي لا ييأس. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى } [83]. { وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى } أي: أي: شيء عجّل بك عنهم، على سبيل الإنكار، وكان قد مضى معه النقباء الذين اختارهم من قومه إلى الطور، على الموعد المضروب، ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه ورضاه. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } [84]. { قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي } أي: قادمون ينزلون بالطور، وإِنما سبقتهم بما ظننت أنه خير. ولذا قال: { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } أي: عني، بمسارعتي إلى الامتثال بأمرك. واعتنائي بالوفاء بعهدك. وزيادة رَبِّ لمزيد الضراعة والابتهال، رغبةً في قبول العذر. أفاده أبو السعود. فإِن قيل: كان مقتضى جواب السؤال من موسى أن يقول: طلب زيادة رضاك أو الشوقُ إلى كلامك , فالجوابُ. أن هذا من الغفلة عن سرِّ الإنكار. وذلك لأن الإنكار بالذات إنما هو للبعد والانفصال عنهم. فهو منصبّ على القيد. كما عرف في أمثاله. فالسؤال في المعنى عن الانفصال الذي يتضمنه أعجلك المتعدي بمن. وإنكار العجلة لأنها وسيلة له. فالجواب: { هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي }. وقوله: { وَعَجِلْتُ } الخ تتميم. وقيل الجواب إنما هو قوله: { وَعَجِلْتُ } الخ، وما قبله تمهيد له. وقال الناصر: إنما أراد الله بسؤاله عن سبب العجلة، وهو أعلم، أن يعلم موسى أدب السفر. وهو أنه ينبغي تأخُّرُ رئيس القوم عنهم في المسير، ليكون نظره محيطاً بطائفته، ونافذاً فيهم، ومهيمناً عليهم. وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم، ألا ترى الله عزّ وجلّ كيف علم هذا الأدب، لوطا، فقال: { وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ } [الحجر: 65]، فأمره أن يكون أخيرهم. على أن موسى عليه السلام إنما أغفل هذا الأمر مبادرة إلى رضاء الله عزَّ وجلَّ، ومسارعة إلى الميعاد. وذلك شأن الموعود بما يسره، يود لو ركب إليه أجنحة الطير. ولا أسَرَّ من مواعدة الله تعالى له صلى الله عليه وسلم. انتهى. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } [85]. { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ } أي: ابتليناهم بعد ذهابك للمناجاة: { وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } يعني اليهوديّ الذي وسوس لهم أن يعبدوا عجلاً يتخذوه إلهاً، لما طالت عليهم غيبة موسى ويئسوا من رجوعه. والسامري في لغة العرب، بمعني اليهودي. وقد قال بالظن، من ادعى تسميته أو حاول تعيينه. وأما الطائفة السامرية الآن فهم فئة من اليهود في نابلس قليلة العدد تخالف بقية اليهود في جلّ عاداتها. وقد تضمنت هذه الجملة - أعني إخباره تعالى لموسى بالفتنة - الأمر - برجوعه لقومه، وإصلاحه ما فسد من حالهم، كما قال تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي } [86]. { فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } أي: حزيناً: { قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } أي: بإنزال التوراة عليَّ، ورجوعي بها إليكم: { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ } أي: زمان الإنجاز، أو مجيئي: { أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي } أي: وعدكم إياي بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } [87 - 88]. { قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } قرئ بالحركات الثلاث على الميم. قال الزمخشري: أي: ما أخلفنا موعدك، بأن ملكنا أمرنا. أي: لو ملكنا أمرنا، وخلينا وراءنا، لما أخلفناه. ولكن غلبنا من جهة السامريّ وكيده: { وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا } بفتح الحاء مخففاً، وبضمها وكسر الميم مشدداً: { أَوْزَاراً } أي: أثقالاً وأحمالاً: { مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ } أي: من حلي القبط، قوم فرعون، وهو حليُّ نسائهم: { فَقَذَفْنَاهَا } أي: في النار لسكبها: { فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ } أي: كان إلقاؤه: { فَأَخْرَجَ لَهُمْ } أي: من تلك الحليّ المذابة: { عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ } أي: صوت عجل. وقد قيل: إنه صار حيّاً، وخار كما يخور العجل. وقيل: لم تحلّه الحياة وإنما جعل فيه منافذ ومخارق، بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوت يشبه صوت العجل. أفاده الرازي. وقوله: { فَقَالُوا } أي: السامريُّ ومن افتتنوا به: { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } أي: غفل عنه وذهب يطلبه في الطور. ثم أنكر تعالى على من ضل بهذا العجل وأضل. مسفهاً لهم فيما أقدموا عليه، مما لا يشتبه بطلانه على أحد، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً } [89]. { أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ } أي: العجل: { إِلَيْهِمْ قَوْلاً } أي: لا يردد لهم جواباً: { وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً } أي: دفع ضرّ ولا جلب نفع، أي: فكيف يتخذ إلهاً؟. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي } [90]. { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ } أي: قبل رجوع موسى إليهم: { يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ } أي: ضللتم بعبادته: { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي } في عبادته سبحانه، ونبذ العجل. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } [91 - 93]. { قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ } أي: موسى: { يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ } أي: في الغضب لله، وشدة الزجر عن الكفر. و لا مزيدة. أو المعنى ما حملك على أن لا تتبعني، بحمل النقيض على النقيض. فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابله. أو ما منعك أن تلحقني وتخبرني بضلالهم، فتكون مفارقتك مزجرة لهم: { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } وهو ما أمره به من أن يخلفه في قومه، ويصلح ما يراه فاسداً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [94]. { قَالَ } أي: هارون: { يَا ابْنَ أُمَّ } بكسر الميم وفتحها. أراد أمي وذكرُها أعطف لقلبه: { لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي } أي: بشعره. وكان قبض عليهما يجره إليه من شدة غضبه: { إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ } أي: بتركهم لا راعي لهم: { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } أي: لم تراعه في الاستخلاف والوجود بين ظهرانيهم. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ } [95]. { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ } أي: ثم أقبل على السامري وقال له منكراً: ما شأنك فيما صنعت؟ وما دعاك إليه؟. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً } [96 - 97]. { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ } أي: فطنت لما لم يفطنوا له: { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا } أي: في الحلي المذاب حتى حَيَّ: { وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } أي: حسّنته وزينته: { قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ } أي: لعذابك: { مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً } أي: لنطيّرنّه رماداً في البحر، بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر. تنبيهات: الأول: اعلم أن هارون عليه السلام، سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه. لأنه زجرهم عن الباطل، أوّلاً بقوله: { إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ } ثم دعاهم لمعرفة الله تعالى ثانياً بقوله: { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ } ثم دعاهم ثالثاً إلى معرفة النبوة بقوله تعالى:: { فَاتَّبِعُونِي } ثم دعاهم إلى الشرائع رابعاً بقوله: { وَأَطِيعُوا أَمْرِي } وهذا هو الترتيب الجيّد. لأنه لا بد قبل كل شيء في إماطة الأذى عن الطريق، وهو إزالة الشبهات. ثم معرفة الله تعالى، فإنها هي الأصل. ثم النبوة ثم الشريعة. فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه. أفاده الرازي. وقد برأ الله تعالى بهذه الآيات البينات، هارون عليه السلام مما افتراه عليه كتبة التوراة من أنه هو السامري الذي اتخذ العجل وأمر بعبادته، كما هو موجود عندهم. وهو من أعظم الفرى، بلا امترا. الثاني: عامة المفسرين قالوا: المراد بالرسول في قوله تعالى: { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } هو جبريل عليه السلام. وأراد بأثره، التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته. ثم اختلفوا: أن السامري متى رآه؟ فقيل: إنما رآه يوم فلق البحر. وقيل: وقت ذهابه بموسى إلى الطور. واختلفوا أيضاً في: أن السامري كيف اختص برؤية جبريل عليه السلام، ومعرفته من بين سائر الناس؟ فقيل إنما عرفه لأنه رآه في صغره، وحفظه من قتل آل فرعون له، وكان ممن رباه. وكل هذا ليس عليه أثارة من علم ولا يدل عليه التنزيل الكريم. ولذا قال أبو مسلم الأصفهاني: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون. فههنا وجه آخر وهو: أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام. وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر ويقبض أثره، إذا كان يمتثل رسمه. والتقدير، أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل، فقال: { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ } أي: عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، أي: شيئاً من سنّتك ودينك. فقذفته، أي: طرحته. فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة. وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب، كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير في كذا؟ وبماذا يأمر الأمير؟. وأما دعاؤه موسى عليه السلام رسولاً، مع جحده وكفره، فعلى مثل مذهب من حكى الله تعالى عنه قوله: { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [الحجر: 6]، وإن لم يؤمنوا بالإنزال. انتهى. قال الرازي: ما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق مما ذكره المفسرون، لوجوه: أحدها: أن جبريل عليه السلام ليس بمشهور باسم الرسول. ولم يجر له فيما تقدم ذكر، حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه. فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل عليه السلام، كأنه تكليف بعلم الغيب. وثانيها: أنه لا بد فيه من الإضمار. وهو قبضة من أثر حافر فرس الرسول , والإضمار خلاف الأصل. وثالثها: أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته؟ ثم كيف عرف أن لِتُرَابِ حافر فرسه هذا الأثر؟ والذي ذكروه من أن جبريل عليه السلام هو الذي رباه، فبعيد. لأن السامري، إن عرف جبريل حال كمال عقله، عرف قطعاً أن موسى عليه السلام نبيّ صادق. فكيف يحاول الإضلال؟ وإن كان ما عرفه حال بلوغ، فأي منفعة لكون جبريل عليه السلام مربياً له حال الطفولية، في حصول تلك المعرفة؟ انتهى. التنبيه الثالث: في قوله: { لاَ مسَاسَ } وجوه: أحدها: إني لا أَمَسُّ ولا أُمَسُّ. وثانيها: المراد المنع من أن يخالط أحداً أو يخالطه أحد، عقوبة له. ثالثها: ما ذكره أبو مسلم من أنه يجوز في حمله: ما أريد مسي النساءَ , فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله. فلا يكون له ولد يؤنسه، فيخليه الله تعالى من زينتي الدنيا اللتين ذكرهما بقوله: { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [الكهف: 46]، أي: لأن المسّ يكنى به عن النكاح كما في آية: { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } [البقرة: 237]، والله أعلم. ولما فرغ موسى عليه السلام من إبطال ما دعا إليه السامري، عاد إلى بيان الدين الحق، فقال: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [98]. { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ } أي: المستحق للعبادة والتعظيم: { اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } أي: أحاط علمه كل شيء. ثم أشار تعالى إلى فضله، فيما قصه على خاتم رسله صلوات الله عليه، من أنباء الأنبياء، تنويهاً بشأنه، وزيادة في معجزاته، وتكثيراً للاعتبار والاستبصار في آياته، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً } [99]. { كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً } أي: كتاباً عظيماً جامعاً لكل كمال، وسمي القرآن: { ذِكْراً } لما فيه من ذكر ما يحتاج إلى الناس من أمر دينهم ودنياهم، ومن ذكر آلاء الله ونعمائه. ففيه التذكير والمواعظ، ولما فيه من الذكر والشرف له صلوات الله عليه ولقومه. قال الرازي: وقد سمى تعالى كل كتبه ذكراً فقال: { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ } [النحل: 43]، ثم، كما بيّن تعالى نعمته بذلك، بيّن شدة الوعيد لمن أعرض عنه ولم يؤمن به، بقوله: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً } [100 - 101]. { مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً } أي: إثماً. يعني عقوبة ثقيلة. شبهت بالحمل الثقيل لثقلها على المعاقَب وصعوبة احتمالها: { خَالِدِينَ فِيهِ } أي: في احتماله المستمر: { وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً }. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً } [102 - 103]. { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ } بدل من يوم القيامة أو منصوب بمحذوف. والنفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق: { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } [الزمر: 68]، وعلينا أن يؤمن بما ورد من النفخ في الصور. وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور. والبحث وراء هذا، عبث لا يسوغ للمسلم. أفاده بعض المحققين. { وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ } أي: نسوقهم إلى جهنم: { يَوْمَئِذٍ زُرْقاً } أي: زرق الوجوه. الزرقة تقرب من السواد. فهو بمعنى آية: { وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [آل عِمْرَان: 106]. وقال أبو مسلم: المراد بهذه الزرقة شخوص أبصارهم. والأزرق شاخص، لأنه لضعف بصره، يكون محدقاً نحو الشيء يريد أن يتبينه. وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره. وهو كقوله تعالى: { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ } [إبراهيم: 42]، نقله الرازي. والأول أظهر { يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ } أي: يتسارّون من الرعب والهول، أو من الضعف، قائلين: { إِنْ لَبِثْتُمْ } أي: في الدنيا: { إِلَّا عَشْراً } أي: عشر ليال. قال الزمخشري: يستقصرون مدة لبثهم [في المطبوع: لبثم] في الدنيا، إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور، فيتأسّفون عليها ويصفونها بالقصر. لأن أيام السرور قصار. وإما لأنها ذهبت عنهم وتَقَضَّتْ. والذاهب، وإن طالت مدته، قصير بالانتهاء. ومنه توقيع عبد الله بن المعتز تحت: أطال الله بقاءك كفى بالانتهاء قصراً. وإما لاستطالتهم الآخرة، وأنها أبد سرمد، يستقصر إليها عمر الدنيا، ويتقالّ لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة. وقد استرجح الله قول من يكون أشد تقالاً منهم، في قوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً } [104]. { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً } أي: أعدلهم رأياً: { إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً } ونحوه قوله تعالى: { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ } [المؤمنون: 112 - 113]، انتهى. قال أبو السعود: ونسبة هذا القول إلى أمثلهم، استرجاع منه تعالى له، لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق، بل لكونه أدلّ على شدة الهول. أي: ولكونه منتهى الأعداد القليلة. وكذلك لبثهم بالنسبة إلى الخلود السرمديّ، وإلى تقضي الغائب الذي كأن لم يكن. ولا ينافي هذا ما جاء في آية: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ } [الروم: 55]، لأن المراد بالساعة الحصة من الزمان القليل، فتصدق باليوم. كما أن المراد باليوم مطلق الوقت. ولذلك نكر، تقليلاً له وتحقيراً. قال الشهاب: ليس المراد بحكاية قول من قال عَشْراً أو يَوْمَاً أو سَاعَةً حقيقة اختلافهم في مدة اللبث، ولا الشك في تعيينه. بل المراد أنه لسرعة زواله، عبّر عن قلّته بما ذكر. فتفنن في الحكاية، وأتى في كل مقام بما يليق به. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } [105 - 107]. { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ } أي: هل تبقى يوم القيامة أو تزول: { فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } أي: يزيلها عن مقارّها. فيسيّرها مقذوفة في الفضاء. وقد تمرّ على الرؤوس مرّ السحاب. حتى تتساوى مع سطح الأرض. كما قال: { فَيَذَرُهَا } أي: فيذر مقارّها ومراكزها. أو الأرض المدلول عليها بقرينة الحال: { قَاعاً } أي: سهلاً مستوياً: { صَفْصَفاً } أي: أملس: { لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } أي: نتوءاً يسيراً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً } [108]. { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ } أي: يُجيبون الداعي إلى المحشر، فينقلبون من كل صوب إليه: { لا عِوَجَ لَهُ } أي: لا يعوج له مدعوّ، ولا ينحرف عنه. بل يستوون إليه. متبعين لصوته، سائرين بسيره. في شروح " الكشاف ": هذا كما يقال: لا عصيان له , أي: لا يعصى. ولا ظلم له أي: لا يظلم. وضمير له: للداعي. وقيل: للمصدر. أي: لا عوج لذلك الاتباع: { وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ } أي: انخفضت لهيبه ولهول الفزع: { فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً } أي: صوتاً خفيّاً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } [109]. { يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } أي: قبل قوله. والمعنى: يومئذ لا يستطيع أحد أن يشفع لأحد، إلا إذا أذن الله له. ولا يأذن إلا لمن علم أنه سيجاب. قال بعض المحققين: وإنما يكون الكلام ضرباً من التكريم، لمن يأذن الله له به، يختص به من يشاء. ولا أثر فيما أراد الله البتة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [110]. { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } أي: بمعلوماته، أو بذاته العلية. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } [111]. { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } أي: ذلت وخضعت خضوع العناة، أي: الأسارى. لأنها في أسر مملكته وذلّ قهره وقدرته. لا تحيا ولا تقوم إلا به. ولما كانت الوجوه يومئذ، منها الظالمة لنفسها ومنها الصالحة، أشار إلى ما يجزي به الكل، بقوله سبحانه: { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } أي: خسر. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً } [112] { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً } أي: نقص ثواب: { وَلا هَضْماً } أي: ولا كسراً منه، بعدم توفيته. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } [113]. { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ } أي: بعبارات شتى، تصريحاً وتلويحاً، وضروب أمثال، وإقامة براهين: { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي: الكفر والمعاصي بالفعل: { أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } أي: اتعاظاً واعتباراً، يؤول بهم إلى التقوى. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً } [114]. { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } أي: تناهى في العلوّ والعظمة، بحيث لا يقدر قدره، ولا يغدر أمره في ملكه الذي يعلو كل شيء، ويصرفه بمقتضى إرادته وقدرته. وفي عدله الذي يوفي كل أحد حقه بموجب حكمته: { وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } أي: بل أنصت. فإذا فرغ المَلَك من قراءته فاقرأه بعده. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقَّنه جبريل الوحيَ، يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة، لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ. فأرشد إلى أن لا يساوقه في قراءته، وأن يتأنَّى عليه ريثما يسمعه ويفهمه. ثم ليقبل عليه بالحفظ بعد ذلك. ونحوه قوله تعالى: { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [القيامة: 16 - 19]، ثم أمره تعالى باستفاضة العلم واستزادته منه بقوله: { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً } أي: سله زيادة العلم. فإن مدده غير متناه. وهذا - كما قال الزمخشري - متضمن للتواضع لله تعالى والشكر له، عندما علم من ترتيب التعلم. أي: علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم، وأدباً جميلاً ما كان عندي، فزدني علماً إلى علم. فإن لك في كل شيء حكمة وعلماً. قيل: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم. ثم أشار تعالى إلى أخذه العهد على بني آدم، من اتّباعهم كل هدى يأتيهم منه سبحانه، وترتب الفوز عليه. وإلى أن الإعراض عنه من وسوسة الشيطان، العدوّ لهم ولأبيهم قبلهم. وترتب الشقاء عليه، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [115]. { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ } أي: من قبل هذا الزمان، أن لا يقرب من الشجرة: { فَنَسِيَ } أي: العهد: { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } أي: تصميماً في حفظه. إذ لو كان كذلك، لما أزلّه الشيطان ولما استطاع أن يغرّه. كما بيّنه الله تعالى بقوله: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } [116 - 117]. { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } أي: بالابتلاء. وإسناد الشقاء إليه خاصة، لأصالته في الأمور، واستلزام شقائه بشقائها. فاختصر الكلام لذلك ,مع المحافظة على الفاصلة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى } [118 - 119]. { إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى } أي: لا تتصوّن من حرّ الشمس. قال أبو السعود: هذا تعليل لما يُوجبه النهي. فإن اجتماع أسباب الراحة فيها. مما يوجب المبالغة في الاهتمام بتحصيل مبادئ البقاء فيها. والجدِّ في الانتهاء عما يؤدي إلى الخروج عنها. والعدولُ عن التصريح بأن له عليه السلام فيها تنعماً بفنون النعم. من المآكل والمشارب، وتمتعَاً بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية، مع أن فيه من الترغيب في البقاء فيها، ما لا يخفى. إلا ما ذكر من نفي نقائضها التي هي الجوع والعطش والعري والضحو، لتذكير تلك الأمور المنكرة والتنبيه على ما فيها من أنواع الشقوة التي حذره عنها، ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها. انتهى. لطيفة: قال الناصر: في الآية سر بديع من البلاغة، يسمى قطع النظير عن النظير. وذلك أنه قطع الظمأ عن الجوع، والضحو عن الكسوة، مع ما بينهما من التناسب. والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها , ولو قرن كلَّاً بشكله لتوهم المعدودات نعمة واحدة. وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديماً وحديثاً، فقال الكندي الأول: ~كَأَنِّي لَم أَرْكَبْ جَوَاداً لِلذَّةٍ ولم أَتَبَطَّن كَاعِباً ذاتَ خِلخَالِ ~ولم أسبأ الزِّقَّ الرويّ ولم أقُل لخيليَ: كُرِّي كَرَّةً بعدَ إِجفَالِ فقطع ركوب الجواد عن قوله: لخيلي كري كرة , وقطع تبطن الكاعب عن ترشف الكاس، مع التناسب. وغرضه أن يعدّد ملاذَّه ومفاخره ويكثرها. على أن هذه الآية سرّاً لذلك، زائداً على ما ذكر، وهو قصد تناسب الفواصل. ولو قرن الظمأ بالجوع فقيل: إن لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ, لانتثر سلك رؤوس الآي. وأحسنْ به منتظماً. انتهى. وهذا السرّ الذي سمّاه: قطع النظير عن النظير يسمى بالوصل الخفي. ومما قيل في وجه القطع: أن فيه التنبيه على أن الأوليْن، أعني الشبع والكسوة أصلان. وأن الأخيرين متممان. فالامتنان على هذا أظهر. ولذا فرّق بين القرينتين. فقيل إنَّ لَكَ وأنَّك وأيضاً روعي مناسبة الشبع والكسوة. لأن الأول يكسو العظام لحماً. وأما الظمأ والضحى فمن وادٍ واحد. وقيل: إن الغرض تعديد هذه النعم. ولو قرن كل بما يشاكله، لتوهم المقرونان نعمة واحدة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [120 - 121]. { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ } أي: من أكل منها خلد ولم يمت: { وَمُلْكٍ لا يَبْلَى فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا } أي: يلزقان: { مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } أي: لهما هذا الخزي، بدل عزّ الملك المخلد. وهذه الأوراق الفانية، بدل نفائس الملابس الخالدة: { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ } أي: بارتكاب النهي، وترك العزم في حفظ العهد: { فَغَوَى } أي: عن المأمور به. حيث اعتز بقول العدوّ. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } [122 - 123]. { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ } أي: اصطفاه ووفقّه للإنابة: { فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ } أي: بعد قبول توبته: { اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً } أي: انزلا من الجنة إلى الأرض: { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } أي: متعادين. قال المهايمي: فالمرأة عدوّة الزوج، في إلجائه إلى تحصيل الحرام. والزوج عدوّها في إنفاقه عليها. وإبليس يوقع الفتنة بينهما , ويدعوهما إلى أنواع المفاسد التي لا ترتفع إلا باتباع الأمر السماويّ { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً } أي: من كتاب ورسول { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } أي: لا في الدنيا ولا الآخرة. قال أبو السعود: ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: هُدَايَ مع الإضافة إلى ضميره تعالى، لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } [124 - 127]. { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } اعلم أنه لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه في معاشه ومعاده، أخبر عن حال من أعرض عنه ولم يتبعه، من شقائه في الدنيا والآخرة. وهذا الشقاء بقسميه، هو نوع من أفانين العذاب اللاحقة لمن تولى عن هدى الله الذي بعث به خاتم أنبيائه، ولم يقبله ولم يستجب له، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمرَ ربه. وفي الآية مسائل: الأولى: قال الرازي في قوله تعالى: { عَن ذِكْرِي }: الذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى. ويحتمل أن يراد به الأدلة. وقال ابن القيّم في " مفتاح دار السعادة ": أي: عن الذكر الذي أنزلته. والذكر هنا مصدر مضاف إلى الفاعل. كقيامي وقراءتي لا إلى المفعول. وليس المعنى: ومن أعرض عن أن يذكرني. بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر. وأحسن من هذا الوجه أن يقال: الذكر هنا مضاف إضافة الأسماء، لا إضافة المصادر إلى معمولاتها. والمعنى: ومن أعرض عن كتابي ولم يتبعه، فإن القرآن يسمى ذكراً. قال تعالى: { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ } [الأنبياء: 50]، وقال تعالى: { ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ } [آل عِمْرَان: 58]. وقال تعالى: { وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } [القلم: 52]. وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ } [فصلت: 41]. وقال تعالى: { إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ } [يس: 11]، وعلى هذا فإضافته كإضافة الأسماء الجوامد التي لا يقصد بها إضافة العامل إلى معموله. ونظيره في إضافة اسم الفاعل: { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } [غافر: 3]، فإن هذه الإضافات لم يقصد بها قصد الفعل المتجدد، وإنما قصد الوصف الثابت اللازم. ولذلك جرت أوصافاً على أعرف المعارف، وهو اسم الله تعالى في قوله تعالى: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ } [غافر: 2 - 3]. الثانية: قرئ ضَنكاً بالتنوين على أنه مصدر وصف به، ولذا لم يؤنث لاستوائه في القبيلين. كما قال ابن مالك: ~وَنَعَتُوا بمصدرٍ كثيراً فالتَزَمُوا الإِفرادَ والتذكِيرَا وفي القاموس: الضنك الضيق في كل شيء، للذكر والأنثى. يقال: ضَنُكَ ككرم، ضنكاً وضناكة وضنوكة، ضاق. وقال السمين: ضنكاً صفة معيشة. وأصله المصدر فلذلك لم يؤنث. ويقع للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد. وقرأ الجمهور ضنكاً بالتنوين وصلاً وإبداله ألفاً وقفاً كسائر المعربات. وقرأت فرقة ضنكي بألف كسكري. وفي هذه الألف احتمالان: فإما أن تكون بدلاً من التنوين، وإنما أجرى الوصل مجرى الوقف، وإما أن تكون ألف التأنيث بني المصدر على فعلى نحو دعوى. الثالثة: ذكروا في هذه المعيشة الضنك التي للكافر أقوالاً: إنها في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة أو في الدين. والأظهر الأول لمقابلته بالوعيد الأخروي. قال ابن كثير: أي: ضنكاً في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره. بل صدره ضيّق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء. وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك. فلا يزال في ريبه يتردد: فهذا من ضنك المعيشة. انتهى. وذلك لأن الاعتقاد بالدين الحق واليقين الصحيح لراحة الضمائر والأنفس، فوق كل الأهواء والذات والمآرب. فالضنك المعنيّ بها، إذن هو الضنك الحيويّ والقلق الدنيوي، من اضطراب القلب وعدم سكون النفس إلى الاعتقاد الحق والإيمان بالدين القيّم الذي هو دين الإسلام. فكل من لم يؤمن به فهو في ضيق صدر وهموم ومحابس، لا يجد منها مخارج إلا به ولا يرتاب في ذلك من كابر حسه وناقض وجدانه. فإن دين الإسلام هو دين الفطرة. دين اليسر. دين العقل. دين النور الذي تنشرح به الصدور وتطمئن به القلوب وتشفى به الأنفس من أدوائها، وتهتدي به من ضلالها وحيرتها، وتستنير به من ظلماتها. ولذلك سمي هدىً ونوراً وشفاءً ورحمةً. ألق نظرك على الأديان كلها، وقابل بينها وبينه، لتدرك ذلك. هذه اليهودية، يرى في اشتراعها في الآصار والأغلال والتكاليف الشاقة في المعيشة الحيوية ما لا يطاق. قيود في المأكل والمشرب. وحجر في المنكح والمبيت والمعاشرة. وضغط على الأنفس بتقسيمها إلى طاهرين يحضرون الاحتفالات، ونجسين مبعدين لا يَلْمسون ولا يُلْمسون. دع عنك خرافات الاعتقادات والافتراء بالأهواء في التشريعات وتشعبها في الأهواء إلى شعب تتباين في العبادات. وهذه النصرانية، الذي أساسها تعديل الشرعة الموسوية قام رهبانها بعد رفع المسيح، ومضي عصر الحواريين. فأطلقوا لأتباعهم كل قيد في اليهودية. وأمروهم بنبذ أحكام التوراة نكاية لليهود. وأخذوا يشرعون للناس ما لا ينطبق على أصل التوراة ولا بعثة عيسى. فإنه عليه السلام قال: ما جئت لأهدم الناموس - التوراة - بل لأتممه. فترى ما أحدث من طقوس الكنيسة وتعاليمها، اعتقاداً وعبادة وسلطة وسيطرة جائرة على العقل والفكر، وربط الأمور بأيدي الكهنة حلاَّ وإبراماً، تبعاً لرغائب الأنفس والشهوات، مما يتضجر منه كل مسيحيّ ذاق جوهر الدين المسيحي حقّاً. إذ جوهره مع ابتداعهم على طرفي نقيض، فأنَّى لا يضيق ذرعه ولا تضنك معيشته! لذلك لما استقر سلطان الإسلام بالأندلس، واحتك النصارى بالمسلمين في الحروب الصليبية، واستمدوا من معارف الإسلام وعلومه ما قلد جيدهم منناً لا تنكر؛ أخذوا يقاومون الكنيسة في حظرها على المعارف والفنون، ومعاداتها للعلوم. وجرى بإغراء الكهنة، من الدماء المسفوكة ما اسودت به صحف التاريخ. ثم كان الفوز لدعاة الإصلاح. وتفرقوا أحزاباً. ولا يزالون يتقربون إلى الإسلام، بنبذهم سخائف ما ورثوه. ولذا تراهم في عيشة ضنك يسعون لأرقى مما هم عليه، علماً بأن الدخائل والبدع في دينهم، أفسدت عليهم ما أفسدت. ولن يتسنى لهم الرقي إلا بالرجوع إلى دين الفطرة. وهم يسعون إليه، وإن كانوا لا يشعرون، أو يشعرون ويتجاهلون. هذه رشحات من المعيشة الضنك لأمتين عظيمتين، وهما تنتميان إلى كتابين منزلين.. فما ظنك بالمجوس والوثنيين وفرقهم التي لا تحصى. ولا يزال عقلاؤهم يطلبون التملص منها، لكثرة خرافاتها وضررها، نفساً ومالاً وعرضاً. فأهلها في شقاء وعذاب لا يشاكله عذاب. ومن نجا من ويلاتها بالإسلام، لا يعد ولا يحصى. وقس على هؤلاء، الطائفة المسماة بالماديين. وهم الدهريون والطبيعيون. فإنهم بلا ريب أضيق صدراً وأضنك معيشةً وأشد اضطراباً وأعظم فرقة. فلا يمكن أن يوجد اثنان على رأي واحد. بل يتصور كل منهم إلهه كما يهوى وكما تخيِّلُهُ له رغائبه وشهواته. قال بعضهم: هؤلاء الذين يحصرون دينهم في أن يعرف الإنسان الله، ويكون مستقيماً في أعماله، إذا سئلوا: ما هو الدين الطبيعي الذي تعترفون به؟ فيجيبون إنما هو الذي يرشد إليه العقل عريّاً عن الوحي. فيقال لهم: العقل، من حيث هو، ضعيف متغيّر قاصر. يرى اليوم صوباً ما يراه في الغد خطأً. ويحكم اليوم على أمر أنه حلال مباح، ويرى غداً أنه حرام لا يجوز إتيانه. تحمله أغراضه على استحلال ما يلذّ له وتجعله مستنفراً مما يضادّ أهواءه، فكيف يكون صاحبه مستقيماً في أعماله؟ وما هي القاعدة المطردة الثابتة للاستقامة عند هؤلاء؟ وكل يرى نفسه ويخيّل له أنه مستقيم!! فالصيني مثلاً يرى نفسه مستقيماً ولو باع أو قتل أولاده. والهندي يرى هذه الاستقامة في نفسه، ولو أحرق المرأة على جثة رجلها. والوثني يرى نفسه مستقيماً، ولو ارتكب الفحشاء تكرمة للزهرة. هذا، وإن أكبر الفلاسفة ضلّوا في موادّ ما يشرعون. ولم يهتدوا لجادّة الاستقامة الحقة. فأنَّى يمكن لعامة الناس أن يكون لكل منهم دين طبيعي يقبله كيف شاء، ويجعله كشيء مرن، يمده إلى ما طاب له، ويقصره عن كل ما عافه. فيختلف هذا الدين باختلاف العقول والأهواء فيهم. وكيف نسمي شريعة ثابتة عامة، ما كان وقفاً على إرادة كل فرد وأهوائه؟ وإذا سلمنا، مجاراة، أنه يوجد من كان ميّالاً طبعاً إلى الاستقامة والعدل والعفة، فيحمله طبعه على ذلك، فماذا نقول فيمن كان بالطبع محبّاً للانتقام والاعتداء والشهوات. لا سيما والعقل ضعيف والنفس أمّارة بالسوء، فأنَّى يكون العقل وحده وازعاً عن ارتكاب المعاصي والجرائم. فما قضى سبحانه بشريعته لمخلوقاته رحمة منه بهم، إلا لضعفهم وميلهم إلى الشر. وضعف الإنسان وانحرافه يقضي بإلزامه شريعة يخضع لها. فهي ضرورية له ضرورة نظام الأجرام الفلكية لها. وملازمة له ملازمة النطق والإدراك والحرية، ولزوم الامتداد والثقل والجذب والدفع للأجرام الجامدة. وأول بينة على ملازمة الشريعة طبعَ الإنسان، ما يجده في نفسه ووجدانه من انغراسها فيه انغراساً نظريّاً. حتى لا يمكنه أن يجرّد نفسه. مثلاً، كيف يمكن للإنسان، ولو مهما تعامى في الشر، أن يجرّد نفسه عن تصور أنه خاضع لشريعة تنهاه عن القتل واختلاس مال غيره والاعتداء عليه بأيّ نوع كان؟ فالشريعة مكتوبة على قلوبنا في ألواح لحمية. ومن بحث عن عموم سكان البسيطة، وجد إجماع القبائل والشعوب قاطبة على شرائع، وإن اختلفت في بعض موادها. والحرية التي منحت للإنسان إنما قيدت محاسنها بالشرائع والخضوع لها. وإلا فهي دمار لنظام العالم، وجائحة للأدب، وآفة لما غرس البارئ في عقول الناس أجمعين، من عهد آدم إلى يومنا هذا. وذلك لاستلزامها إفساد الطبع الإنساني، والإجحاف بالشرائع الأدبية. لأن الإنسان متى علم أن ليس له إله يثيب على الخير ويعاقب على الشر، أطلق لنفسه عنان الفاسد، واطّرح العذار في مضمار الشهوات وإحراز الرغائب، قضاء لما يحسبه من سعادته، واعتقاد أن نفسه ليست خالدة. وليس لسعادته موضوع خارج عن هذه العاجلة. ولاستلزامها أيضاً هدم الاجتماع الإنسانيّ والذهاب بشأفته. إذ لا ترعى بعد الله ذمة بين الملأ, ولا حرمة للسنن والشرائع, ولا برٌّ بالملوك، ولا عدل بالرعية، ولا محبة ولا صدق ولا وفاء ولا نحو ذلك مما هو ضروريّ بالذات لقيام الألفة البشرية ونظام العمران. وبالجملة، فلا يظنن أحد أن العالم يدوم أو يبقى فيه شيء من النظام أو الهيئة الاجتماعية، إذا لم يكن الناس مقيّدين بشريعة إلهية، تصدّ الفاجر عن الفجور. فكما أن الهواء ضروريّ للحياة الطبيعية، فكذا الشريعة ضرورية للحياة الأدبية. فلا حياة للموجودات الحية دون هواء، فكذا لا انتظام ولا هيئة في العالم دون الشريعة. انتهى. وقال إمام مدقق، في بحث تصحيح الاعتقاد وضرورته لطمأنينة النفس وسعادتها، ما مثاله: إنا نرى أمام أعيننا بعضاً من الناس قد رزقوا صحة عظيمة وثروة جسيمة وتهذبوا بأنواع العلوم والمعارف، ولكنهم كثيرو الضجر شديدو الحيرة. لا يكادون يشعرون بالراحة ولا يتلذذون بملذة. كأن لهم في لذة ألماً، وبإزاء كل فرح ترحاً، يحسّون بكآبة قد رانت على صدورهم: فلا يعلمون سببها ولا يعرفون موجبها. كآبة لا تزايلهم إلا بزوال عقولهم عنهم، بكأس من الرحيق. فلذلك تراهم شديدي الكلف به كثيري التحرق لفقدانه، لأنه دواؤهم الوحيد. ما سر هذا الأرق والضجر، مع هذه الصحة الجسمية وتلك الثروة المالية، وهما الأمران اللذان عليهما، كما يزعمون، مدار السعادة الإنسانية؟ ما هذه الحيرة الوجدانية والوحشة الضميرية، مع تهذبهم بأنواع العلم، وهو كما يزعمون، الشافي للناس من نزعات الوسواس؟. أما يدلنا هذا الضجر السري على أن النفس تائقة لأمر ما، إن غاب على الإنسان علمه، فقد دله عليه أثره. وإن ذلك الأمر ليس هو صحة البدن ولا وفرة المال ولا كثرة البنين، ولا سكنى القصور، ولا أكل الصنوف، ولا سماع العيدان، ولا مغازلة الغيد. بل هو أمر آخر لا تعد هذه الملاذ بالنسبة له إلا هباء، ولا الأكوان بجانبه إلا فناءً.. ما هو هذا الأمر السامي الذي لو حصلت عليه النفس اطمأنت وسكنت، وهامت به وسكرت، ورضيت به وقنعت. هو لا شك صحة المعتقد، وإليك الدليل: ليست النفس من طبيعة هذه الأجسام الصماء. ولا من طينة هذه المادة العمياء، حتى تأنس إلى شيء من أشياء هذه الأرض الحقيرة، أو تهتم بملاذها مهما كانت كبيرة. بل هي من طبيعة نورانية محضة. فلا تأنس إلا لنور يجلي عنها ظلمات الأشياء الأرضية الكثيفة، لتشرف على حضرة القدس المنيفة، وتطل على حظائرها الشريفة. النفس أجلّ من أن تقنع بالمشتهيات الجسمانية، وأكبر من أن ترضى بملاذها المموهة الفانية. فمهما غالط الإنسان نفسه، بجمع المال ورفاهة الحال، ليرتاح سره ويسكن اضطرابه، فإن النفس لا تفتأ تقيم عليه الحجة بعد الحجة، ليهتدي إلى وَضَحِ المحجة. فإن تبصر في أمره، واكتنه حقيقة سره، وأنال نفسه بغيتها من إبلاغها نورها المرجوّ لها، سكن فؤاده وآب إليه رشاده. ولو كان جسمه بين القنا والقنابل. وحاله من الفقر في أخس المنازل. فما هو السبيل إلى إبلاغ هذه النفس الهائمة أمنيتها، وإمتاعها بطلبتها، من صحة العقيدة؟ السبيل لذلك هو العقل السليم. العقل في النوع الإنسانيّ خصيصة من أجلّ خصائصه، ومنحة من أفضل منح الله عليه، لو استعمل فيما وضع له، واعتنى بصحته واعتداله. بالعقل يسبر الإنسان غور هذا الوجود العظيم، على ضخامة أجزائه وعظم أبعاده، ويستكنه سير النواميس السائدة عليه، فيستدل بها على وجود الخالق عزَّ وجلَّ، وعلى تنزه أفعاله عن العبث، وصنائعه عن اللهو. كما يستدل به على علمه وتدبيره ورحمته وحكمته، استدلالاً محسوساً لا يقبل شبهة ولا يداخله ريبة. بالعقل يدرس الإنسان أحوال الجمعيات البشرية. في نواميس رقيّها وهبوطها، وأسباب رفعتها وضعتها. ويتصبر في أحوال الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى خلقه هادين مرشدين. فيستدل بالتدقيق فيما جاؤوا به، وفي الآثار التي تركوها، على معنى النبوّة وضرورتها للبشر. وحكمة الله تعالى في اختلاف المدارك والإحساسات، وفي تباين الملل والديانات. بالعقل يميز الإنسان بين أحوال الماضي والحال. فيفرق تبعاً لذلك بين الديانات الخاصة وبين الديانات العامة. ويعثر بتعضيد العلم والبدائة، على الديانة التي يجب أن تكون خاتمة الأديان كلها، وباقية بقاء النوع الإنسانيّ، وهي شريعة خاتم النبيين صلوات الله عليه وسلامه. الرابعة: رأيت للإمام ابن القيّم،رحمه الله ، كلاماً على هذه الآية في كتابيه: " الجواب الكافي " و " مفتاح دار السعادة " فأحببت نقله هنا لفوائده وللعناية بهذه الآية، فإنها جديرة بذلك. قال في " الجواب الكافي " في فصل أَبَان فيه العقوبات المترتبة على المعاصي: ومنها المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة. قال: وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر. ولا ريب أنه من المعيشة الضنك. والآية تتناول ما هو أعمّ منه، وإن كانت نكرة في سياق الإثبات، فإن عمومها من حيث المعنى. فإنه سبحانه رتّب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره. فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإن تنعم في الدنيا بأوصاف النعم، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب، والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه، وإنما تواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة، إن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر. فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر. فإنه يفيق صاحبه، ويصحو. وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا سكر في عسكر الأموات. فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والبرزخ ويوم المعاد. ولا تقرّ العين ولا يهدأ القلب ولا تطمئن النفس إلا بإلهها ومعبودها الذي هو حق، وكل معبود سواه باطل، فمن قرت عينه بالله، قرت به كل عين. ومن لم تقر عينه بالله , تقطعت نفسه على الدنيا حسرات. والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن بالله وعمل صالحاً، كما قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 97]، فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح، الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة، والحسنى يوم القيامة. فلهم أطيب الحياتين وهم أحياء في الدارين. ونظير هذا قوله تعالى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ } [النحل: 30]، ونظيرها قوله تعالى: { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } [هود: 3]، ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة، وحصلوا على الحياة الطيبة في الدارين، فإن طيب النفس وسرور القلب وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته، من ترك الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة، هو النعيم على الحقيقة. ولا نسبة لنعيم البدن إليه، فقد كان بعض من ذاق هذه اللذة يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف. وقال آخر: إنه يمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيّب. وقال آخر: إن في الدنيا جنة، هي في الدنيا كالجنة في الآخرة. من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. وقد أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجنة بقوله: < إذا="" مررتم="" برياض="" الجنة="" فارتعوا.="" قالوا:="" وما="" رياض="" الجنة؟="" قال:="" حلق="" الذكر="">. وقال: < ما="" بين="" بيتي="" ومنبري="" روضة="" من="" رياض="" الجنة=""> ولا تظن أن قوله تعالى: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار: 13 - 14]، يختص بيوم المعاد فقط، بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة. وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة. وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بر القلب وسلامة الصدر ومعرفة الرب تعالى ومحبته والعمل على موافقته؟ وهل عيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم؟ وقد أثنى الله تعالى على خليله عليه السلام بسلامة قلبه فقال: { وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الصافات: 83 - 84]، وقال حاكياً عنه أنه قال: { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء: 88 - 89]، والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة. فسلم من كل آفة تبعده من الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره. وسلم من كل إرادة تزاحم مراده. وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله. فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ وفي جنة يوم المعاد انتهى ملخصاً. وقالرحمه الله في " مفتاح دار السعادة ": فَسَّرَ غير واحد من السلف قوله تعالى: { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً } بعذاب القبر. وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر. ولهذا قال: { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } أي: تترك في العذاب كما تركت العمل بآياتنا. فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوار، ونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [غافر: 46]، فهذا في البرزخ: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } فهذا في القيامة الكبرى. ونظيره قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } فقول الملائكة: { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } المراد به عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت. ونظيره قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } [لأنفال: 50]، فهذه الإذاقة في البرزخ. وأولها حين الوفاة، فإنه معطوف على قوله: { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } وهو من القول المحذوف لدلالة الكلام عليه كنظائره. وكلاهما واقع وقت الوفاة. وفي الصحيح، عن البراء بن عازب في قوله: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } [إبراهيم: 27]، قال: نزلت في عذاب القبر. والأحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر. والمقصود أن الله سبحانه أخبر أن من أعرض عن ذكره هو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى، بأن له معيشة ضنكاً، وتكفل لمن حفظ عهده أن يحيه حياة طيبة ويجزيه أجره في الآخرة فقال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 97]، فأخبر سبحانه عن فلاح من تمسك بعده علماً وعملاً في العاجلة بالحياة الطيبة، وفي الآخرة بأحسن الجزاء. وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ، ونسيانه في العذاب في الآخرة. وقال سبحانه: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [الزخرف: 36 - 37]، فأخبر سبحانه أن ابتلاءه بقرينه من الشياطين وضلاله به، إنما كان لسبب إعراضه وعشوّه عن ذكره الذي أنزله على رسوله. فكان عقوبة هذا الإعراض، أن قيض له شيطاناً يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه. وهو يحسب أنه مهتد. حتى إذا وافى ربه يوم القيامة من قرينه، وعاين هلاكه وإفلاسه قال: { يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } [الزخرف: 38]، وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله، فلا بد أن يقول هذا يوم القيامة. فإن قيل: فهل لهذا عذر في ضلاله، إذا كان يحسب أنه على هدى كما قال تعالى: { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [الزخرف: 37]؟ قيل: لا عذر لهذا وأمثاله في الضلال، الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول. ولو ظن أنه مهتد، فإنه مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى. فإذا ضل فإنما أُتَي من تفريطه وإعراضه. وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة، وعجزه عن الوصول إليها، فذاك له حكم آخر. والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول. وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إقامة الحجة عليه كما قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15]، وقال تعالى: { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [النساء: 165]، وقال تعالى في أهل النار: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } [الزخرف: 76]، وقال تعالى: { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [الزمر: 56 - 59]، وهذا كثير في القرآن. الخامسة: قال ابن القيم: اختلف في قوله تعالى: { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [124]: { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى } [125] هل هو من عمى البصيرة أو من عمى البصر؟ والذين قالوا هو من عمى البصيرة، إنما حملهم على ذلك قوله تعالى: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [38]، وقوله: { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [قّ: 22]، وقوله: { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ } [الفرقان: 22]، وقوله: { لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ } [التكاثر: 6 - 7]، ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية في الآخرة لقوله: { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ } [الشورى: 45]، وقوله: { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ } [الطور: 13 - 15]، وقوله: { وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا } [الكهف: 53]. والذين رجحوا أنه من عمى البصر، قالوا: السياق يدل عليه لقوله: { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً } وهو لم يكن بصيراً في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق. فكيف يقول: { وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً } وكيف يجاب بقوله: { كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا }؟ بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمي البصر وأنه جوزي من جنس عمله. فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته، أعمى الله به بصره يوم القيامة، وتركه في العذاب، كما ترك الذكر في الدنيا، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة. وعلى تركه ذكره، تركه في العذاب. وقال تعالى: { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } [الإسراء: 97]، وقد قيل في هذه الآي أيضاً: إنهم عمي وبكم وصم عن الهدى. كما قيل في هذه الآية قوله: { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [124]، قالوا لأنهم يتكلمون يومئذٍ ويسمعون ويبصرون. ومن نَصَرَ أنه العمى والبكم والصمم، المضادّ للبصر والسمع والنطق، قال: هو عمي وصمم وبكم مقيد لا مطلق. فهو عمي عن رؤية ما يسرهم وسماعه. وهذا قد روي عن ابن عباس قال: لا يرون شيئاً يسرهم. وقال آخرون: هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة، يخرجون من الدنيا كذلك. فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك. ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد. وهذا مروي عن الحسن. وقال آخرون: هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها، سلبوا الأسماع والأبصار والنطق، حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى: { اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون: 108]، فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم فَيُبْصَرُونَ بأجمعهم، عمياً بكماً صمّاً، لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون. ولا يسمع فيها بعدها إلا الزفير والشهيق. وهذا منقول عن مقاتل. والذين قالوا: المراد به العمي عن الحجة، إنما مرادهم أنهم لا حجة لهم، ولم يريدوا أن لهم حُجَّةً، هم عُمْيٌ عنها، بل هم عُمْيٌ عن الهدى كما كانوا في الدنيا. فإن العبد يموت على ما عاش عليه. ويبعث على ما مات عليه. وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر، وأنه عمي البصر. وأن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عياناً، ويقرّ بما كان يجحد في الدنيا. فليس هو أعمى عن الحق يومئذ. وفصل الخطاب؛ أن الحشر هو الضم والجمع. ويراد به تارة الحشر إلى موقف القيامة، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم < إنكم="" محشورون="" إليّ="" حفاة="" عُراة=""> وكقوله تعالى: { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [التكوير: 5]، وكقوله تعالى: { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [الكهف: 47]، ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر. فحشر المتقين جمعهم وضمهم إلى الجنة. وحشر الكافرين جمعهم وضمهم إلى النار. لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا: { يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [الصافات: 20 - 21]، ثم قال تعالى: { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } [الصافات: 22]، الآية وهذا الحشر الثاني، وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف والحشر الثاني. يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون، وعند الحشر الثاني يحشرون على وجوههم عمياً وبكماً وصماً. ولكل موقف حال يليق به، ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته. فالقرآن يصدق بعضه بعضاً: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء: 82]. انتهى. السادسة: قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } أي: لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك، تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها. كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك: { فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } [الأعراف: 51]، فإن الجزاء من جنس العمل. فالنسيان مجاز عن الترك. قال ابن كثير: فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه، والقيام بمقتضاه، فليس دخلاً في هذا الوعيد الخاص. وإن كان متوعداً عليه من جهة أخرى. فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك. روى الإمام أحمد عن سعد بن عُبَاْدَة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: < ما="" من="" رجل="" قرأ="" القرآن="" فنسيه،="" إلا="" لقي="" الله="" يوم="" يلقاه،="" وهو="" أجذم="">؛. السابعة: قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ } الآية، أي: وهكذا نجزي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة. وعذاب الآخرة أشد وأبقى، من ضنك العيش في الدنيا. لكونه دائماً. ثم أشار تعالى إلى تقرير ما تقدم من لحوق العذاب، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى } [128]. { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } أي: لهؤلاء المكذبين: { كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ } أي: الأمم المكذبة للرسل: { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } يريد قريشاً، أي: يتقلّبون في بلاد عاد وثمود ولوط ويعاينون آثار هلاكهم، وأن ليس لهم باقية ولا عين ولا أثر: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى } أي: العقول السليمة. كما قال تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج: 46]، وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً } [129]. { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً } بيان لحكمة تأخير عذابهم مع إشعار قوله: { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } الآية، بإهلاكهم مثل هلاك أولئك والكلمة السابقة، قال القاشانيّ: هو القضاء السابق أن لا يستأصل هذه الأمة بالدمار والعذاب في الدنيا، لكون نبيّهم نبيّ الرحمة. وقوله سبحانه: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } [الأنفال: 33]. وقال الزمخشري: الكلمة السابقة هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة. يقول: لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عاداً وثموداً لازماً لهؤلاء الكفرة. واللزام إما مصدر لازم كالخصام، وصف به مبالغة. أو اسم آلة لأنها تبنى عليه كحزام وركاب، واسمُ الآلة يوصف به مبالغة أيضاً، كقولهم: مِسْعَرُ حَرْبٍ، ولِزَاز خَصْمٍ بمعنى مُلَحّ علَى خَصمه. من لَزَّ بمعنى ضيق عليه. وجوز أبو البقاء فيه كونه جمع لازم. كقيام جمع قائم. وقوله تعالى: { وَأَجَلٌ مُسَمّىً } عطف على كلمة , أي: ولولا أجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم، وهو يوم القيامة أو يوم بدر، لما تأخر عذابهم أصلاً. قال أبو السعود: وفصله عما عطف عليه، للإشعار باستقلال كل منهما، بنفي لزوم العذاب ومراعاة فواصل الآية الكريمة. وقد جوز عطفه على المستكن في كان العائد إلى الأخذ العاجل، المفهوم من السياق، تنزيلاً للفصل بالخبر منزلة التأكيد. لكان الأخذ العاجل، وأجل مسمى لازمين لهم، كدأب عاد وثمود وأضرابهم. ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى } [130]. { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى } أي: إذا كان تأخير عذابهم ليس بإهمال بل إمهاْل، فاصبر على ما يقولون من كلمات الكفر، فالفاء سببية. والمراد بالصبر عدم الاضطراب لما صدر منهم، لا ترك القتال حتى تكون الآية منسوخة. وفي التسبيح المأمور به وجهان: الأول: أنه التنزيه. والمعنى: ونزه ربك عن الشرك وسائر ما يضيفون إليه من النقائض، حامداً على ما ميّزَك بالهدى، معترفاً بأنه المولى للنعم كلها. ومن صيغه المأثورة: سبحان الله وبحمده. وعليه فسرُّ تخصيص هذه الأوقات الإشارة إلى الدوام، مع أن لبعض الأوقات مزية يفضل بها غيرها. الثاني: أنه الصلاة وهو الأقرب لآية: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } [البقرة: 45]، والآيات يفسر بعضها بعضاً. والمعنى: صلَّ وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه، قبل طلوع الشمس، يعني صلاة الفجر. وقبل غروبها، يعني صلاة الظهر والعصر، لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار، بين زوال الشمس وغروبها: { وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ } أي: من ساعاته، يعني المغرب والعشاء. وإنما قدم الوقت فيهما، لاختصاصهما بمزيد الفضل. وذلك لأن أفضل الذكر ما كان بالليل لاجتماع القلب وهدوءِ الرَّجْلِ والخلوِّ بالرب تعالى. ولأن الليل وقت السكون والراحة، فإذا صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق، وللبدن أتعب وأنصب، فكانت أفضل عند الله وأقرب. قوله تعالى: { وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } تكرير لصلاة الفجر والمغرب، إيذاناً باختصاصهما بمزيد مزية. ومجيئه بلفظ الجمع لأمن الإلباس، والمرجح مشاكلته لـ: { آنَاءِ اللَّيْلِ } أو أمر بصلاة الظهر. فإنه نهاية النصف الأول من النهار، وبداية النصف الأخير. وجمعه باعتبار النصفين. أو لأن النهار جنس فيشمل كل نهار، أو أمر بالتطوع في أجزاء النهار. وقال الرازي: إنما أمر، عقيب الصبر، بالتسبيح، لأن ذكر الله تعالى يفيد السلوة والراحة. إذ لا راحة للمؤمنين دون لقاء الله تعالى. قلت: وقد أشير إلى حكمة الأمر بالصبر والتسبيح بقوله تعالى: { لَعَلَّكَ تَرْضَى } أي: رجاء أن تنال ما به ترضى نفسك، من رفع ذكرك. ونقهرك على عدوك وبلوغ أمنيتك من ظهور توحيد ربك وهذا كقوله تعالى: { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً } [الإسراء: 79]، وقوله تعالى: { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } [الضحى: 5]. ثم أشار تعالى إلى أن ما متع به الكفار من الزخارف، إنما هو فتنة لهم فلا ينبغي الرغبة فيه، وإن ما أويته أجلّ وأسمى، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [131]. { وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ } أي: أصنافاً من الكفرة: { زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي زينتها. منصوب على البدلية من: { أَزْوَاجاً } أو بـ: { مَتّعْنَا } على تضمينه معنى: أعطينا وخولنا: { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي: لنختبرهم فيما متعناهم به من ذلك ونبتليهم. فإن ذلك فانٍ وزائل وغرور وخدع تضمحل. قال أبو السعود: { لِنَفْتِنَهُمْ } متعلق بـ: { مَتَّعْنَا } جيء به للتنفير عنه ببيان سوء عاقبته مآلاً، إثر إظهار بهجته حالاً. أي: لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم فيه. أو لنعذبهم في الآخرة بسببه: { وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي: ثوابه الأخرويّ خير في نفسه مما متعوا به وأدوم، كقوله تعالى: { ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } [القصص: 80]، أو المعنى ما أوتيت من النبوة والهدى، خير مما فتنوا به وأبقى، لأنه لا مناسبة بين الهدى الذي تتبعه السعادة في الدارين، وبين زهرة يتمتع بها مدة ثم تذبل وتفنى. وفي التعبير بالزهرة إشارة لسرعة الاضمحلال، فإن أجلها قريب. ومن لطائف الآية ما قاله الزمخشريرحمه الله ، ونصه: مد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحساناً للمنظور إليه، وإعجاباً به وتمنياً أن يكون له. كما فعل نظارة قارون حين قالوا: { يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [القصص: 79]، حتى واجههم أولوا العلم و الإيمان بـ: { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } [القصص: 80]. وفيه: أن النظر غير الممدود معفوّ عنه. وذلك مثل نظر من باده الشيء بالنظر ثم غض الطرف. ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع، وإن من أبصر منها شيئاً أحب أن يمد إليه نظره ويملأ منه عينيه، قيل: ولا تمدّن عينيك. أي: لا تفعل ما أنت معتاد له وضارٍ به. ولقد شدد العلماء من أهل التقوى في وجب غض النظر عن أبنية الظلمة، وعدد الفسقة في اللباس و المراكب وغير ذلك، لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة، فالناظر إليها محصل لغرضهم، وكالمغري لهم على اتخاذها. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [132]. { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ } يعني بأهله: أهل بيته أو التابعين له. أي: مرهم بإقامتها لتجذب قلوبهم إلى خشية الله: { وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } أي: على أدائها، لترسخ بالصبر عليها ملكة الثبات على العبادة، والخشوع والمراقبة، التي ينتج عنها كل خير. ثم أشار تعالى إلى أن الأمر بها، إنما هو لفلاح المأمور ومنفعته، ولا يعود على الآمر بها نفع ما, لتعاليه وتنزهه بقوله: { لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ } أي: لا نسألك مالاً. بل نكلفك عملاً ببدنك نؤتيك عليه أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً. ومعنى نحن نرزقك: أي: نحن نعطيك المال ونكسبك ولا نسألكه. قاله ابن جرير. وقال أبو مسلم: المعنى أنه تعالى إنما يريد منه ومنهم العبادة. ولا يريد منه أن يرزقه كما تريد السادة من العبيد الخراج. وهو كقوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } [الذاريات: 56 - 57]، وقال بعض المفسرين: معنى الآية. أقبل مع أهلك على الصلاة واستعينوا بها على خصاصتكم. ولا تهتموا بأمر الرزق والمعيشة، فإن رزقك مكفي من عندنا، ونحن رازقوك. وهذا المعنى لا تدل عليه الآية منطوقاً ولا مفهوماً. وفيه حض على القعود عن الكسب، ومستند للكسالى القانعين بسكنى المساجد عن السعي المأمور به. وقد قال تعالى في وصف المتقين: { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } [النور: 37]، إشارة إلى جمعهم بين الفضيلتين { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً } [البقرة: 201]. وقوله تعالى: { وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } أي: والعاقبة الحسنة من عمل كل عامل، لأهل التقوى والخشية من الله، دون من لا يخاف له عقاباً ولا يرجو له ثواباً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى } [133] { وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ } يعنون ما تعنتوا في اقتراحه مما تقدم، في سورة بني إسرائيل، من قوله تعالى: { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ } [الإسراء: 90 - 91]. وقوله تعالى: { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى } أي: أو لم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب، من أنباء الأمم من قبلهم، التي أهلكناهم لما سألوا الآيات، فكفروا بها لما أتتهم، كيف عجلنا لهم العذاب، وأنزلنا بهم بأسنا بكفرهم بها. يقول: فماذا يؤمنهم إن أتتهم الآية، أن يكون حالهم حال أولئك. هذا ما قاله ابن جرير. وذهب غيره إلى أن المعنى: أو لم يأتهم آية هي أم الآيات وأعظمها، وهي معجزة القرآن المبينة لما في الكتب الأولى من التوراة والإنجيل والزبور. مع أن الآتي بها أّمّيُّ لم يرها ولم يعلم ممن علمها. فنقب منها على الصحيح من أنبائها فصدقه، وعلى الباطل المحرف فَفَنَّدَهُ. وفيه إشعار بكفاية التنزيل في الإعجاز والبرهان كما قال تعالى في سورة العنكبوت: { وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [العنكبوت: 50 - 51]، ولذلك قال أحد حكماء الإسلام: إن الخارق للعادة الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته إلى التصديق برسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الخارق الذي تواتر خبره ولم ينقطع أثره. وهو الدليل وحده. وما عداه مما ورد في الأخبار، سواء صح سندها أو اشتهر أو ضعف أو وهي، فليس مما يوجب القطع عند المسلمين. فإذا أورد في مقام الاستدلال، فهو على سبيل التقوية للعقد لمن حصل أصله، وفضلٌ من التأكيد لمن سلمه من أهله. ذلك الخارق المتواتر المعول عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين، هو القرآن وحده. والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة، تدل على أن موحيه هو الله وحده وليس من اختراع البشر، هو أنه جاء على لسان أميّ لم يتعلم الكتاب ولم يمارس العلوم، وقد نزل على وتيرة واحدة هادياً للضال مقوماً للمعوج كافلاً بنظام عام لحياة من يهتدي به من الأمم، منقذاً لهم من خسران كانوا فيه. وهلاك كانوا أشرفوا عليه. وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه، حتى لقد دعي الفصحاء والبلغاء، أن يعارضوه بشيء من مثل، فعجزوا ولجأوا إلى المجالدة بالسيوف، وسفك الدماء واضطهاد المؤمنين به، إلى أن ألجاؤهم إلى الدفاع عن حقهم، وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد عالمها بأضوائها، وتنشر أنوارها في جوائها. وهذا الخارق قد دعا الناس إلى النظر فيه بعقولهم. وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم، فإما وجدوا طريقاً لإبطال إعجازه أو كونه لا يصلح دليلاً على المدعي، فعليهم أن يأتوا به، قال تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ } [البقرة: 23]، وقال: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء: 82]، وقال غير ذلك، مما هو مطالبة بمقاومة الحجة بالحجة. ولم يطالبهم بمجرد التسليم على رَغْمٍ من العقل. معجزة القرآن جامع من القول والعلم. وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم. فهي معجزة عرضت على العقل وعرفته القاضي فيها، وأطلقت له حق النظر في أنحائها [في المطبوع: أحنائها]. ونشر ما انطوى في أثنائها. وله منها حظه الذي لا ينتقص. فهي معجزة أعجزت كل طوق أن يأتي بمثلها. ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها. أما معجزة موت حيّ بلا سبب معروف للموت، أو حياة ميت أو إخراج شيطان من جسم، أو شفاء علة من بدن، فهي مما ينقطع عنده العقل ويجمد لديه الفهم. وإنما يأتي بها الله على يد رسله لإسكات أقوام غلبهم الوهم ولم تضئ عقولهم بنور العلم. وهكذا يقيم الله بقدرته من الآيات للأمم على حسب الاستعدادات. وقال فاضل آخر: قضت مراحم الله جلّ شانه أن يكوّن الأكوان في الطبيعة على ترتيب محكم. ينطلق بلسان الصمت للمتبصر، ويظهر بلباس الوضوح للمتفكر، ويحبب إليه الانتقال منه إلى غيره بدون أن يشعر بملل ولا سآمة، ولا يؤوب من استبصاره بندامة، بدون هذا الاعتبار بالعقل، لا يأتي للنفس أن تصح عقيدتها، ولا يتأتى لها تبعاً لذلك أن تسكن من اضطرابها. هذا، ولا ننكر أنه قد مضى على النوع الإنساني زمن كان فيه العقل في دور الطفولية. وكان يكفيه في الإيمان أن يندهش لأمر خارق للطبيعة، يعطل من سير نواميسها وقتاً مّاً. وكان الله سبحانه وتعالى يرأف بعباده فيرسل إليهم رسلاً يمتعهم بخصائص تعجز عن اكتناه سرها عقولهم. وتندهش لها ألبابهم، فيستدلون بهذه المعجزات على صدق الرسول وضرورة اتباعه، وأما الآن، حيث بلغ العقل أشده، والنوع الإنسانيّ رشده، فلا تجدي فيه معجزة، ولا تنفع فيه غريبة. لأن الشكوك قد كثرت مع كثرة الموادّ العلمية. فإن حدث حادث من هذا القبيل رموا فاعله بالتدليس أوّلاً، ثم إذا ظهر لهم براءته منه أخذوا يعللون معجزته بكل أنواع التعليلات. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن طائفة الاسبيريت الروحيين في أوربا تعمل الآن من الأعمال المدهشة الخارقة لنواميس الطبيعة، ما لو رآه الجهلاء لظنوا به أنه من أكبر المعجزات، من أن القوم لا يدَّعون النبوة، ولا يزعمون الرسالة. نعم، لا ننكر أن أعمال هذه الطائفة ليست من نوع معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولكنه بدون شك، يقلل من أهميتها في نظر الذين يقفون مع ظواهر الأشياء. ومما يدل على أن هذه القرون الأخيرة لا تروج فيها مسائل المعجزات، تكذيب علماء أوربا بكل المعجزات السابقة. وهو، وإن كان تهوراً منهم، إلا أنهم مصيبون في قولهم إننا في زمان لا يجدي فيه الاعتقاد إلا النور العقلي والدليل العلمي. لهذه الأسباب جاءت الشريعة الإسلامية تدعو إلى السبيل الحق، ببدائه العقل، وقواعد العلم. صارفة النظر عن المعجزات وإظهار المدهشات. لعلم الله سبحانه وتعالى بأنه سيأتي زمان تؤثر فيه المقررات العلمية على القوة العقلية، ما لا تؤثر عليها الخوارق للنواميس الطبيعية. انتهى. ثم أشار تعالى إلى منته في إرسال الرسول صلوات الله عليه، والإعذار ببعثته، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى } [134 - 135]. { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ } أي: من قبل إتيان البينة، أو محمد عليه السلام: { لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ } أي: بالعذاب الدنيويّ: { وَنَخْزَى } أي: بالعذاب الأخرويّ. أي: ولكنا لم نهلكهم قبل إتيانها. فانقطعت معذرتهم. فعند ذلك، قالوا: بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا: ما نزل الله من شيء: { قُلْ } أي: لأولئك الكفرة المتمردين: { كُلٌّ } أي: منا ومنكم: { مُتَرَبِّصٌ } أي: منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم: { فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ } أي: عن قرب: { مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ } أي: المستقيم: { وَمَنِ اهْتَدَى } أي: من الزيغ والضلالة. أي: هل هو النبي وأتباعه، أم هم وأتباعهم. وقد حقّق الله وعده. ونصر عبده. وأعز جنده. وهزم الأحزاب وحده. فله الحمد في الأولى والآخرة. (/) سورة طه بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى: { طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [1 - 3]. { طه } قدمنا أن الحق في هذه الحروف التي افتتحت بها سورها، أنها أسماء لها. وفيه إشارة إلى أنها مؤلفة منها. ومع ذلك ففي عجزهم عن محاكاتها أبلغ آية على صدقها. ونبه الإمام ابن القيمرحمه الله على نكتة أخرى في " الكافية الشافية " بقوله: ~وانظر إلى السور التي افتتحت بأحْ رفها ترى سرّاً عظيم الشان ~لم يأت قط بسورة إلا أتى في إثرها خبر عن القرآن ~إذ كان إخباراً به عنها. وفي هذا الشفاءُ لطالب الإيمان ~ويدل أن كلامه هو نفسها لا غيرها، والحق ذو تبيان ~فانظر إلى مبدا الكتاب وبعدها الـ أعراف ثم كذا إلى لقمان ~مع تلوها أيضاً ومع حَمَ مع يسَ وافهم مقتضى الفرقان { مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } أي: لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا والشقاء في معنى التعب. ومنه المثل: أشقى من رائض مهر. وقوله تعالى: { إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى } أي: تذكيراً له. أي: { مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ } لتتعب بتبليغه، ولكن تذكرة لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار. والقصد أنه ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة. وقد جرت السنة الإلهية في خطاب الرسول في مواضع من التنزيل، أن ينهاه عن الحزن عليهم وضيق الصدر بهم، كقوله تعالى: { فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } [الأعراف: 2]، { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ } [الكهف: 6]، { وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر } [آل عِمْرَان: 176]، وهذه الآية من هذا الباب أيضاً. وفي ذلك كله من تكريم الرسول صلوات الله عليه، وحسن العناية به والرأفة، ما لا يخفى. ثم أشار إلى تضخيم شأن هذا المنزل الكريم، لنسبته إلى المتفرد بصفاته وأفعاله، بقوله: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [4 - 5]. { تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ } قرئ بالرفع على المدح. أي: هو الرحمن. وبالجر على أنه صفة للموصول. وقوله: { عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } أي: علا وارتفع. قاله ابن جرير. وقد ذهب الخلف إلى جعل ذلك مجازاً عن الملك والسلطان. كقولهم: استوى فلان على سرير الملك , وإن لم يقعد على السرير أصلاً. وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته أيضاً. قال ابن كثير: والمسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف، من إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة، من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل. وقد أسلفنا ما حققته أئمة الفلك الحديث؛ من أن العرش جرم حقيقيّ موجود وأنه مركز العوالم كلها. أي: مركز الجذب والتدبير والتأثير والنظام. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } [6]. { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى }. بيان لشمول قهره وملكته للكل. أي: كلها تحت ملكته وقهره وسلطنته وتأثيره. لا توجد ولا تتحرك ولا تسكن ولا تتغير ولا تثبت إلا بأمره. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } [7]. { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }. بيان لكمال لطفه. أي: علمه نافذ في الكل. يعلم ظواهرها وبواطنها والسر وسر السر. فكذلك إن تجهر وإن تخفت، فيعلمه بجهر وخفت. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [8]. { اللَّهُ } أي: ذلك المُنْزل الموصوف بهذه الصفات هو الله: { لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } أي: الفضلى، لدلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والأفعال التي هي النهاية في الحسن. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً } [9 - 10]. { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } من عطف القصة أو استئناف. والقصد تقرير أمر التوحيد الذي انتهى إليه الآية قبله، ببيان أنه دعوى كل نبيّ لا سيما أشهرهم نبأ، وهو موسى عليه السلام. فقد خوطب بقوله تعالى: { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا } [14] وبه ختم تعالى نبأه في هذه السورة بقوله: { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } [98]، أو تقرير لسعة علمه المبين في قوله تعالى: { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ } [7] الخ لقوله بعدُ: { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [98]، أولهما معاً. أو لحمله، صلوات الله عليه، على التأسي بموسى في الصبر والثبات. لكونه ابتلي بأَعظم من هذا فصبر، وكانت العاقبة له. وقد أشير في طليعة نبأ موسى عليه السلام، إلى كيفية ابتداء الوحي إليه، وتكليمه تعالى إياه. وذلك بعد أن قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم. وصار بأهله قاصداً بلاد مصر، بعد ما طالت غيبته عنها ومعه زوجته. فأضلّ الطريق. وكانت ليلة شاتية، ونزل منزلاً بين شعاب وجبال في برد وشتاء. وبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور ناراً، كما قصه تعالى بقوله: { إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً } أي: أبصرتها إبصاراً بيّناً لا شبهة فيه: { لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ } أي: بشعلة مقتبسة تصطلون بها: { أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً } أي: هادياً يدلني على الطريق. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً } [11 - 12]. { فَلَمَّا أَتَاهَا } أي: النار: { نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً } أي فيجب فيه رعاية الأدب، بتعظيمه واحترامه لتجلي الحق فيه، كما يراعى أدب القيام عند الملوك وطُوىً: اسم للوادي. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } [13 - 15]. { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ } أي: اصطفيتك للنبوة: { فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } أي: للذي يوحي. أو للوحي. ثم بينه بقوله: { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } أي: خصني بالعبادة: { وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي } أي: لتذكرني فيها بقلبك ولسانك وسائر جوارحك، بأن تجعل حركاتها دالة على ما في القلب واللسان. قال أبو السعود: خصت الصلاة بالذكر وأفردت بالأمر بالعبادة، لفضلها وإنافتها على سائر العبادات، بما نيطت به من ذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره. وذلك قوله تعالى: { لِذِكْرِي } أي: لتذكرني. فإن ذكري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة. أو لتذكرني فيها لاشتمالها على الأذكار. أو لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري. أو لإخلاص ذكري وابتغاء وجهي. لا ترائي بها، ولا تقصد بها غرضاً آخر. أو لتكون ذاكراً لي غير ناس. انتهى ثم أشار إلى وجوب إفراده بالعبادة وإقامة الصلاة لذكره. بقوله: { إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ } أي: واقعة لا محالة: { أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } أي: بسعيها عن اختيار منها. واللام متعلقة بآتية. ولما كان خفاء الساعة من اليقينيات وفي كاد معنى القرب من ذلك، لعدم وضعها للجزم بالفعل، تأولوا الآية على وجوه: أحدها: أن كَادَ منه تعالى واجب. والمعنى أنا أخفيها عن الخلق. كقوله: { عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً } [الإسراء: 51 )، أي: هو قريب. ثانيها: قال أبو مسلم: أَكَادُ بمعنى أريد كقوله: { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } [يوسف: 76]. ومن أمثالهم المتداولة: لا أفعل ذلك ولا أكاد , أي: ولا أريد أن أفعله. قال الشهاب: تفسير أَكَادُ بأريد هو أحد معانيها. كما نقله ابن جني في " المحتسب " عن الأخفش. واستدلوا عليه بقوله. ~كادتْ وكدتُ وتلك خيرُ إرادةٍٍ لو عاد من لَهْوِ الصِّبابِة مَا مَضَى بمعنى أرادت. لقوله: تلك خير إرادة. ثالثها: أن أَكَادُ صلة في الكلام. قال زيد الخيل. ~سريعٌ إِلى الهيجاء شاكٍ سلاحُهُ فما إِنْ يَكَادُ قِرْنُهُ يَتَنَفَّسُ رابعها: أن المعنى أكاد أخفيها فلا أذكرها إِجمالاً ولا أقول هي آتية. وذلك لفرط إرادته تعالى إخفاءها. إلا أن في إِجمال ذكرها حكمة، وهي اللطف بالمؤمنين، لحثهم على الأعمال الصالحة، وقطع أعذار غيرهم حتى لا يعتذروا بعدم العلم. وثمة وجوه أخر لا تخلو من تكلف، وإن اتسع اللفظ لها. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى } [16]. { فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا } أي: عن تصديق الساعة: { مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } أي: ما تهواه نفسه من الشهوات وترك النظر والاستدلال: { فَتَرْدَى } أي: فتهلك. قال الزمخشري: يعني أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجم الغفير. إذ لا شيء أطمّ على الكفرة، ولا هم أشد له نكيراً من البعث. فلا يهولنّك وفور دهمائهم, ولا عظم سوادهم. ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك. واعلم أنهم، وإن كثروا تلك الكثرة، فقدوتهم فيما هم فيه هو الهوى واتباعه. لا البرهان وتدابره. وفي هذا حث عظيم على العلم بالدليل، وزجر بليغ عن التقليد، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } [17 - 18]. { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى } شروع فيما سيؤتيه تعالى من البرهان الباهر. وفي الاستفهام إيقاظ له وتنبيه على ما سيبدو له من عجائب الصنع: { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } أي: أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفتُ على رأس القطيع وعند الطفرة: { وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي } أي: أخبط بها الورق وأسقطه عليها لتأكله: { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } أي: حاجات أخر. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى } [19 - 21]. { قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى } أي: هيئتها الأولى فتنتفع بها كما كنت تنتفع من قبل. أي: ليس القصد تخويفك، بل إظهار ما فيها من استعداد قبول الحياة، ومشاهدة معجزة وبرهان لك. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى } [22 - 23]. { وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ } أي: إبطك: { تَخْرُجْ بَيْضَاءَ } أي: نيَّرة: { مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } أي: قبيح وعيب كبياض البرص مما ينفر عنه. واعتمد الزمخشري؛ أن قوله تعالى: { مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } كناية عن البرص. كما كني عن العورة بالسوأة، قال: والبرص أبغض شيء إلى العرب، وبهم عنه نفرة عظيمة. وأسماعهم لاسمه مجّاجة. فكان جديراً بأن يكنى عنه. ولا ترى أحسن ولا ألطف ولا أحرّ للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه. انتهى { آيَةً أُخْرَى } أي: معجزة أخرى غير العصا: { لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى } متعلق بمضمر ينساق إليه النظم الكريم. أي: أريناك ما أريناك الآن، مع أن حقهما أن يظهرا بعد التحدي والمناظرة، لنريك أولاً بعض آياتنا الكبرى، فيقوى قلبك على مناظرة الطغاة. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } [24]. { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ } تخلص إلى ما هو المقصود من تمهيد المقدمات السالفة. فُصِل عما قبله من الأوامر إِيذاناً بأصالته. أي: اذهب إليه بما رأيتَه من الآيات الكبرى، وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي. أفاده أبو السعود. وقوله تعالى: { إِنَّهُ طَغَى } أي: جاوز الحد في التكبّر والعتوّ، حتى تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية. فلا بد من تنبيهه على طغيانه بالدلائل العقلية، التي صدقتها المعجزات. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي } [25 - 28]. { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي } إنما سأل ذلك، لما كان يتخوفه من آل فرعون في القتيل. ولما بعث به من صدع جبار عنيد، أطغى الملوك وأبلغهم تمرداً وكفراً، مما يحوج إلى عناية ربانية. وسأل أن يُمَدّ بمنطق فصيح، لما في لسانه من عقدة كانت بمنعه من كثير من الكلام كما قال: { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } [القصص: 34]، وقول فرعون: { وَلا يَكَادُ يُبِينُ } [الزخرف: 52]، ثم سأل عليه السلام ربه أن يعينه بأخيه هارون، ليكون له رِدْءاً، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، بقوله: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي } [29 - 31]. { وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي } أي: قَوِّ به ظهري. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً } [32 - 35]. { وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً } أي: كي نتعاون على تسبيحك وذكرك. لأن التعاون - لأنه مهيج الرغبات - يتزايد به الخير ويتكاثر: { إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً } أي: عالماً بأحوالنا، وبأن المدعوّ به مما يفيدنا. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى } [36 - 37]. { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } أي: أجيب دعاؤك. وقوله تعالى: { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى } كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله، وزيادة توطين نفس موسى عليه السلام بالقبول، ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعم التامة من غير سابقة دعاء منه وطلب، فَلأَنْ ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداعٍ، أولى وأحرى. وتصديره بالقسم، لكمال الاعتناء بذلك. أفاده أبو السعود. وقوله تعالى: { مَرَّةً أُخْرَى } أي: في وقت آخر. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [38 - 39]. { إِذْ أَوْحَيْنَا } أي: ألقينا بطريق الإلهام: { إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ } أي: الصندوق: { فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ } أي: البحر، متوكلةً على خالقه: { فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي } لدعواه الألوهية: { وَعَدُوٌّ لَهُ } لدعوته إلى نبذ ما يدعيه. قال الزمخشريّ: لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته - أن لا تخطئ جرية اليم، الوصولَ به إلى الساحل، وإلقاءه إليه - سلك في ذلك سبيل المجاز وجعل اليم كأنه ذو تمييز أُمر بذلك، ليطيع الأمر ويمتثل رسمه. فقيل: { فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ } أي: على سبيل الاستعارة بالكناية. بتشبيه اليم بمأمور منقاد. وإثبات الأمر تخييل، وقوله تعالى: { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي } أي: واقعة مني، زرعتها في قلب من يراك. ولذلك أحبك فرعون: { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } أي: ولتربَّى بيد العدوّ على نظري بالحفظ والعناية. فعلى عيني استعارة تمثيلية للحفظ والصون، لأن المصون يجعل بمرأى. قيل: وعلى بمعنى الباء لأنه بمعنى بمرأى مني، في الأصل. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } [40]. { إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ } أي: يضمن حضانته ورضاعته. فقبلوا قولها. وذلك لأنه لما استقر عند آل فرعون، عرضوا عليه المراضع فأباها كما قال تعالى: { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ } [القصص: 12]، فجاءت أخته فقالت: { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } [القصص: 12]، فجاءت بأمه كما قال: { فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ } أي: مع كونك بيد العدوّ: { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } أي: برؤيتك: { وَلا تَحْزَنَ } أي: بفراقك. فهذه منن زائدة على النجاة من القتل. ثم أشار إلى ما منّ عليه بالنجاة من القتل الذي لا يدفع بتلبيس، بقوله: { وَقَتَلْتَ نَفْساً } أي: من آل فرعون، وهو القبطيّ الذي استغاثه عليه الإسرائيليّ، إذ وكزه موسى فقضى عليه. أي: فاغتممت للقصاص: { فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ } أي: غم القتل بأن صرفنا عنك ما تخشاه. وذلك أنه عليه السلام فرَّ من آل فرعون حتى ورد ماء مدين. وقال له ذلك الرجل الصالح: { لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [القصص: 25]، { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } أي: ابتليناك ابتلاءً. على أن الفتون مصدر كالشكور، أو ضروباً من الفتن على أنه جمع فتنة أي: فجعلنا لك فرَجاً ومخرَجاً منها. وهو إجمال لما سبق ذكره. { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ } أي: معزز الجانب مكفيّ المؤونة في عشرة أتقى رجل منهم وأصلحهم، وهو نبيّهم عليه السلام: { ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } أي: بعد أن قضيت الأجل المضروب بينك وبين شعيب من الإجارة ,جئت بأهلك على وفق ما سبق في قضائي وقدري؛ أن أكلمك وأستنبئك في وقت يعينه قد وقَّته لذلك. فما جئت إلا على ذلك القدر، غير مستقدم ولا مستأخر. فالأمر له تعالى. وهو المسيّر عباده وخلقه فيما يشاء. قال أبو السعود: وقوله تعالى: { يَا مُوسَى } تشريف له عليه الصلاة والسلام، وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولاً. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي } [41 - 42]. { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } تذكير لقوله تعالى: { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ } وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيداً بأخيه والاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الصنيعة. يقال: اصطنع الأمير فلاناً لنفسه، أي: جعله محلاًّ لإكرامه باختيار وتقريبه منه، بجعله من خواص نفسه وندمائه، فاستعير استعارة تمثيلية من ذلك المعنى المشبه به إلى المشبه. وهو جعله نبيّاً مكرماً كليماً منعماً عليه بجلائل النعم. قال أبو السعود: والعدول عن نون الواقعة في قوله تعالى: { وَفَتَنَّاكَ } ونظيريه السابقين، تمهيد لإفراد لفظ النفس اللائق بالمقام، فإنه أدخل في تحقيق معنى الاصطناع والاستخلاص. ثم بين ما هو المقصود بالاصطناع بقوله سبحانه: { اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي } أي: بمعجزاتي. كالعصا وبياض اليد وحل العقدة، مع ما استظهره على يده: { وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي } أي: لا تَفْتُرَا ولا تقصّرا في ذكري بما يليق بي من النعوت الجليلة، عند تبليغ رسالتي والدعاء إليّ. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [43 - 44]. { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } أي: عقابي. فإن تليين القول مما يكسر سورة عناد العتاة، ويلين عريكة الطغاة. وقد بيّن ذلك في قوله تعالى: { فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [النازعات: 18 - 19]، وبمثل ذلك أمر نبينا صلوات الله عليه في قوله: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل: 125]، وظاهر أن الرجاء في لعله إنَما هو منهما، لا من الله. فإنه لا يصح منه. ولذا قال القاضي: أي: باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما أنه يثمر ولا نخيب سعيكما. فإن الراجي، مجتهد والآيس متكلف. والفائدة في إرسالها والمبالغة عليهما في الاجتهاد - مع علمه بأنه لا يؤمن - إلزام الحجة، وقطع المعذرة، وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [45 - 46]. { قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا } أي: يبادرنا بالعقوبة: { أَوْ أَنْ يَطْغَى } أي: يزداد طغياناً بالعناد، في دفع حججنا، ثم يأمر بقتلنا، أو بالتخطي إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي، لجرأته وقسوة قلبه. واقتصر على الثاني الزمخشري. وأفاد أن في المجيء به هكذا على الإطلاق، وعلى سبيل الرمز، باباً من حسن الأدب، وتحاشياً عن التفوه بالعظيمة: { قَالَ لا تَخَافَا } أي: من فرطه وطغيانه: { إِنَّنِي مَعَكُمَا } أي: بالحفظ والنصرة: { أَسْمَعُ وَأَرَى } أي: ما يجري بينكما وبينه. فأرعاكما بالحفظ. فالمفعول محذوف للقرينة، أو نزل منزلة اللازم تتميماً لما يستقل به الحفظ. كأنه قيل: أنا حافظ لكما وناصر، سامع وبصير. وإذا كان الحافظ كذلك، تمَّ الحفظ والتأييد، وذهبت المبالاة بالعدوّ. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } [47]. { فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ } أي: بإطلاقهم من الأسر والعبودية. وتسريحهم معنا إلى وطننا فلسطين: { وَلا تُعَذِّبْهُمْ } أي: بإبقائهم على ما هم عليه من التسخير والتذليل في الأمور الشاقة: { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ } أي: تحقق رسالتي إليك منه تعالى بذلك: { وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } أي: فصدق بآيات الله المبينة للحق. وفيه من ترغيبه في اتباعهما، على ألطف وجه، ما لا يَخْفَى. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [48]. { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا } أي: من ربنا: { أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ } أي: بآياته تعالى: { وَتَوَلَّى } أي: أعرض عنها. وفيه من التلطيف في الوعيد، حيث لم يصرح بحلول العذاب به، ما لا مزيد عليه. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [49 - 50]. { قَالَ } أي: فرعون: { فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } أي: منح كل شيء من الأنفس البشرية، صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، فسواه بها وعدّله، ثم هداه بأن وهبه العقل الذي يميز بين الخير والشر. وهذه الآية في معناها كآية: { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس: 7 - 8]، وآية: { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [البلد: 10]. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } [51 - 52]. { قَالَ } أي: فرعون: { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } أي: ما حال القرون السالفة وما جرى عليهم؟ وهذا السؤال إما لصرف موسى عليه السلام عما يدعوه إليه أمام ملئه، وإشغاله بما لا يعني ما أرسل به، وإما لتوهم أن الرسول يعلم الغيب، فأراد أن يقف على نبأ ما مضى، ويفتح باباً للتخطئة والتكذيب، بالعناد واللجاج. فأجابه موسى عليه السلام بأن هذا سؤال عن الغيب وقد استأثر الله به. فلا يعلمه إلا هو. وليس من وظيفة الرسالة. وإنما علمها مكتوب في اللوح المحفوظ، محصى غير منسي. ويجوز أن يكون: { فِي كِتَابٍ } تمثيلاً لتمكنه وتقريره في علم الله عزَّ وجلَّ، بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة. قال في العناية: فيشبه علمه تعالى بها علماً ثابتاً لا يتغير، بمن علم شيئاً وكتبه في جريدته، حتى لا يذهب أصلاً، فيكون قوله: { لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } ترشيحاً للتمثيل، واحتراساً أيضاً. لأن من يفعل ذلك إنما يفعله لخوف النسيان. والله تعالى منزه عنه. فالكتاب على هذا بمعناه اللغويّ. وهو الدفتر، لا اللوح المحفوظ. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } [53]. { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً } أي: فراشاً: { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } أي: أصنافاً من نبات مختلفة الأجناس، في الطعم والرائحة والشكل والنفع. لطيفة: جعل الزمخشري قوله تعالى: { فَأَخْرَجْنَا } من باب الالتفات. وناقشه الناصر؛ بأن الالتفات إنما يكون في كلام المتكلم الواحد. يصرّف كلامه على وجوه شتى. وما نحن فيه ليس كذلك. فإن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون: { عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } ثم قوله: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً } إلى قوله: { فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } فإما أن يجعل من قول موسى، فيكون باب قول خواص الملك: أمرنا وعمرنا وإنما يريدون الملك، وليس هذا بالتفات. وإما أن يكون كلام موسى قد انتهى عند قوله: { وَلا يَنْسَى } ثم ابتدأ الله تعالى وصف ذاته بصفات إنعامه على خلقه، فليس التفاتاً أيضاً. وإنما هو انتقال من حكاية إلى إنشاء خطاب. وعلى هذا التأويل ينبغي للقارئ أن يقف وُقَيْفَة عند قوله: { وَلا يَنْسَى } ليستقر بانتهاء الحكاية. ويحتمل وجهاً آخر وهو؛ أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفات على لفظ الغيبة. فقال: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } فلما حكاه الله تعالى عنه , أسند الضمير إلى ذاته. لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى. فمرجع الضميرين واحد. وهذا الوجه وجه حسن رقيق الحاشية. وهذا أقرب الوجوه إلى الالتفات. لكن الزمخشري لم يعنه. والله أعلم. انتهى كلام الناصر. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } [54 - 55]. { كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } حال من ضمير فَأَخْرَجْنَا على إرادة القول: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مِنْهَا } أي: من الأرض: { خَلَقْنَاكُمْ } أي: خلقنا أصلكم وهو آدم. أو خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة عن الأغذية، والمتولدة من الأرض بوسائط: { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } أي: بالإماتة إعادة البذر إلى الأرض: { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } أي: بردّهم كما كانوا، أحياء. ثم أشار تعالى إلى عتوّ فرعون وعناده، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً } [56 - 58]. { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا } أي: من العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين: { فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً } أي: مستوياً واضحاً يجمعنا. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى } [59 - 60]. { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِِ } وهو يوم مشتهر عندهم باجتماع الناس فيه: { وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً } أي: ضحوة النهار ليكون الأمر مكشوفاً لا سترة فيه: { فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ } أي انصرف عن المجلس: { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } أي: ما يكيد به موسى، من السحرة وأدواتهم: { ثُمَّ أَتَى } أي: الموعد ومعه ما جمعه. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } [61 - 63]. { قَالَ لَهُمْ مُوسَى } أي: مقدماً لهم النصح والإنذار، لينقطع عذرهم: { وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً } أي: لا تخيلوا للناس بأعمالكم، إيجاد أشياء لا حقائق لها، وأنها مخلوقة وليست مخلوقة. فتكونوا قد كذبتم على الله تعالى: { فَيُسْحِتَكُمْ } أي: يستأصلكم: { بِعَذَابٍ } أي: هائل لغضبه عليكم: { وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قَالُوا } أي: بطريق التناجي والإسرار: { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } أي: بمذهبكم الأفضل. وهو ما كانوا عليه. يعنون أن قصد موسى وهارون هو عزل فرعون عن ملكه، يجعله عبداً لغيره، واستقرارهما في مكانه، وجعل قومهما مكانكم. وإلجائكم إلى مبارحة أرضكم، وإبطال طريقتكم بسحرهما الذي يريدان إعجازكم به. و: { الْمُثْلَى } تأنيث الأمثل، بمعنى الأفضل. ودعواهم ذلك، لأن كل حزب بما لديهم فرحون. لطيفة: في قوله تعالى: { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } قراءات: الأولى: { إِنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ } بتشديد النون من إِنَّ وهَذَيْنِ بالياء وهي قراءة أبي عَمْرو، وهي جارية على السَّنَنِِ المشهور في عمل إِنَّ. الثانية: { إنِْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } بتحفيف إِنَّ وإهمالها عن العمل، كما هو الأكثر فيها إذا خففت. وما بعدها مرفوع بالابتداء والخبر. واللام لام الابتداء فرقاً بينها وبين النافية. ويرى الكوفيون أن اللام هذه بمعنى إِلاّ وإِنْ قبلها نافية، واستدلوا على مجيء اللام للاستثناء بقوله: ~أمس أبانُ ذليلاً بعد عِزَّتِهِ وما أبانُ لَمِنْ أعلاج سُودَانِ والثالثة: { إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } بتشديد إِنَّ وهذان بالألف. وخرّجت على أوجه: أحدها: موافقة لغة من يأتي في المثنى بالألف في أحواله الثلاث. وهم بنو الحارث بن كعب وخثعم وَزُبَيْد وكنانة وآخرون. قال قائلهم: ~تَزَوَّدَ مِنَّا بين أُذْنَاهُ طَعْنَةً وقال آخر: ~إنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا قد بلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا وثانيها: إِنَّ إِنَّ بمعنى نعم حكاه المبرد. واستدل بقول الراجز: ~يا عمر الخيرِ جُزِيتَ الجَنَّهْ اكسُ بُنَيَّانِي وَأُمَّهُنَّهْ ~وَقُلْ لَهُنَّ: إِنَّ أَنَّ إِنَّهْ أُقْسِمُ باللهِ لَتَفْعَلَنَّهْ وقول عبد الله بن قيس الرُّقَيَّات: ~ويَقُلْنَ شيب قد علا ك وقد كَبرْتَ فقلتُ إِنَّهُ وردَّ على المبرد أبو علي الفارسي، بأنه لم يتقدم ما يجاب بنعم وأجاب الشمنّي، بأن التنازع فيما بينهم، وإسرار النجوى، يتضمن استخبار بعضهم من بعض. فهو جواب للاستخبار الضمنيّ. ولا يخفى بعده. فإن إسرار النجوى فيما بينهم ليس في الاستخبار عن كونهما ساحرين، بل هم جزموا بالسحر فقالوا: { أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ } [57]، ثم أسروا النجوى فيما يغلبان به موسى. إلا أن يقال: محطّ الجواب قوله: { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ } الخ، وما قبله توطئة. وقد رد في " المغني " هذا التخريج؛ بأن مجيء نعم شاذ حتى نفاه بعضهم. ومنعه الدمامينيّ؛ بأن سيبويه والحذّاق حكوه عن الفصحاء. وعليه، فاللام في: { لَسَاحِرانِ } لام الابتداء، زحلقت للخبر. وأبى البصريون دخولها على الخبر. وزعموا أنها في مثله داخلة على مبتدأ محذوف، أو زائدة، أو دخلت مع إن التي بمعنى نعم لشبهها بالمؤكدة لفظاً. وأقول: فيه تكلف. والشواهد على اقتران الخبر باللام كثيرة. وثالثها: أنه لما كان الإعراب لا يظهر في الواحد، وهو هذا جعل كذلك في التثنية، ليكون المثنى كالمفرد. لأنه فرع عليه. واختار هذا القول الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيميةرحمه الله تعالى، وزعم أن بناء المثنى، إذا كان مفرده مبنيّاً، أفصح من إعرابه. قال: وقد تفطن لذلك غير واحد من حذاق النحاة. ثم اعترض بأمرين: أحدهما: أن السبعة أجمعوا عل الياء في قوله تعالى: { إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } [القصص: 27]، مع أن هاتين تثنية هاتا وهو مبني. والثاني: أن الذي مبني وقد قالوا في تثنيته اللَّذَيْنِ في الجر والنصب. وهي لغة القرآن، كقوله تعالى: { رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا } [فصلت: 29]، وأجاب الأول؛ بأنه إنما جاء هاتين بالياء على لغة الإعراب لمناسبة ابنتيّ قال: فالإعراب هنا أفصح من البناء، لأجل المناسبة. كما أن البناء في: { إِنّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } أفصح من الإعراب لمناسبة الألف في هذان للألف في ساحران. وأجاب عن الثاني بالفرق بين اللذان وهذان بأن اللَّذان تثنية اسم ثلاثي، فهو شبيه بالزيدان وهذان تثنية اسم على حرفين. فهو عريق في البناء لشبهه بالحروف. قالرحمه الله : وقد زعم قوم أن قراءة من قرأ إنّ هذان لحن وإن عثمان رضي الله عنه قال: إن في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها. وهذا خبر باطل لا يصح من وجوه. أحدها: إن الصحابة كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات، فكيف يقرّون اللحن في القرآن، مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته؟. والثاني: أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام , فكيف لا يستقبحون بقاءه في المصحف؟. والثالث: أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم. لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والعجمي. والرابع: أنه قد ثبت في الصحيح أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب التابوت بالهاء على لغة الأنصار، فمنعوه من ذلك ورفعوه إلى عثمان رضي الله عنهم. فأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة قريش. ولما بلغ عمر رضي الله عنه أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ: عَتَّى حين، على لغة هذيل، أنكر ذلك عليه وقال: أقرئ الناس بلغة قريش. فإن الله تعالى إنما أنزله بلغتهم، ولم ينزله بلغة هذيل. انتهى كلام تقي الدين مخلصاً. هذا حاصل ما في " المغني " و " الشذور " و " حواشيهما " وفي الآية وجوه أخرى استقصتها المطولات. وما ذكرناه أرقها. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } [64]. { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ } تصريح بالمطلوب، إثر تمهيد المقدمات. والفاء فصيحة. أي إذا كان الأمر كما ذكر، من كونهما ساحرين، يريدان بكم ما ذكر من الإخراج، والإذهاب، فأزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعاً عليه، بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم. أفاده أبو السعود. وقوله تعالى: { ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً } أي: مصطفين، ليكون أهيب في صدور الرائين: { وَقَدْ أَفْلَحَ } أي: فاز بالإنعامات العظيمة من فرعون وملئه: { الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } أي: علا وغلب. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [65 - 66]. { قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ } أي: التي ألقوها: { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } أي: حيّات تسعى على بطونها. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [67 - 69]. { فَأَوْجَسَ } أي: أحس: { فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى } وذلك لما جُبِلَ عليه الإنسان من النفرة من الحيات. أو خاف من توهم الخلق المعارضة، بأن لهم من حبالهم وعصيهم حيات. كما أن له من عصاه حيَّة: { قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا } أي: تلتقطه بفمها: { إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ } في مقابلة آية ربانية: { وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } أي: لا يفوز بمطلوبه، أي: مكانٍ جَاءَ لدفع الحق. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } [70 - 71]. { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً } أي: فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا فأَلْقيَ السَّحَرَةُ سُجَّدَاً، تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر، وإنما هي آية ربانية: { قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ } أي فرعون: { آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } أي: فاتفقتم معه ليكون لكم الملك: { فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ } أي: من جانبين متخالفين: { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } أي: التي هي أقوى الأخشاب وأخشنها: { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } يعني أنكم إنما آمنتم برب موسى خوفاً من شدة عذابه. أو من تخليده في العذاب: { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } فإن رب موسى لم يقطع من أحد يده ورجله من خلاف، ولم يصلبه في جذوع النخل، ولم يبقه مصلوباً، قاله المهايميّ. وضعّفه الزمخشري بأن فرعون يريد نفسه وموسى عليه السلام، بدليل قوله: { آمَنْتُمْ لَهُ } أي: لموسى. واللام مع الإيمان، في كتاب الله لغير الله تعالى كقوله تعالى: { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [التوبة: 61] وقصده إظهار اقتداره وبطشه، وما جرى [في المطبوع: ضرى] به من تعذيب الناس بأنواع العذاب. وتوضيع موسى عليه السلام واستضعافه مع الهزء به، لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } [72]. { قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ } أي: نختارك بالإيمان والاتباع: { عَلَى مَا جَاءَنَا } أي: من الله على يد موسى: { مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا } أي: وعلى الذي خلقنا. واختيارُ هذا الوصف للإشعار بعلة الحكم. فإن خالقيته تعالى لهم، وكون فرعون من جملة مخلوقاته، مما يوجب عدم إيثارهم له عليه، سبحانه و تعالى. وهذا جواب منهم لتوبيخ فرعون بقوله: { آمَنْتُمْ لَهُ } وقيل هو قسم محذوف الجواب: { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ } أي: اصنع ما أنت صانعه. وهذا جواب عن تهديده بقوله: { لَأُقَطِّعَنَّ } الخ: { إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي: فيها وهي لا بقاء لها، ولا سلطان لك بعدها. وإنما البغية الآخرة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [73]. { إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي: ثواباً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى } [74]. { إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا } أي: فينقضي عذابه: { وَلا يَحْيَى } أي: حياة طيبة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى } [75]. { وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى } أي: المنازل الرفيعة بسبب إيمانهم وعملهم الصالح. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى } [76]. { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى } أي: تطهر من دنس الكفر والمعاصي، بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة. لطائف: من " الكشاف " و " حواشيه للناصر ". الأولى: في تخيير السحرة بين إلقاء موسى وإلقائهم، استعمال أدب حسن معه، وتواضع له وخفض جناح. وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم. وكأن الله عزّ وعلا ألهمهم ذلك، وعلم موسى - صلوات الله عليه - اختيار إلقائهم، أوّلاً، مع ما فيه من مقابلة أدب بأدب، حتى يبرزوا ما معهم من مكايد السحر، ويستنفدوا أقصى طرقهم ومجهودهم. فإذا فعلوا أظهر الله سلطانه، وقذف بالحق على الباطل فدمغه، وسلط المعجزة على السحر فمحقته، وكانت آية نيرة للناظرين. وعبرة بينة للمعتبرين. وقبل ذلك تأدبوا معه بقولهم: { فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ } ففوضوا ضرب الموعد إليه، وكما ألهم الله عزَّ وجلَّ موسى ها هنا، أن يجعلهم مبتدئين بما معهم، ليكون إلقاؤه العصا، بعدُ، قذفاً بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، كذلك ألهمه من الأول، أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم، ليكون الحق أبلج على رؤوس الأشهاد، فيكون أفضح لكيدهم وأهتك لستر حرمهم. الثانية: جوز في إِيثار قوله تعالى: { مَا فِي يَميِنِكِِ } على: { عَصَاكَ } وجهان: أحدها: أن يكون تعظيماً لها. أي: لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة. فإِن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها. وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عنده. فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها. وثانيهما: أن يكون تصغيراً لها أي: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم. وألق العُوَيْد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك. فإِنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها. وإِنما المقصود بتحقيرها في جنب القدرة، تحقير كيد السحرة بطريق الأوْلى. لأنها إذا كانت أعظمُ مُنَّةً وهي حقيرة في جانب قدرة الله تعالى، فما الظن بكيدهم وقد تلقفته هذه الحقيرة الضئيلة؟ ولأصحاب البلاغة طريق في علوّ المدح بتعظيم جيش عدوّ الممدوح، ليلزم من ذلك تعظيم جيش الممدوح وقد قهره واستولى عليه. فصغر الله أمر العصا، ليلزم منه كيد السحرة الداحض بها في طرفة عين. واعلم أنه لا بد من نكتة تناسب الأمرين - التعظيم والتحقير - وتلك، والله أعلم، هي إرادة المذكور مبهماً، لأن: { مَا فِي يَميِنِكِِ } أبهم مِنْ: { عَصَاكَ } وللعرب مذهب في التنكير والإبهام، والإجمال، تسلكه مرة لتحقير شأن ما أبهمته، وأنه عند الناطق به أهون من أن يخصه ويوضحه. ومره لتعظيم شأنه، وليؤذن أنه من عناية المتكلم والسامع بمكان، يغني في الرمز والإِشارة. فهذا هو الوجه في إِسعاده بهما جميعاً. ثم قال الناصر: وعندي في الآية وجه سوى قصد التعظيم والتحقير. والله أعلم. وهو؛ أن موسى عليه السلام، أول ما علم أن العصا آية من الله تعالى، عندما سأله عنها بقوله تعالى: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى } ثم أظهر له تعالى آيتها، فلما دخل وقت الحاجة إلى ظهور الآية منها، قال تعالى: { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ } ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ } وقد أظهر له آيتها، فيكون ذلك تنبيهاً له وتأنيساً، حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت ظهور آيتها. وذلك مقام يناسب التأنيس والتثبيت. ألا ترى إلى قوله تعالى: { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى }؟ انتهى. ولأبي حيان نكتة أخرى. وهي ما في اليمين من الإشعار باليمن والبركة. ولا يقال جاء في سورة الأعراف: { أَلْقِ عَصَاكَ } والقصة واحدة. لأنه يجاب بأنه مانع من رعاية هذه النكتة فيما وقع هنا، وحكاية ما جاء بالمعنى. هذا وقال الشهاب الخفاجي: فيما ذكروه نظر لأنه إنما يتم إذا كان الخطاب بلفظ عربي أو مرادفٍ له، يجري فيه ما يجري فيه. والأول خلاف الواقع. والثاني دونه خرط القتاد، فتأمل. أقول: إِنما استبعد الثاني، لتوهم أن لا بلاغة ولا نكات إلا في اللغة العربية. مع أن الأمر ليس كذلك. وحينئذ فيتعين الثاني. وهو ظاهر. وبه تستعاد تلك اللطائف. ثم أشار تعالى إلى عنايته بموسى وقومه، من إِنجائهم وإِهلاك عدوهم، وقد طوى هنا ما فصل في آيات أخر: بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى } [77]. { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي } أي: سر بهم من مصر ليلاً: { فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً } أي: يابساً. فضرب موسى بعصاه البحر فانفلق وجاوزه إلى ساحله: { لا تَخَافُ دَرَكاً } أي: لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوك من ورائك { وَلا تَخْشَى } أي: غرقاً من بين يديك , ووحلاً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى } [78 - 79]. { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ } لأنه ندم على الإِذن بتسريحهم من مصر، وأنهم قهروه على قلتهم كما قال: { إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } [الشعراء: 54 - 55]، فتبعهم ومعه جنوده حتى لحقوهم، ونزلوا في الطريق الذي سلكوه. ففاجأهم الموج كما قال تعالى: { فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } أي: علاهم منه وغمرهم، ما لا يحاط بهوله: { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى } أي: أوردهم الهلاك، بعتوّه وعناده في الدنيا والآخرة. وما هداهم سبيل الرشاد. ثم ذكر تعالى نعمه على بني إِسرائيل ومننه الكبرى، وما وصاهم من المحافظة على شكرها، وحذرهم من التعرض لغضبه بكفرها، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَا بَنِي إِسْرائيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } [80 - 81]. { يَا بَنِي إِسْرائيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ } وهو فرعون وقومه. فقد كانوا يسومونكم سوء العذاب. يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم. وذلك بأن أقر أعينكم منهم، بإِغراقهم، وأنتم تنظرون: { وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ } أي: بمناجاة موسى وإنزال التوراة عليه. واليهود السامرية تزعم أن هذا الجبل في نابلس ويسمونه جبل الطور ويذكر في الجغرافيا بلفظ عيبال ولهم عيد سنوي فيه يصعدون إليه، ويقربون فيه القرابين. والله أعلم. قال الزمخشري: وإِنما عدَّى المواعدة إليهم، لأنها لابستهم واتصلت بهم، حيث كانت لنبيهم ونقبائهم. وإِليهم رجعت منافعها التي قام بها دينهم وشرعهم، وفيما أفاض عليهم من سائر نعمه وأرزاقه. وجانب مفعول فيه، أو مفعول به على الاتساع. أو بتقدير مضاف. أي: إِتيان جانب { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أي: من لذائذه. فإِن المن كالعسل. والسلوى من الطيور الجيد لحمها: { وَلا تَطْغَوْا فِيهِ } أي: فيما رزقناكم، بأن يتعدى فيه حدود الله، ويخالف ما أمر به: { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } أي: هلك. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } [82]. { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } أي: تاب عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق، وعمل صالحاً بجوارحه، ثم اهتدى، أي: استقام وثبت على الهدى المذكور. وهو التوبة والإِيمان والعمل الصالح. ونحوه قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } [فصلت: 30] و [الأحقاف: 13]، وفي الآية ترغيب لمن وقع في وهدة الطغيان، ببيان المخرج له منه، كي لا ييأس. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى } [83]. { وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى } أي: أي: شيء عجّل بك عنهم، على سبيل الإنكار، وكان قد مضى معه النقباء الذين اختارهم من قومه إلى الطور، على الموعد المضروب، ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه ورضاه. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } [84]. { قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي } أي: قادمون ينزلون بالطور، وإِنما سبقتهم بما ظننت أنه خير. ولذا قال: { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } أي: عني، بمسارعتي إلى الامتثال بأمرك. واعتنائي بالوفاء بعهدك. وزيادة رَبِّ لمزيد الضراعة والابتهال، رغبةً في قبول العذر. أفاده أبو السعود. فإِن قيل: كان مقتضى جواب السؤال من موسى أن يقول: طلب زيادة رضاك أو الشوقُ إلى كلامك , فالجوابُ. أن هذا من الغفلة عن سرِّ الإنكار. وذلك لأن الإنكار بالذات إنما هو للبعد والانفصال عنهم. فهو منصبّ على القيد. كما عرف في أمثاله. فالسؤال في المعنى عن الانفصال الذي يتضمنه أعجلك المتعدي بمن. وإنكار العجلة لأنها وسيلة له. فالجواب: { هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي }. وقوله: { وَعَجِلْتُ } الخ تتميم. وقيل الجواب إنما هو قوله: { وَعَجِلْتُ } الخ، وما قبله تمهيد له. وقال الناصر: إنما أراد الله بسؤاله عن سبب العجلة، وهو أعلم، أن يعلم موسى أدب السفر. وهو أنه ينبغي تأخُّرُ رئيس القوم عنهم في المسير، ليكون نظره محيطاً بطائفته، ونافذاً فيهم، ومهيمناً عليهم. وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم، ألا ترى الله عزّ وجلّ كيف علم هذا الأدب، لوطا، فقال: { وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ } [الحجر: 65]، فأمره أن يكون أخيرهم. على أن موسى عليه السلام إنما أغفل هذا الأمر مبادرة إلى رضاء الله عزَّ وجلَّ، ومسارعة إلى الميعاد. وذلك شأن الموعود بما يسره، يود لو ركب إليه أجنحة الطير. ولا أسَرَّ من مواعدة الله تعالى له صلى الله عليه وسلم. انتهى. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } [85]. { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ } أي: ابتليناهم بعد ذهابك للمناجاة: { وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } يعني اليهوديّ الذي وسوس لهم أن يعبدوا عجلاً يتخذوه إلهاً، لما طالت عليهم غيبة موسى ويئسوا من رجوعه. والسامري في لغة العرب، بمعني اليهودي. وقد قال بالظن، من ادعى تسميته أو حاول تعيينه. وأما الطائفة السامرية الآن فهم فئة من اليهود في نابلس قليلة العدد تخالف بقية اليهود في جلّ عاداتها. وقد تضمنت هذه الجملة - أعني إخباره تعالى لموسى بالفتنة - الأمر - برجوعه لقومه، وإصلاحه ما فسد من حالهم، كما قال تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي } [86]. { فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } أي: حزيناً: { قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } أي: بإنزال التوراة عليَّ، ورجوعي بها إليكم: { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ } أي: زمان الإنجاز، أو مجيئي: { أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي } أي: وعدكم إياي بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } [87 - 88]. { قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } قرئ بالحركات الثلاث على الميم. قال الزمخشري: أي: ما أخلفنا موعدك، بأن ملكنا أمرنا. أي: لو ملكنا أمرنا، وخلينا وراءنا، لما أخلفناه. ولكن غلبنا من جهة السامريّ وكيده: { وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا } بفتح الحاء مخففاً، وبضمها وكسر الميم مشدداً: { أَوْزَاراً } أي: أثقالاً وأحمالاً: { مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ } أي: من حلي القبط، قوم فرعون، وهو حليُّ نسائهم: { فَقَذَفْنَاهَا } أي: في النار لسكبها: { فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ } أي: كان إلقاؤه: { فَأَخْرَجَ لَهُمْ } أي: من تلك الحليّ المذابة: { عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ } أي: صوت عجل. وقد قيل: إنه صار حيّاً، وخار كما يخور العجل. وقيل: لم تحلّه الحياة وإنما جعل فيه منافذ ومخارق، بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوت يشبه صوت العجل. أفاده الرازي. وقوله: { فَقَالُوا } أي: السامريُّ ومن افتتنوا به: { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } أي: غفل عنه وذهب يطلبه في الطور. ثم أنكر تعالى على من ضل بهذا العجل وأضل. مسفهاً لهم فيما أقدموا عليه، مما لا يشتبه بطلانه على أحد، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً } [89]. { أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ } أي: العجل: { إِلَيْهِمْ قَوْلاً } أي: لا يردد لهم جواباً: { وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً } أي: دفع ضرّ ولا جلب نفع، أي: فكيف يتخذ إلهاً؟. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي } [90]. { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ } أي: قبل رجوع موسى إليهم: { يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ } أي: ضللتم بعبادته: { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي } في عبادته سبحانه، ونبذ العجل. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } [91 - 93]. { قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ } أي: موسى: { يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ } أي: في الغضب لله، وشدة الزجر عن الكفر. و لا مزيدة. أو المعنى ما حملك على أن لا تتبعني، بحمل النقيض على النقيض. فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابله. أو ما منعك أن تلحقني وتخبرني بضلالهم، فتكون مفارقتك مزجرة لهم: { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } وهو ما أمره به من أن يخلفه في قومه، ويصلح ما يراه فاسداً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [94]. { قَالَ } أي: هارون: { يَا ابْنَ أُمَّ } بكسر الميم وفتحها. أراد أمي وذكرُها أعطف لقلبه: { لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي } أي: بشعره. وكان قبض عليهما يجره إليه من شدة غضبه: { إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ } أي: بتركهم لا راعي لهم: { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } أي: لم تراعه في الاستخلاف والوجود بين ظهرانيهم. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ } [95]. { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ } أي: ثم أقبل على السامري وقال له منكراً: ما شأنك فيما صنعت؟ وما دعاك إليه؟. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً } [96 - 97]. { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ } أي: فطنت لما لم يفطنوا له: { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا } أي: في الحلي المذاب حتى حَيَّ: { وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } أي: حسّنته وزينته: { قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ } أي: لعذابك: { مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً } أي: لنطيّرنّه رماداً في البحر، بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر. تنبيهات: الأول: اعلم أن هارون عليه السلام، سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه. لأنه زجرهم عن الباطل، أوّلاً بقوله: { إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ } ثم دعاهم لمعرفة الله تعالى ثانياً بقوله: { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ } ثم دعاهم ثالثاً إلى معرفة النبوة بقوله تعالى:: { فَاتَّبِعُونِي } ثم دعاهم إلى الشرائع رابعاً بقوله: { وَأَطِيعُوا أَمْرِي } وهذا هو الترتيب الجيّد. لأنه لا بد قبل كل شيء في إماطة الأذى عن الطريق، وهو إزالة الشبهات. ثم معرفة الله تعالى، فإنها هي الأصل. ثم النبوة ثم الشريعة. فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه. أفاده الرازي. وقد برأ الله تعالى بهذه الآيات البينات، هارون عليه السلام مما افتراه عليه كتبة التوراة من أنه هو السامري الذي اتخذ العجل وأمر بعبادته، كما هو موجود عندهم. وهو من أعظم الفرى، بلا امترا. الثاني: عامة المفسرين قالوا: المراد بالرسول في قوله تعالى: { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } هو جبريل عليه السلام. وأراد بأثره، التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته. ثم اختلفوا: أن السامري متى رآه؟ فقيل: إنما رآه يوم فلق البحر. وقيل: وقت ذهابه بموسى إلى الطور. واختلفوا أيضاً في: أن السامري كيف اختص برؤية جبريل عليه السلام، ومعرفته من بين سائر الناس؟ فقيل إنما عرفه لأنه رآه في صغره، وحفظه من قتل آل فرعون له، وكان ممن رباه. وكل هذا ليس عليه أثارة من علم ولا يدل عليه التنزيل الكريم. ولذا قال أبو مسلم الأصفهاني: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون. فههنا وجه آخر وهو: أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام. وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر ويقبض أثره، إذا كان يمتثل رسمه. والتقدير، أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل، فقال: { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ } أي: عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، أي: شيئاً من سنّتك ودينك. فقذفته، أي: طرحته. فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة. وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب، كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير في كذا؟ وبماذا يأمر الأمير؟. وأما دعاؤه موسى عليه السلام رسولاً، مع جحده وكفره، فعلى مثل مذهب من حكى الله تعالى عنه قوله: { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [الحجر: 6]، وإن لم يؤمنوا بالإنزال. انتهى. قال الرازي: ما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق مما ذكره المفسرون، لوجوه: أحدها: أن جبريل عليه السلام ليس بمشهور باسم الرسول. ولم يجر له فيما تقدم ذكر، حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه. فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل عليه السلام، كأنه تكليف بعلم الغيب. وثانيها: أنه لا بد فيه من الإضمار. وهو قبضة من أثر حافر فرس الرسول , والإضمار خلاف الأصل. وثالثها: أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته؟ ثم كيف عرف أن لِتُرَابِ حافر فرسه هذا الأثر؟ والذي ذكروه من أن جبريل عليه السلام هو الذي رباه، فبعيد. لأن السامري، إن عرف جبريل حال كمال عقله، عرف قطعاً أن موسى عليه السلام نبيّ صادق. فكيف يحاول الإضلال؟ وإن كان ما عرفه حال بلوغ، فأي منفعة لكون جبريل عليه السلام مربياً له حال الطفولية، في حصول تلك المعرفة؟ انتهى. التنبيه الثالث: في قوله: { لاَ مسَاسَ } وجوه: أحدها: إني لا أَمَسُّ ولا أُمَسُّ. وثانيها: المراد المنع من أن يخالط أحداً أو يخالطه أحد، عقوبة له. ثالثها: ما ذكره أبو مسلم من أنه يجوز في حمله: ما أريد مسي النساءَ , فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله. فلا يكون له ولد يؤنسه، فيخليه الله تعالى من زينتي الدنيا اللتين ذكرهما بقوله: { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [الكهف: 46]، أي: لأن المسّ يكنى به عن النكاح كما في آية: { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } [البقرة: 237]، والله أعلم. ولما فرغ موسى عليه السلام من إبطال ما دعا إليه السامري، عاد إلى بيان الدين الحق، فقال: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [98]. { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ } أي: المستحق للعبادة والتعظيم: { اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } أي: أحاط علمه كل شيء. ثم أشار تعالى إلى فضله، فيما قصه على خاتم رسله صلوات الله عليه، من أنباء الأنبياء، تنويهاً بشأنه، وزيادة في معجزاته، وتكثيراً للاعتبار والاستبصار في آياته، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً } [99]. { كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً } أي: كتاباً عظيماً جامعاً لكل كمال، وسمي القرآن: { ذِكْراً } لما فيه من ذكر ما يحتاج إلى الناس من أمر دينهم ودنياهم، ومن ذكر آلاء الله ونعمائه. ففيه التذكير والمواعظ، ولما فيه من الذكر والشرف له صلوات الله عليه ولقومه. قال الرازي: وقد سمى تعالى كل كتبه ذكراً فقال: { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ } [النحل: 43]، ثم، كما بيّن تعالى نعمته بذلك، بيّن شدة الوعيد لمن أعرض عنه ولم يؤمن به، بقوله: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً } [100 - 101]. { مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً } أي: إثماً. يعني عقوبة ثقيلة. شبهت بالحمل الثقيل لثقلها على المعاقَب وصعوبة احتمالها: { خَالِدِينَ فِيهِ } أي: في احتماله المستمر: { وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً }. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً } [102 - 103]. { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ } بدل من يوم القيامة أو منصوب بمحذوف. والنفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق: { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } [الزمر: 68]، وعلينا أن يؤمن بما ورد من النفخ في الصور. وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور. والبحث وراء هذا، عبث لا يسوغ للمسلم. أفاده بعض المحققين. { وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ } أي: نسوقهم إلى جهنم: { يَوْمَئِذٍ زُرْقاً } أي: زرق الوجوه. الزرقة تقرب من السواد. فهو بمعنى آية: { وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [آل عِمْرَان: 106]. وقال أبو مسلم: المراد بهذه الزرقة شخوص أبصارهم. والأزرق شاخص، لأنه لضعف بصره، يكون محدقاً نحو الشيء يريد أن يتبينه. وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره. وهو كقوله تعالى: { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ } [إبراهيم: 42]، نقله الرازي. والأول أظهر { يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ } أي: يتسارّون من الرعب والهول، أو من الضعف، قائلين: { إِنْ لَبِثْتُمْ } أي: في الدنيا: { إِلَّا عَشْراً } أي: عشر ليال. قال الزمخشري: يستقصرون مدة لبثهم [في المطبوع: لبثم] في الدنيا، إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور، فيتأسّفون عليها ويصفونها بالقصر. لأن أيام السرور قصار. وإما لأنها ذهبت عنهم وتَقَضَّتْ. والذاهب، وإن طالت مدته، قصير بالانتهاء. ومنه توقيع عبد الله بن المعتز تحت: أطال الله بقاءك كفى بالانتهاء قصراً. وإما لاستطالتهم الآخرة، وأنها أبد سرمد، يستقصر إليها عمر الدنيا، ويتقالّ لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة. وقد استرجح الله قول من يكون أشد تقالاً منهم، في قوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً } [104]. { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً } أي: أعدلهم رأياً: { إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً } ونحوه قوله تعالى: { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ } [المؤمنون: 112 - 113]، انتهى. قال أبو السعود: ونسبة هذا القول إلى أمثلهم، استرجاع منه تعالى له، لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق، بل لكونه أدلّ على شدة الهول. أي: ولكونه منتهى الأعداد القليلة. وكذلك لبثهم بالنسبة إلى الخلود السرمديّ، وإلى تقضي الغائب الذي كأن لم يكن. ولا ينافي هذا ما جاء في آية: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ } [الروم: 55]، لأن المراد بالساعة الحصة من الزمان القليل، فتصدق باليوم. كما أن المراد باليوم مطلق الوقت. ولذلك نكر، تقليلاً له وتحقيراً. قال الشهاب: ليس المراد بحكاية قول من قال عَشْراً أو يَوْمَاً أو سَاعَةً حقيقة اختلافهم في مدة اللبث، ولا الشك في تعيينه. بل المراد أنه لسرعة زواله، عبّر عن قلّته بما ذكر. فتفنن في الحكاية، وأتى في كل مقام بما يليق به. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } [105 - 107]. { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ } أي: هل تبقى يوم القيامة أو تزول: { فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } أي: يزيلها عن مقارّها. فيسيّرها مقذوفة في الفضاء. وقد تمرّ على الرؤوس مرّ السحاب. حتى تتساوى مع سطح الأرض. كما قال: { فَيَذَرُهَا } أي: فيذر مقارّها ومراكزها. أو الأرض المدلول عليها بقرينة الحال: { قَاعاً } أي: سهلاً مستوياً: { صَفْصَفاً } أي: أملس: { لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } أي: نتوءاً يسيراً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً } [108]. { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ } أي: يُجيبون الداعي إلى المحشر، فينقلبون من كل صوب إليه: { لا عِوَجَ لَهُ } أي: لا يعوج له مدعوّ، ولا ينحرف عنه. بل يستوون إليه. متبعين لصوته، سائرين بسيره. في شروح " الكشاف ": هذا كما يقال: لا عصيان له , أي: لا يعصى. ولا ظلم له أي: لا يظلم. وضمير له: للداعي. وقيل: للمصدر. أي: لا عوج لذلك الاتباع: { وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ } أي: انخفضت لهيبه ولهول الفزع: { فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً } أي: صوتاً خفيّاً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } [109]. { يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } أي: قبل قوله. والمعنى: يومئذ لا يستطيع أحد أن يشفع لأحد، إلا إذا أذن الله له. ولا يأذن إلا لمن علم أنه سيجاب. قال بعض المحققين: وإنما يكون الكلام ضرباً من التكريم، لمن يأذن الله له به، يختص به من يشاء. ولا أثر فيما أراد الله البتة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [110]. { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } أي: بمعلوماته، أو بذاته العلية. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } [111]. { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } أي: ذلت وخضعت خضوع العناة، أي: الأسارى. لأنها في أسر مملكته وذلّ قهره وقدرته. لا تحيا ولا تقوم إلا به. ولما كانت الوجوه يومئذ، منها الظالمة لنفسها ومنها الصالحة، أشار إلى ما يجزي به الكل، بقوله سبحانه: { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } أي: خسر. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً } [112] { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً } أي: نقص ثواب: { وَلا هَضْماً } أي: ولا كسراً منه، بعدم توفيته. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } [113]. { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ } أي: بعبارات شتى، تصريحاً وتلويحاً، وضروب أمثال، وإقامة براهين: { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي: الكفر والمعاصي بالفعل: { أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } أي: اتعاظاً واعتباراً، يؤول بهم إلى التقوى. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً } [114]. { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } أي: تناهى في العلوّ والعظمة، بحيث لا يقدر قدره، ولا يغدر أمره في ملكه الذي يعلو كل شيء، ويصرفه بمقتضى إرادته وقدرته. وفي عدله الذي يوفي كل أحد حقه بموجب حكمته: { وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } أي: بل أنصت. فإذا فرغ المَلَك من قراءته فاقرأه بعده. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقَّنه جبريل الوحيَ، يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة، لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ. فأرشد إلى أن لا يساوقه في قراءته، وأن يتأنَّى عليه ريثما يسمعه ويفهمه. ثم ليقبل عليه بالحفظ بعد ذلك. ونحوه قوله تعالى: { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [القيامة: 16 - 19]، ثم أمره تعالى باستفاضة العلم واستزادته منه بقوله: { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً } أي: سله زيادة العلم. فإن مدده غير متناه. وهذا - كما قال الزمخشري - متضمن للتواضع لله تعالى والشكر له، عندما علم من ترتيب التعلم. أي: علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم، وأدباً جميلاً ما كان عندي، فزدني علماً إلى علم. فإن لك في كل شيء حكمة وعلماً. قيل: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم. ثم أشار تعالى إلى أخذه العهد على بني آدم، من اتّباعهم كل هدى يأتيهم منه سبحانه، وترتب الفوز عليه. وإلى أن الإعراض عنه من وسوسة الشيطان، العدوّ لهم ولأبيهم قبلهم. وترتب الشقاء عليه، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [115]. { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ } أي: من قبل هذا الزمان، أن لا يقرب من الشجرة: { فَنَسِيَ } أي: العهد: { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } أي: تصميماً في حفظه. إذ لو كان كذلك، لما أزلّه الشيطان ولما استطاع أن يغرّه. كما بيّنه الله تعالى بقوله: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } [116 - 117]. { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } أي: بالابتلاء. وإسناد الشقاء إليه خاصة، لأصالته في الأمور، واستلزام شقائه بشقائها. فاختصر الكلام لذلك ,مع المحافظة على الفاصلة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى } [118 - 119]. { إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى } أي: لا تتصوّن من حرّ الشمس. قال أبو السعود: هذا تعليل لما يُوجبه النهي. فإن اجتماع أسباب الراحة فيها. مما يوجب المبالغة في الاهتمام بتحصيل مبادئ البقاء فيها. والجدِّ في الانتهاء عما يؤدي إلى الخروج عنها. والعدولُ عن التصريح بأن له عليه السلام فيها تنعماً بفنون النعم. من المآكل والمشارب، وتمتعَاً بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية، مع أن فيه من الترغيب في البقاء فيها، ما لا يخفى. إلا ما ذكر من نفي نقائضها التي هي الجوع والعطش والعري والضحو، لتذكير تلك الأمور المنكرة والتنبيه على ما فيها من أنواع الشقوة التي حذره عنها، ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها. انتهى. لطيفة: قال الناصر: في الآية سر بديع من البلاغة، يسمى قطع النظير عن النظير. وذلك أنه قطع الظمأ عن الجوع، والضحو عن الكسوة، مع ما بينهما من التناسب. والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها , ولو قرن كلَّاً بشكله لتوهم المعدودات نعمة واحدة. وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديماً وحديثاً، فقال الكندي الأول: ~كَأَنِّي لَم أَرْكَبْ جَوَاداً لِلذَّةٍ ولم أَتَبَطَّن كَاعِباً ذاتَ خِلخَالِ ~ولم أسبأ الزِّقَّ الرويّ ولم أقُل لخيليَ: كُرِّي كَرَّةً بعدَ إِجفَالِ فقطع ركوب الجواد عن قوله: لخيلي كري كرة , وقطع تبطن الكاعب عن ترشف الكاس، مع التناسب. وغرضه أن يعدّد ملاذَّه ومفاخره ويكثرها. على أن هذه الآية سرّاً لذلك، زائداً على ما ذكر، وهو قصد تناسب الفواصل. ولو قرن الظمأ بالجوع فقيل: إن لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ, لانتثر سلك رؤوس الآي. وأحسنْ به منتظماً. انتهى. وهذا السرّ الذي سمّاه: قطع النظير عن النظير يسمى بالوصل الخفي. ومما قيل في وجه القطع: أن فيه التنبيه على أن الأوليْن، أعني الشبع والكسوة أصلان. وأن الأخيرين متممان. فالامتنان على هذا أظهر. ولذا فرّق بين القرينتين. فقيل إنَّ لَكَ وأنَّك وأيضاً روعي مناسبة الشبع والكسوة. لأن الأول يكسو العظام لحماً. وأما الظمأ والضحى فمن وادٍ واحد. وقيل: إن الغرض تعديد هذه النعم. ولو قرن كل بما يشاكله، لتوهم المقرونان نعمة واحدة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [120 - 121]. { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ } أي: من أكل منها خلد ولم يمت: { وَمُلْكٍ لا يَبْلَى فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا } أي: يلزقان: { مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } أي: لهما هذا الخزي، بدل عزّ الملك المخلد. وهذه الأوراق الفانية، بدل نفائس الملابس الخالدة: { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ } أي: بارتكاب النهي، وترك العزم في حفظ العهد: { فَغَوَى } أي: عن المأمور به. حيث اعتز بقول العدوّ. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } [122 - 123]. { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ } أي: اصطفاه ووفقّه للإنابة: { فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ } أي: بعد قبول توبته: { اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً } أي: انزلا من الجنة إلى الأرض: { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } أي: متعادين. قال المهايمي: فالمرأة عدوّة الزوج، في إلجائه إلى تحصيل الحرام. والزوج عدوّها في إنفاقه عليها. وإبليس يوقع الفتنة بينهما , ويدعوهما إلى أنواع المفاسد التي لا ترتفع إلا باتباع الأمر السماويّ { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً } أي: من كتاب ورسول { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } أي: لا في الدنيا ولا الآخرة. قال أبو السعود: ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: هُدَايَ مع الإضافة إلى ضميره تعالى، لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } [124 - 127]. { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } اعلم أنه لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه في معاشه ومعاده، أخبر عن حال من أعرض عنه ولم يتبعه، من شقائه في الدنيا والآخرة. وهذا الشقاء بقسميه، هو نوع من أفانين العذاب اللاحقة لمن تولى عن هدى الله الذي بعث به خاتم أنبيائه، ولم يقبله ولم يستجب له، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمرَ ربه. وفي الآية مسائل: الأولى: قال الرازي في قوله تعالى: { عَن ذِكْرِي }: الذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى. ويحتمل أن يراد به الأدلة. وقال ابن القيّم في " مفتاح دار السعادة ": أي: عن الذكر الذي أنزلته. والذكر هنا مصدر مضاف إلى الفاعل. كقيامي وقراءتي لا إلى المفعول. وليس المعنى: ومن أعرض عن أن يذكرني. بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر. وأحسن من هذا الوجه أن يقال: الذكر هنا مضاف إضافة الأسماء، لا إضافة المصادر إلى معمولاتها. والمعنى: ومن أعرض عن كتابي ولم يتبعه، فإن القرآن يسمى ذكراً. قال تعالى: { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ } [الأنبياء: 50]، وقال تعالى: { ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ } [آل عِمْرَان: 58]. وقال تعالى: { وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } [القلم: 52]. وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ } [فصلت: 41]. وقال تعالى: { إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ } [يس: 11]، وعلى هذا فإضافته كإضافة الأسماء الجوامد التي لا يقصد بها إضافة العامل إلى معموله. ونظيره في إضافة اسم الفاعل: { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } [غافر: 3]، فإن هذه الإضافات لم يقصد بها قصد الفعل المتجدد، وإنما قصد الوصف الثابت اللازم. ولذلك جرت أوصافاً على أعرف المعارف، وهو اسم الله تعالى في قوله تعالى: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ } [غافر: 2 - 3]. الثانية: قرئ ضَنكاً بالتنوين على أنه مصدر وصف به، ولذا لم يؤنث لاستوائه في القبيلين. كما قال ابن مالك: ~وَنَعَتُوا بمصدرٍ كثيراً فالتَزَمُوا الإِفرادَ والتذكِيرَا وفي القاموس: الضنك الضيق في كل شيء، للذكر والأنثى. يقال: ضَنُكَ ككرم، ضنكاً وضناكة وضنوكة، ضاق. وقال السمين: ضنكاً صفة معيشة. وأصله المصدر فلذلك لم يؤنث. ويقع للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد. وقرأ الجمهور ضنكاً بالتنوين وصلاً وإبداله ألفاً وقفاً كسائر المعربات. وقرأت فرقة ضنكي بألف كسكري. وفي هذه الألف احتمالان: فإما أن تكون بدلاً من التنوين، وإنما أجرى الوصل مجرى الوقف، وإما أن تكون ألف التأنيث بني المصدر على فعلى نحو دعوى. الثالثة: ذكروا في هذه المعيشة الضنك التي للكافر أقوالاً: إنها في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة أو في الدين. والأظهر الأول لمقابلته بالوعيد الأخروي. قال ابن كثير: أي: ضنكاً في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره. بل صدره ضيّق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء. وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك. فلا يزال في ريبه يتردد: فهذا من ضنك المعيشة. انتهى. وذلك لأن الاعتقاد بالدين الحق واليقين الصحيح لراحة الضمائر والأنفس، فوق كل الأهواء والذات والمآرب. فالضنك المعنيّ بها، إذن هو الضنك الحيويّ والقلق الدنيوي، من اضطراب القلب وعدم سكون النفس إلى الاعتقاد الحق والإيمان بالدين القيّم الذي هو دين الإسلام. فكل من لم يؤمن به فهو في ضيق صدر وهموم ومحابس، لا يجد منها مخارج إلا به ولا يرتاب في ذلك من كابر حسه وناقض وجدانه. فإن دين الإسلام هو دين الفطرة. دين اليسر. دين العقل. دين النور الذي تنشرح به الصدور وتطمئن به القلوب وتشفى به الأنفس من أدوائها، وتهتدي به من ضلالها وحيرتها، وتستنير به من ظلماتها. ولذلك سمي هدىً ونوراً وشفاءً ورحمةً. ألق نظرك على الأديان كلها، وقابل بينها وبينه، لتدرك ذلك. هذه اليهودية، يرى في اشتراعها في الآصار والأغلال والتكاليف الشاقة في المعيشة الحيوية ما لا يطاق. قيود في المأكل والمشرب. وحجر في المنكح والمبيت والمعاشرة. وضغط على الأنفس بتقسيمها إلى طاهرين يحضرون الاحتفالات، ونجسين مبعدين لا يَلْمسون ولا يُلْمسون. دع عنك خرافات الاعتقادات والافتراء بالأهواء في التشريعات وتشعبها في الأهواء إلى شعب تتباين في العبادات. وهذه النصرانية، الذي أساسها تعديل الشرعة الموسوية قام رهبانها بعد رفع المسيح، ومضي عصر الحواريين. فأطلقوا لأتباعهم كل قيد في اليهودية. وأمروهم بنبذ أحكام التوراة نكاية لليهود. وأخذوا يشرعون للناس ما لا ينطبق على أصل التوراة ولا بعثة عيسى. فإنه عليه السلام قال: ما جئت لأهدم الناموس - التوراة - بل لأتممه. فترى ما أحدث من طقوس الكنيسة وتعاليمها، اعتقاداً وعبادة وسلطة وسيطرة جائرة على العقل والفكر، وربط الأمور بأيدي الكهنة حلاَّ وإبراماً، تبعاً لرغائب الأنفس والشهوات، مما يتضجر منه كل مسيحيّ ذاق جوهر الدين المسيحي حقّاً. إذ جوهره مع ابتداعهم على طرفي نقيض، فأنَّى لا يضيق ذرعه ولا تضنك معيشته! لذلك لما استقر سلطان الإسلام بالأندلس، واحتك النصارى بالمسلمين في الحروب الصليبية، واستمدوا من معارف الإسلام وعلومه ما قلد جيدهم منناً لا تنكر؛ أخذوا يقاومون الكنيسة في حظرها على المعارف والفنون، ومعاداتها للعلوم. وجرى بإغراء الكهنة، من الدماء المسفوكة ما اسودت به صحف التاريخ. ثم كان الفوز لدعاة الإصلاح. وتفرقوا أحزاباً. ولا يزالون يتقربون إلى الإسلام، بنبذهم سخائف ما ورثوه. ولذا تراهم في عيشة ضنك يسعون لأرقى مما هم عليه، علماً بأن الدخائل والبدع في دينهم، أفسدت عليهم ما أفسدت. ولن يتسنى لهم الرقي إلا بالرجوع إلى دين الفطرة. وهم يسعون إليه، وإن كانوا لا يشعرون، أو يشعرون ويتجاهلون. هذه رشحات من المعيشة الضنك لأمتين عظيمتين، وهما تنتميان إلى كتابين منزلين.. فما ظنك بالمجوس والوثنيين وفرقهم التي لا تحصى. ولا يزال عقلاؤهم يطلبون التملص منها، لكثرة خرافاتها وضررها، نفساً ومالاً وعرضاً. فأهلها في شقاء وعذاب لا يشاكله عذاب. ومن نجا من ويلاتها بالإسلام، لا يعد ولا يحصى. وقس على هؤلاء، الطائفة المسماة بالماديين. وهم الدهريون والطبيعيون. فإنهم بلا ريب أضيق صدراً وأضنك معيشةً وأشد اضطراباً وأعظم فرقة. فلا يمكن أن يوجد اثنان على رأي واحد. بل يتصور كل منهم إلهه كما يهوى وكما تخيِّلُهُ له رغائبه وشهواته. قال بعضهم: هؤلاء الذين يحصرون دينهم في أن يعرف الإنسان الله، ويكون مستقيماً في أعماله، إذا سئلوا: ما هو الدين الطبيعي الذي تعترفون به؟ فيجيبون إنما هو الذي يرشد إليه العقل عريّاً عن الوحي. فيقال لهم: العقل، من حيث هو، ضعيف متغيّر قاصر. يرى اليوم صوباً ما يراه في الغد خطأً. ويحكم اليوم على أمر أنه حلال مباح، ويرى غداً أنه حرام لا يجوز إتيانه. تحمله أغراضه على استحلال ما يلذّ له وتجعله مستنفراً مما يضادّ أهواءه، فكيف يكون صاحبه مستقيماً في أعماله؟ وما هي القاعدة المطردة الثابتة للاستقامة عند هؤلاء؟ وكل يرى نفسه ويخيّل له أنه مستقيم!! فالصيني مثلاً يرى نفسه مستقيماً ولو باع أو قتل أولاده. والهندي يرى هذه الاستقامة في نفسه، ولو أحرق المرأة على جثة رجلها. والوثني يرى نفسه مستقيماً، ولو ارتكب الفحشاء تكرمة للزهرة. هذا، وإن أكبر الفلاسفة ضلّوا في موادّ ما يشرعون. ولم يهتدوا لجادّة الاستقامة الحقة. فأنَّى يمكن لعامة الناس أن يكون لكل منهم دين طبيعي يقبله كيف شاء، ويجعله كشيء مرن، يمده إلى ما طاب له، ويقصره عن كل ما عافه. فيختلف هذا الدين باختلاف العقول والأهواء فيهم. وكيف نسمي شريعة ثابتة عامة، ما كان وقفاً على إرادة كل فرد وأهوائه؟ وإذا سلمنا، مجاراة، أنه يوجد من كان ميّالاً طبعاً إلى الاستقامة والعدل والعفة، فيحمله طبعه على ذلك، فماذا نقول فيمن كان بالطبع محبّاً للانتقام والاعتداء والشهوات. لا سيما والعقل ضعيف والنفس أمّارة بالسوء، فأنَّى يكون العقل وحده وازعاً عن ارتكاب المعاصي والجرائم. فما قضى سبحانه بشريعته لمخلوقاته رحمة منه بهم، إلا لضعفهم وميلهم إلى الشر. وضعف الإنسان وانحرافه يقضي بإلزامه شريعة يخضع لها. فهي ضرورية له ضرورة نظام الأجرام الفلكية لها. وملازمة له ملازمة النطق والإدراك والحرية، ولزوم الامتداد والثقل والجذب والدفع للأجرام الجامدة. وأول بينة على ملازمة الشريعة طبعَ الإنسان، ما يجده في نفسه ووجدانه من انغراسها فيه انغراساً نظريّاً. حتى لا يمكنه أن يجرّد نفسه. مثلاً، كيف يمكن للإنسان، ولو مهما تعامى في الشر، أن يجرّد نفسه عن تصور أنه خاضع لشريعة تنهاه عن القتل واختلاس مال غيره والاعتداء عليه بأيّ نوع كان؟ فالشريعة مكتوبة على قلوبنا في ألواح لحمية. ومن بحث عن عموم سكان البسيطة، وجد إجماع القبائل والشعوب قاطبة على شرائع، وإن اختلفت في بعض موادها. والحرية التي منحت للإنسان إنما قيدت محاسنها بالشرائع والخضوع لها. وإلا فهي دمار لنظام العالم، وجائحة للأدب، وآفة لما غرس البارئ في عقول الناس أجمعين، من عهد آدم إلى يومنا هذا. وذلك لاستلزامها إفساد الطبع الإنساني، والإجحاف بالشرائع الأدبية. لأن الإنسان متى علم أن ليس له إله يثيب على الخير ويعاقب على الشر، أطلق لنفسه عنان الفاسد، واطّرح العذار في مضمار الشهوات وإحراز الرغائب، قضاء لما يحسبه من سعادته، واعتقاد أن نفسه ليست خالدة. وليس لسعادته موضوع خارج عن هذه العاجلة. ولاستلزامها أيضاً هدم الاجتماع الإنسانيّ والذهاب بشأفته. إذ لا ترعى بعد الله ذمة بين الملأ, ولا حرمة للسنن والشرائع, ولا برٌّ بالملوك، ولا عدل بالرعية، ولا محبة ولا صدق ولا وفاء ولا نحو ذلك مما هو ضروريّ بالذات لقيام الألفة البشرية ونظام العمران. وبالجملة، فلا يظنن أحد أن العالم يدوم أو يبقى فيه شيء من النظام أو الهيئة الاجتماعية، إذا لم يكن الناس مقيّدين بشريعة إلهية، تصدّ الفاجر عن الفجور. فكما أن الهواء ضروريّ للحياة الطبيعية، فكذا الشريعة ضرورية للحياة الأدبية. فلا حياة للموجودات الحية دون هواء، فكذا لا انتظام ولا هيئة في العالم دون الشريعة. انتهى. وقال إمام مدقق، في بحث تصحيح الاعتقاد وضرورته لطمأنينة النفس وسعادتها، ما مثاله: إنا نرى أمام أعيننا بعضاً من الناس قد رزقوا صحة عظيمة وثروة جسيمة وتهذبوا بأنواع العلوم والمعارف، ولكنهم كثيرو الضجر شديدو الحيرة. لا يكادون يشعرون بالراحة ولا يتلذذون بملذة. كأن لهم في لذة ألماً، وبإزاء كل فرح ترحاً، يحسّون بكآبة قد رانت على صدورهم: فلا يعلمون سببها ولا يعرفون موجبها. كآبة لا تزايلهم إلا بزوال عقولهم عنهم، بكأس من الرحيق. فلذلك تراهم شديدي الكلف به كثيري التحرق لفقدانه، لأنه دواؤهم الوحيد. ما سر هذا الأرق والضجر، مع هذه الصحة الجسمية وتلك الثروة المالية، وهما الأمران اللذان عليهما، كما يزعمون، مدار السعادة الإنسانية؟ ما هذه الحيرة الوجدانية والوحشة الضميرية، مع تهذبهم بأنواع العلم، وهو كما يزعمون، الشافي للناس من نزعات الوسواس؟. أما يدلنا هذا الضجر السري على أن النفس تائقة لأمر ما، إن غاب على الإنسان علمه، فقد دله عليه أثره. وإن ذلك الأمر ليس هو صحة البدن ولا وفرة المال ولا كثرة البنين، ولا سكنى القصور، ولا أكل الصنوف، ولا سماع العيدان، ولا مغازلة الغيد. بل هو أمر آخر لا تعد هذه الملاذ بالنسبة له إلا هباء، ولا الأكوان بجانبه إلا فناءً.. ما هو هذا الأمر السامي الذي لو حصلت عليه النفس اطمأنت وسكنت، وهامت به وسكرت، ورضيت به وقنعت. هو لا شك صحة المعتقد، وإليك الدليل: ليست النفس من طبيعة هذه الأجسام الصماء. ولا من طينة هذه المادة العمياء، حتى تأنس إلى شيء من أشياء هذه الأرض الحقيرة، أو تهتم بملاذها مهما كانت كبيرة. بل هي من طبيعة نورانية محضة. فلا تأنس إلا لنور يجلي عنها ظلمات الأشياء الأرضية الكثيفة، لتشرف على حضرة القدس المنيفة، وتطل على حظائرها الشريفة. النفس أجلّ من أن تقنع بالمشتهيات الجسمانية، وأكبر من أن ترضى بملاذها المموهة الفانية. فمهما غالط الإنسان نفسه، بجمع المال ورفاهة الحال، ليرتاح سره ويسكن اضطرابه، فإن النفس لا تفتأ تقيم عليه الحجة بعد الحجة، ليهتدي إلى وَضَحِ المحجة. فإن تبصر في أمره، واكتنه حقيقة سره، وأنال نفسه بغيتها من إبلاغها نورها المرجوّ لها، سكن فؤاده وآب إليه رشاده. ولو كان جسمه بين القنا والقنابل. وحاله من الفقر في أخس المنازل. فما هو السبيل إلى إبلاغ هذه النفس الهائمة أمنيتها، وإمتاعها بطلبتها، من صحة العقيدة؟ السبيل لذلك هو العقل السليم. العقل في النوع الإنسانيّ خصيصة من أجلّ خصائصه، ومنحة من أفضل منح الله عليه، لو استعمل فيما وضع له، واعتنى بصحته واعتداله. بالعقل يسبر الإنسان غور هذا الوجود العظيم، على ضخامة أجزائه وعظم أبعاده، ويستكنه سير النواميس السائدة عليه، فيستدل بها على وجود الخالق عزَّ وجلَّ، وعلى تنزه أفعاله عن العبث، وصنائعه عن اللهو. كما يستدل به على علمه وتدبيره ورحمته وحكمته، استدلالاً محسوساً لا يقبل شبهة ولا يداخله ريبة. بالعقل يدرس الإنسان أحوال الجمعيات البشرية. في نواميس رقيّها وهبوطها، وأسباب رفعتها وضعتها. ويتصبر في أحوال الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى خلقه هادين مرشدين. فيستدل بالتدقيق فيما جاؤوا به، وفي الآثار التي تركوها، على معنى النبوّة وضرورتها للبشر. وحكمة الله تعالى في اختلاف المدارك والإحساسات، وفي تباين الملل والديانات. بالعقل يميز الإنسان بين أحوال الماضي والحال. فيفرق تبعاً لذلك بين الديانات الخاصة وبين الديانات العامة. ويعثر بتعضيد العلم والبدائة، على الديانة التي يجب أن تكون خاتمة الأديان كلها، وباقية بقاء النوع الإنسانيّ، وهي شريعة خاتم النبيين صلوات الله عليه وسلامه. الرابعة: رأيت للإمام ابن القيّم،رحمه الله ، كلاماً على هذه الآية في كتابيه: " الجواب الكافي " و " مفتاح دار السعادة " فأحببت نقله هنا لفوائده وللعناية بهذه الآية، فإنها جديرة بذلك. قال في " الجواب الكافي " في فصل أَبَان فيه العقوبات المترتبة على المعاصي: ومنها المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة. قال: وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر. ولا ريب أنه من المعيشة الضنك. والآية تتناول ما هو أعمّ منه، وإن كانت نكرة في سياق الإثبات، فإن عمومها من حيث المعنى. فإنه سبحانه رتّب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره. فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإن تنعم في الدنيا بأوصاف النعم، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب، والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه، وإنما تواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة، إن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر. فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر. فإنه يفيق صاحبه، ويصحو. وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا سكر في عسكر الأموات. فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والبرزخ ويوم المعاد. ولا تقرّ العين ولا يهدأ القلب ولا تطمئن النفس إلا بإلهها ومعبودها الذي هو حق، وكل معبود سواه باطل، فمن قرت عينه بالله، قرت به كل عين. ومن لم تقر عينه بالله , تقطعت نفسه على الدنيا حسرات. والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن بالله وعمل صالحاً، كما قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 97]، فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح، الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة، والحسنى يوم القيامة. فلهم أطيب الحياتين وهم أحياء في الدارين. ونظير هذا قوله تعالى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ } [النحل: 30]، ونظيرها قوله تعالى: { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } [هود: 3]، ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة، وحصلوا على الحياة الطيبة في الدارين، فإن طيب النفس وسرور القلب وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته، من ترك الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة، هو النعيم على الحقيقة. ولا نسبة لنعيم البدن إليه، فقد كان بعض من ذاق هذه اللذة يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف. وقال آخر: إنه يمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيّب. وقال آخر: إن في الدنيا جنة، هي في الدنيا كالجنة في الآخرة. من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. وقد أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجنة بقوله: < إذا="" مررتم="" برياض="" الجنة="" فارتعوا.="" قالوا:="" وما="" رياض="" الجنة؟="" قال:="" حلق="" الذكر="">. وقال: < ما="" بين="" بيتي="" ومنبري="" روضة="" من="" رياض="" الجنة=""> ولا تظن أن قوله تعالى: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار: 13 - 14]، يختص بيوم المعاد فقط، بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة. وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة. وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بر القلب وسلامة الصدر ومعرفة الرب تعالى ومحبته والعمل على موافقته؟ وهل عيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم؟ وقد أثنى الله تعالى على خليله عليه السلام بسلامة قلبه فقال: { وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الصافات: 83 - 84]، وقال حاكياً عنه أنه قال: { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء: 88 - 89]، والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة. فسلم من كل آفة تبعده من الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره. وسلم من كل إرادة تزاحم مراده. وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله. فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ وفي جنة يوم المعاد انتهى ملخصاً. وقالرحمه الله في " مفتاح دار السعادة ": فَسَّرَ غير واحد من السلف قوله تعالى: { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً } بعذاب القبر. وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر. ولهذا قال: { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } أي: تترك في العذاب كما تركت العمل بآياتنا. فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوار، ونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [غافر: 46]، فهذا في البرزخ: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } فهذا في القيامة الكبرى. ونظيره قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } فقول الملائكة: { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } المراد به عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت. ونظيره قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } [لأنفال: 50]، فهذه الإذاقة في البرزخ. وأولها حين الوفاة، فإنه معطوف على قوله: { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } وهو من القول المحذوف لدلالة الكلام عليه كنظائره. وكلاهما واقع وقت الوفاة. وفي الصحيح، عن البراء بن عازب في قوله: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } [إبراهيم: 27]، قال: نزلت في عذاب القبر. والأحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر. والمقصود أن الله سبحانه أخبر أن من أعرض عن ذكره هو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى، بأن له معيشة ضنكاً، وتكفل لمن حفظ عهده أن يحيه حياة طيبة ويجزيه أجره في الآخرة فقال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 97]، فأخبر سبحانه عن فلاح من تمسك بعده علماً وعملاً في العاجلة بالحياة الطيبة، وفي الآخرة بأحسن الجزاء. وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ، ونسيانه في العذاب في الآخرة. وقال سبحانه: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [الزخرف: 36 - 37]، فأخبر سبحانه أن ابتلاءه بقرينه من الشياطين وضلاله به، إنما كان لسبب إعراضه وعشوّه عن ذكره الذي أنزله على رسوله. فكان عقوبة هذا الإعراض، أن قيض له شيطاناً يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه. وهو يحسب أنه مهتد. حتى إذا وافى ربه يوم القيامة من قرينه، وعاين هلاكه وإفلاسه قال: { يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } [الزخرف: 38]، وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله، فلا بد أن يقول هذا يوم القيامة. فإن قيل: فهل لهذا عذر في ضلاله، إذا كان يحسب أنه على هدى كما قال تعالى: { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [الزخرف: 37]؟ قيل: لا عذر لهذا وأمثاله في الضلال، الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول. ولو ظن أنه مهتد، فإنه مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى. فإذا ضل فإنما أُتَي من تفريطه وإعراضه. وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة، وعجزه عن الوصول إليها، فذاك له حكم آخر. والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول. وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إقامة الحجة عليه كما قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15]، وقال تعالى: { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [النساء: 165]، وقال تعالى في أهل النار: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } [الزخرف: 76]، وقال تعالى: { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [الزمر: 56 - 59]، وهذا كثير في القرآن. الخامسة: قال ابن القيم: اختلف في قوله تعالى: { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [124]: { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى } [125] هل هو من عمى البصيرة أو من عمى البصر؟ والذين قالوا هو من عمى البصيرة، إنما حملهم على ذلك قوله تعالى: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [38]، وقوله: { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [قّ: 22]، وقوله: { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ } [الفرقان: 22]، وقوله: { لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ } [التكاثر: 6 - 7]، ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية في الآخرة لقوله: { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ } [الشورى: 45]، وقوله: { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ } [الطور: 13 - 15]، وقوله: { وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا } [الكهف: 53]. والذين رجحوا أنه من عمى البصر، قالوا: السياق يدل عليه لقوله: { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً } وهو لم يكن بصيراً في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق. فكيف يقول: { وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً } وكيف يجاب بقوله: { كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا }؟ بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمي البصر وأنه جوزي من جنس عمله. فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته، أعمى الله به بصره يوم القيامة، وتركه في العذاب، كما ترك الذكر في الدنيا، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة. وعلى تركه ذكره، تركه في العذاب. وقال تعالى: { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } [الإسراء: 97]، وقد قيل في هذه الآي أيضاً: إنهم عمي وبكم وصم عن الهدى. كما قيل في هذه الآية قوله: { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [124]، قالوا لأنهم يتكلمون يومئذٍ ويسمعون ويبصرون. ومن نَصَرَ أنه العمى والبكم والصمم، المضادّ للبصر والسمع والنطق، قال: هو عمي وصمم وبكم مقيد لا مطلق. فهو عمي عن رؤية ما يسرهم وسماعه. وهذا قد روي عن ابن عباس قال: لا يرون شيئاً يسرهم. وقال آخرون: هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة، يخرجون من الدنيا كذلك. فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك. ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد. وهذا مروي عن الحسن. وقال آخرون: هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها، سلبوا الأسماع والأبصار والنطق، حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى: { اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون: 108]، فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم فَيُبْصَرُونَ بأجمعهم، عمياً بكماً صمّاً، لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون. ولا يسمع فيها بعدها إلا الزفير والشهيق. وهذا منقول عن مقاتل. والذين قالوا: المراد به العمي عن الحجة، إنما مرادهم أنهم لا حجة لهم، ولم يريدوا أن لهم حُجَّةً، هم عُمْيٌ عنها، بل هم عُمْيٌ عن الهدى كما كانوا في الدنيا. فإن العبد يموت على ما عاش عليه. ويبعث على ما مات عليه. وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر، وأنه عمي البصر. وأن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عياناً، ويقرّ بما كان يجحد في الدنيا. فليس هو أعمى عن الحق يومئذ. وفصل الخطاب؛ أن الحشر هو الضم والجمع. ويراد به تارة الحشر إلى موقف القيامة، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم < إنكم="" محشورون="" إليّ="" حفاة="" عُراة=""> وكقوله تعالى: { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [التكوير: 5]، وكقوله تعالى: { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [الكهف: 47]، ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر. فحشر المتقين جمعهم وضمهم إلى الجنة. وحشر الكافرين جمعهم وضمهم إلى النار. لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا: { يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [الصافات: 20 - 21]، ثم قال تعالى: { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } [الصافات: 22]، الآية وهذا الحشر الثاني، وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف والحشر الثاني. يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون، وعند الحشر الثاني يحشرون على وجوههم عمياً وبكماً وصماً. ولكل موقف حال يليق به، ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته. فالقرآن يصدق بعضه بعضاً: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء: 82]. انتهى. السادسة: قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } أي: لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك، تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها. كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك: { فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } [الأعراف: 51]، فإن الجزاء من جنس العمل. فالنسيان مجاز عن الترك. قال ابن كثير: فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه، والقيام بمقتضاه، فليس دخلاً في هذا الوعيد الخاص. وإن كان متوعداً عليه من جهة أخرى. فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك. روى الإمام أحمد عن سعد بن عُبَاْدَة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: < ما="" من="" رجل="" قرأ="" القرآن="" فنسيه،="" إلا="" لقي="" الله="" يوم="" يلقاه،="" وهو="" أجذم="">؛. السابعة: قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ } الآية، أي: وهكذا نجزي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة. وعذاب الآخرة أشد وأبقى، من ضنك العيش في الدنيا. لكونه دائماً. ثم أشار تعالى إلى تقرير ما تقدم من لحوق العذاب، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى } [128]. { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } أي: لهؤلاء المكذبين: { كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ } أي: الأمم المكذبة للرسل: { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } يريد قريشاً، أي: يتقلّبون في بلاد عاد وثمود ولوط ويعاينون آثار هلاكهم، وأن ليس لهم باقية ولا عين ولا أثر: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى } أي: العقول السليمة. كما قال تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج: 46]، وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً } [129]. { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً } بيان لحكمة تأخير عذابهم مع إشعار قوله: { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } الآية، بإهلاكهم مثل هلاك أولئك والكلمة السابقة، قال القاشانيّ: هو القضاء السابق أن لا يستأصل هذه الأمة بالدمار والعذاب في الدنيا، لكون نبيّهم نبيّ الرحمة. وقوله سبحانه: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } [الأنفال: 33]. وقال الزمخشري: الكلمة السابقة هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة. يقول: لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عاداً وثموداً لازماً لهؤلاء الكفرة. واللزام إما مصدر لازم كالخصام، وصف به مبالغة. أو اسم آلة لأنها تبنى عليه كحزام وركاب، واسمُ الآلة يوصف به مبالغة أيضاً، كقولهم: مِسْعَرُ حَرْبٍ، ولِزَاز خَصْمٍ بمعنى مُلَحّ علَى خَصمه. من لَزَّ بمعنى ضيق عليه. وجوز أبو البقاء فيه كونه جمع لازم. كقيام جمع قائم. وقوله تعالى: { وَأَجَلٌ مُسَمّىً } عطف على كلمة , أي: ولولا أجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم، وهو يوم القيامة أو يوم بدر، لما تأخر عذابهم أصلاً. قال أبو السعود: وفصله عما عطف عليه، للإشعار باستقلال كل منهما، بنفي لزوم العذاب ومراعاة فواصل الآية الكريمة. وقد جوز عطفه على المستكن في كان العائد إلى الأخذ العاجل، المفهوم من السياق، تنزيلاً للفصل بالخبر منزلة التأكيد. لكان الأخذ العاجل، وأجل مسمى لازمين لهم، كدأب عاد وثمود وأضرابهم. ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى } [130]. { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى } أي: إذا كان تأخير عذابهم ليس بإهمال بل إمهاْل، فاصبر على ما يقولون من كلمات الكفر، فالفاء سببية. والمراد بالصبر عدم الاضطراب لما صدر منهم، لا ترك القتال حتى تكون الآية منسوخة. وفي التسبيح المأمور به وجهان: الأول: أنه التنزيه. والمعنى: ونزه ربك عن الشرك وسائر ما يضيفون إليه من النقائض، حامداً على ما ميّزَك بالهدى، معترفاً بأنه المولى للنعم كلها. ومن صيغه المأثورة: سبحان الله وبحمده. وعليه فسرُّ تخصيص هذه الأوقات الإشارة إلى الدوام، مع أن لبعض الأوقات مزية يفضل بها غيرها. الثاني: أنه الصلاة وهو الأقرب لآية: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } [البقرة: 45]، والآيات يفسر بعضها بعضاً. والمعنى: صلَّ وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه، قبل طلوع الشمس، يعني صلاة الفجر. وقبل غروبها، يعني صلاة الظهر والعصر، لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار، بين زوال الشمس وغروبها: { وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ } أي: من ساعاته، يعني المغرب والعشاء. وإنما قدم الوقت فيهما، لاختصاصهما بمزيد الفضل. وذلك لأن أفضل الذكر ما كان بالليل لاجتماع القلب وهدوءِ الرَّجْلِ والخلوِّ بالرب تعالى. ولأن الليل وقت السكون والراحة، فإذا صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق، وللبدن أتعب وأنصب، فكانت أفضل عند الله وأقرب. قوله تعالى: { وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } تكرير لصلاة الفجر والمغرب، إيذاناً باختصاصهما بمزيد مزية. ومجيئه بلفظ الجمع لأمن الإلباس، والمرجح مشاكلته لـ: { آنَاءِ اللَّيْلِ } أو أمر بصلاة الظهر. فإنه نهاية النصف الأول من النهار، وبداية النصف الأخير. وجمعه باعتبار النصفين. أو لأن النهار جنس فيشمل كل نهار، أو أمر بالتطوع في أجزاء النهار. وقال الرازي: إنما أمر، عقيب الصبر، بالتسبيح، لأن ذكر الله تعالى يفيد السلوة والراحة. إذ لا راحة للمؤمنين دون لقاء الله تعالى. قلت: وقد أشير إلى حكمة الأمر بالصبر والتسبيح بقوله تعالى: { لَعَلَّكَ تَرْضَى } أي: رجاء أن تنال ما به ترضى نفسك، من رفع ذكرك. ونقهرك على عدوك وبلوغ أمنيتك من ظهور توحيد ربك وهذا كقوله تعالى: { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً } [الإسراء: 79]، وقوله تعالى: { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } [الضحى: 5]. ثم أشار تعالى إلى أن ما متع به الكفار من الزخارف، إنما هو فتنة لهم فلا ينبغي الرغبة فيه، وإن ما أويته أجلّ وأسمى، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [131]. { وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ } أي: أصنافاً من الكفرة: { زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي زينتها. منصوب على البدلية من: { أَزْوَاجاً } أو بـ: { مَتّعْنَا } على تضمينه معنى: أعطينا وخولنا: { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي: لنختبرهم فيما متعناهم به من ذلك ونبتليهم. فإن ذلك فانٍ وزائل وغرور وخدع تضمحل. قال أبو السعود: { لِنَفْتِنَهُمْ } متعلق بـ: { مَتَّعْنَا } جيء به للتنفير عنه ببيان سوء عاقبته مآلاً، إثر إظهار بهجته حالاً. أي: لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم فيه. أو لنعذبهم في الآخرة بسببه: { وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي: ثوابه الأخرويّ خير في نفسه مما متعوا به وأدوم، كقوله تعالى: { ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } [القصص: 80]، أو المعنى ما أوتيت من النبوة والهدى، خير مما فتنوا به وأبقى، لأنه لا مناسبة بين الهدى الذي تتبعه السعادة في الدارين، وبين زهرة يتمتع بها مدة ثم تذبل وتفنى. وفي التعبير بالزهرة إشارة لسرعة الاضمحلال، فإن أجلها قريب. ومن لطائف الآية ما قاله الزمخشريرحمه الله ، ونصه: مد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحساناً للمنظور إليه، وإعجاباً به وتمنياً أن يكون له. كما فعل نظارة قارون حين قالوا: { يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [القصص: 79]، حتى واجههم أولوا العلم و الإيمان بـ: { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } [القصص: 80]. وفيه: أن النظر غير الممدود معفوّ عنه. وذلك مثل نظر من باده الشيء بالنظر ثم غض الطرف. ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع، وإن من أبصر منها شيئاً أحب أن يمد إليه نظره ويملأ منه عينيه، قيل: ولا تمدّن عينيك. أي: لا تفعل ما أنت معتاد له وضارٍ به. ولقد شدد العلماء من أهل التقوى في وجب غض النظر عن أبنية الظلمة، وعدد الفسقة في اللباس و المراكب وغير ذلك، لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة، فالناظر إليها محصل لغرضهم، وكالمغري لهم على اتخاذها. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [132]. { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ } يعني بأهله: أهل بيته أو التابعين له. أي: مرهم بإقامتها لتجذب قلوبهم إلى خشية الله: { وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } أي: على أدائها، لترسخ بالصبر عليها ملكة الثبات على العبادة، والخشوع والمراقبة، التي ينتج عنها كل خير. ثم أشار تعالى إلى أن الأمر بها، إنما هو لفلاح المأمور ومنفعته، ولا يعود على الآمر بها نفع ما, لتعاليه وتنزهه بقوله: { لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ } أي: لا نسألك مالاً. بل نكلفك عملاً ببدنك نؤتيك عليه أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً. ومعنى نحن نرزقك: أي: نحن نعطيك المال ونكسبك ولا نسألكه. قاله ابن جرير. وقال أبو مسلم: المعنى أنه تعالى إنما يريد منه ومنهم العبادة. ولا يريد منه أن يرزقه كما تريد السادة من العبيد الخراج. وهو كقوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } [الذاريات: 56 - 57]، وقال بعض المفسرين: معنى الآية. أقبل مع أهلك على الصلاة واستعينوا بها على خصاصتكم. ولا تهتموا بأمر الرزق والمعيشة، فإن رزقك مكفي من عندنا، ونحن رازقوك. وهذا المعنى لا تدل عليه الآية منطوقاً ولا مفهوماً. وفيه حض على القعود عن الكسب، ومستند للكسالى القانعين بسكنى المساجد عن السعي المأمور به. وقد قال تعالى في وصف المتقين: { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } [النور: 37]، إشارة إلى جمعهم بين الفضيلتين { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً } [البقرة: 201]. وقوله تعالى: { وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } أي: والعاقبة الحسنة من عمل كل عامل، لأهل التقوى والخشية من الله، دون من لا يخاف له عقاباً ولا يرجو له ثواباً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى } [133] { وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ } يعنون ما تعنتوا في اقتراحه مما تقدم، في سورة بني إسرائيل، من قوله تعالى: { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ } [الإسراء: 90 - 91]. وقوله تعالى: { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى } أي: أو لم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب، من أنباء الأمم من قبلهم، التي أهلكناهم لما سألوا الآيات، فكفروا بها لما أتتهم، كيف عجلنا لهم العذاب، وأنزلنا بهم بأسنا بكفرهم بها. يقول: فماذا يؤمنهم إن أتتهم الآية، أن يكون حالهم حال أولئك. هذا ما قاله ابن جرير. وذهب غيره إلى أن المعنى: أو لم يأتهم آية هي أم الآيات وأعظمها، وهي معجزة القرآن المبينة لما في الكتب الأولى من التوراة والإنجيل والزبور. مع أن الآتي بها أّمّيُّ لم يرها ولم يعلم ممن علمها. فنقب منها على الصحيح من أنبائها فصدقه، وعلى الباطل المحرف فَفَنَّدَهُ. وفيه إشعار بكفاية التنزيل في الإعجاز والبرهان كما قال تعالى في سورة العنكبوت: { وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [العنكبوت: 50 - 51]، ولذلك قال أحد حكماء الإسلام: إن الخارق للعادة الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته إلى التصديق برسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الخارق الذي تواتر خبره ولم ينقطع أثره. وهو الدليل وحده. وما عداه مما ورد في الأخبار، سواء صح سندها أو اشتهر أو ضعف أو وهي، فليس مما يوجب القطع عند المسلمين. فإذا أورد في مقام الاستدلال، فهو على سبيل التقوية للعقد لمن حصل أصله، وفضلٌ من التأكيد لمن سلمه من أهله. ذلك الخارق المتواتر المعول عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين، هو القرآن وحده. والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة، تدل على أن موحيه هو الله وحده وليس من اختراع البشر، هو أنه جاء على لسان أميّ لم يتعلم الكتاب ولم يمارس العلوم، وقد نزل على وتيرة واحدة هادياً للضال مقوماً للمعوج كافلاً بنظام عام لحياة من يهتدي به من الأمم، منقذاً لهم من خسران كانوا فيه. وهلاك كانوا أشرفوا عليه. وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه، حتى لقد دعي الفصحاء والبلغاء، أن يعارضوه بشيء من مثل، فعجزوا ولجأوا إلى المجالدة بالسيوف، وسفك الدماء واضطهاد المؤمنين به، إلى أن ألجاؤهم إلى الدفاع عن حقهم، وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد عالمها بأضوائها، وتنشر أنوارها في جوائها. وهذا الخارق قد دعا الناس إلى النظر فيه بعقولهم. وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم، فإما وجدوا طريقاً لإبطال إعجازه أو كونه لا يصلح دليلاً على المدعي، فعليهم أن يأتوا به، قال تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ } [البقرة: 23]، وقال: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء: 82]، وقال غير ذلك، مما هو مطالبة بمقاومة الحجة بالحجة. ولم يطالبهم بمجرد التسليم على رَغْمٍ من العقل. معجزة القرآن جامع من القول والعلم. وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم. فهي معجزة عرضت على العقل وعرفته القاضي فيها، وأطلقت له حق النظر في أنحائها [في المطبوع: أحنائها]. ونشر ما انطوى في أثنائها. وله منها حظه الذي لا ينتقص. فهي معجزة أعجزت كل طوق أن يأتي بمثلها. ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها. أما معجزة موت حيّ بلا سبب معروف للموت، أو حياة ميت أو إخراج شيطان من جسم، أو شفاء علة من بدن، فهي مما ينقطع عنده العقل ويجمد لديه الفهم. وإنما يأتي بها الله على يد رسله لإسكات أقوام غلبهم الوهم ولم تضئ عقولهم بنور العلم. وهكذا يقيم الله بقدرته من الآيات للأمم على حسب الاستعدادات. وقال فاضل آخر: قضت مراحم الله جلّ شانه أن يكوّن الأكوان في الطبيعة على ترتيب محكم. ينطلق بلسان الصمت للمتبصر، ويظهر بلباس الوضوح للمتفكر، ويحبب إليه الانتقال منه إلى غيره بدون أن يشعر بملل ولا سآمة، ولا يؤوب من استبصاره بندامة، بدون هذا الاعتبار بالعقل، لا يأتي للنفس أن تصح عقيدتها، ولا يتأتى لها تبعاً لذلك أن تسكن من اضطرابها. هذا، ولا ننكر أنه قد مضى على النوع الإنساني زمن كان فيه العقل في دور الطفولية. وكان يكفيه في الإيمان أن يندهش لأمر خارق للطبيعة، يعطل من سير نواميسها وقتاً مّاً. وكان الله سبحانه وتعالى يرأف بعباده فيرسل إليهم رسلاً يمتعهم بخصائص تعجز عن اكتناه سرها عقولهم. وتندهش لها ألبابهم، فيستدلون بهذه المعجزات على صدق الرسول وضرورة اتباعه، وأما الآن، حيث بلغ العقل أشده، والنوع الإنسانيّ رشده، فلا تجدي فيه معجزة، ولا تنفع فيه غريبة. لأن الشكوك قد كثرت مع كثرة الموادّ العلمية. فإن حدث حادث من هذا القبيل رموا فاعله بالتدليس أوّلاً، ثم إذا ظهر لهم براءته منه أخذوا يعللون معجزته بكل أنواع التعليلات. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن طائفة الاسبيريت الروحيين في أوربا تعمل الآن من الأعمال المدهشة الخارقة لنواميس الطبيعة، ما لو رآه الجهلاء لظنوا به أنه من أكبر المعجزات، من أن القوم لا يدَّعون النبوة، ولا يزعمون الرسالة. نعم، لا ننكر أن أعمال هذه الطائفة ليست من نوع معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولكنه بدون شك، يقلل من أهميتها في نظر الذين يقفون مع ظواهر الأشياء. ومما يدل على أن هذه القرون الأخيرة لا تروج فيها مسائل المعجزات، تكذيب علماء أوربا بكل المعجزات السابقة. وهو، وإن كان تهوراً منهم، إلا أنهم مصيبون في قولهم إننا في زمان لا يجدي فيه الاعتقاد إلا النور العقلي والدليل العلمي. لهذه الأسباب جاءت الشريعة الإسلامية تدعو إلى السبيل الحق، ببدائه العقل، وقواعد العلم. صارفة النظر عن المعجزات وإظهار المدهشات. لعلم الله سبحانه وتعالى بأنه سيأتي زمان تؤثر فيه المقررات العلمية على القوة العقلية، ما لا تؤثر عليها الخوارق للنواميس الطبيعية. انتهى. ثم أشار تعالى إلى منته في إرسال الرسول صلوات الله عليه، والإعذار ببعثته، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى } [134 - 135]. { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ } أي: من قبل إتيان البينة، أو محمد عليه السلام: { لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ } أي: بالعذاب الدنيويّ: { وَنَخْزَى } أي: بالعذاب الأخرويّ. أي: ولكنا لم نهلكهم قبل إتيانها. فانقطعت معذرتهم. فعند ذلك، قالوا: بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا: ما نزل الله من شيء: { قُلْ } أي: لأولئك الكفرة المتمردين: { كُلٌّ } أي: منا ومنكم: { مُتَرَبِّصٌ } أي: منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم: { فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ } أي: عن قرب: { مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ } أي: المستقيم: { وَمَنِ اهْتَدَى } أي: من الزيغ والضلالة. أي: هل هو النبي وأتباعه، أم هم وأتباعهم. وقد حقّق الله وعده. ونصر عبده. وأعز جنده. وهزم الأحزاب وحده. فله الحمد في الأولى والآخرة. القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى } [36 - 37]. { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } أي: أجيب دعاؤك. وقوله تعالى: { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى } كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله، وزيادة توطين نفس موسى عليه السلام بالقبول، ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعم التامة من غير سابقة دعاء منه وطلب، فَلأَنْ ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداعٍ، أولى وأحرى. وتصديره بالقسم، لكمال الاعتناء بذلك. أفاده أبو السعود.
وقوله تعالى: { مَرَّةً أُخْرَى } أي: في وقت آخر.
(/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [38 - 39]. { إِذْ أَوْحَيْنَا } أي: ألقينا بطريق الإلهام: { إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ } أي: الصندوق: { فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ } أي: البحر، متوكلةً على خالقه: { فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي } لدعواه الألوهية: { وَعَدُوٌّ لَهُ } لدعوته إلى نبذ ما يدعيه.
قال الزمخشريّ: لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته - أن لا تخطئ جرية اليم، الوصولَ به إلى الساحل، وإلقاءه إليه - سلك في ذلك سبيل المجاز وجعل اليم كأنه ذو تمييز أُمر بذلك، ليطيع الأمر ويمتثل رسمه. فقيل: { فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ } أي: على سبيل الاستعارة بالكناية. بتشبيه اليم بمأمور منقاد. وإثبات الأمر تخييل، وقوله تعالى: { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي } أي: واقعة مني، زرعتها في قلب من يراك. ولذلك أحبك فرعون: { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } أي: ولتربَّى بيد العدوّ على نظري بالحفظ والعناية. فعلى عيني استعارة تمثيلية للحفظ والصون، لأن المصون يجعل بمرأى. قيل: وعلى بمعنى الباء لأنه بمعنى بمرأى مني، في الأصل.
(/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } [40]. { إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ } أي: يضمن حضانته ورضاعته.
فقبلوا قولها. وذلك لأنه لما استقر عند آل فرعون، عرضوا عليه المراضع فأباها كما قال تعالى:
{ { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ } [القصص: 12]، فجاءت أخته فقالت: { { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } [القصص: 12]، فجاءت بأمه كما قال: { فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ } أي: مع كونك بيد العدوّ: { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } أي: برؤيتك: { وَلا تَحْزَنَ } أي: بفراقك. فهذه منن زائدة على النجاة من القتل.
ثم أشار إلى ما منّ عليه بالنجاة من القتل الذي لا يدفع بتلبيس، بقوله: { وَقَتَلْتَ نَفْساً } أي: من آل فرعون، وهو القبطيّ الذي استغاثه عليه الإسرائيليّ، إذ وكزه موسى فقضى عليه. أي: فاغتممت للقصاص: { فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ } أي: غم القتل بأن صرفنا عنك ما تخشاه. وذلك أنه عليه السلام فرَّ من آل فرعون حتى ورد ماء مدين. وقال له ذلك الرجل الصالح:
{ { لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [القصص: 25]، { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } أي: ابتليناك ابتلاءً. على أن الفتون مصدر كالشكور، أو ضروباً من الفتن على أنه جمع فتنة أي: فجعلنا لك فرَجاً ومخرَجاً منها. وهو إجمال لما سبق ذكره.
{ فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ } أي: معزز الجانب مكفيّ المؤونة في عشرة أتقى رجل منهم وأصلحهم، وهو نبيّهم عليه السلام: { ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } أي: بعد أن قضيت الأجل المضروب بينك وبين شعيب من الإجارة ,جئت بأهلك على وفق ما سبق في قضائي وقدري؛ أن أكلمك وأستنبئك في وقت يعينه قد وقَّته لذلك. فما جئت إلا على ذلك القدر، غير مستقدم ولا مستأخر. فالأمر له تعالى. وهو المسيّر عباده وخلقه فيما يشاء.
قال أبو السعود: وقوله تعالى: { يَا مُوسَى } تشريف له عليه الصلاة والسلام، وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولاً. وقوله تعالى: { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ... }.
(/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي } [41 - 42]. { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } تذكير لقوله تعالى: { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ } وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيداً بأخيه والاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الصنيعة. يقال: اصطنع الأمير فلاناً لنفسه، أي: جعله محلاًّ لإكرامه باختيار وتقريبه منه، بجعله من خواص نفسه وندمائه، فاستعير استعارة تمثيلية من ذلك المعنى المشبه به إلى المشبه. وهو جعله نبيّاً مكرماً كليماً منعماً عليه بجلائل النعم. قال أبو السعود: والعدول عن نون الواقعة في قوله تعالى: { وَفَتَنَّاكَ } ونظيريه السابقين، تمهيد لإفراد لفظ النفس اللائق بالمقام، فإنه أدخل في تحقيق معنى الاصطناع والاستخلاص. ثم بين ما هو المقصود بالاصطناع بقوله سبحانه: { اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي } أي: بمعجزاتي. كالعصا وبياض اليد وحل العقدة، مع ما استظهره على يده: { وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي } أي: لا تَفْتُرَا ولا تقصّرا في ذكري بما يليق بي من النعوت الجليلة، عند تبليغ رسالتي والدعاء إليّ. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [43 - 44]. { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } أي: عقابي. فإن تليين القول مما يكسر سورة عناد العتاة، ويلين عريكة الطغاة. وقد بيّن ذلك في قوله تعالى: { فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [النازعات: 18 - 19]، وبمثل ذلك أمر نبينا صلوات الله عليه في قوله: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل: 125]، وظاهر أن الرجاء في لعله إنَما هو منهما، لا من الله. فإنه لا يصح منه. ولذا قال القاضي: أي: باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما أنه يثمر ولا نخيب سعيكما. فإن الراجي، مجتهد والآيس متكلف. والفائدة في إرسالها والمبالغة عليهما في الاجتهاد - مع علمه بأنه لا يؤمن - إلزام الحجة، وقطع المعذرة، وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [45 - 46]. { قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا } أي: يبادرنا بالعقوبة: { أَوْ أَنْ يَطْغَى } أي: يزداد طغياناً بالعناد، في دفع حججنا، ثم يأمر بقتلنا، أو بالتخطي إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي، لجرأته وقسوة قلبه. واقتصر على الثاني الزمخشري. وأفاد أن في المجيء به هكذا على الإطلاق، وعلى سبيل الرمز، باباً من حسن الأدب، وتحاشياً عن التفوه بالعظيمة: { قَالَ لا تَخَافَا } أي: من فرطه وطغيانه: { إِنَّنِي مَعَكُمَا } أي: بالحفظ والنصرة: { أَسْمَعُ وَأَرَى } أي: ما يجري بينكما وبينه. فأرعاكما بالحفظ. فالمفعول محذوف للقرينة، أو نزل منزلة اللازم تتميماً لما يستقل به الحفظ. كأنه قيل: أنا حافظ لكما وناصر، سامع وبصير. وإذا كان الحافظ كذلك، تمَّ الحفظ والتأييد، وذهبت المبالاة بالعدوّ. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } [47]. { فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ } أي: بإطلاقهم من الأسر والعبودية. وتسريحهم معنا إلى وطننا فلسطين: { وَلا تُعَذِّبْهُمْ } أي: بإبقائهم على ما هم عليه من التسخير والتذليل في الأمور الشاقة: { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ } أي: تحقق رسالتي إليك منه تعالى بذلك: { وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } أي: فصدق بآيات الله المبينة للحق. وفيه من ترغيبه في اتباعهما، على ألطف وجه، ما لا يَخْفَى. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [48]. { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا } أي: من ربنا: { أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ } أي: بآياته تعالى: { وَتَوَلَّى } أي: أعرض عنها. وفيه من التلطيف في الوعيد، حيث لم يصرح بحلول العذاب به، ما لا مزيد عليه. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [49 - 50]. { قَالَ } أي: فرعون: { فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } أي: منح كل شيء من الأنفس البشرية، صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، فسواه بها وعدّله، ثم هداه بأن وهبه العقل الذي يميز بين الخير والشر. وهذه الآية في معناها كآية: { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس: 7 - 8]، وآية: { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [البلد: 10]. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } [51 - 52]. { قَالَ } أي: فرعون: { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } أي: ما حال القرون السالفة وما جرى عليهم؟ وهذا السؤال إما لصرف موسى عليه السلام عما يدعوه إليه أمام ملئه، وإشغاله بما لا يعني ما أرسل به، وإما لتوهم أن الرسول يعلم الغيب، فأراد أن يقف على نبأ ما مضى، ويفتح باباً للتخطئة والتكذيب، بالعناد واللجاج. فأجابه موسى عليه السلام بأن هذا سؤال عن الغيب وقد استأثر الله به. فلا يعلمه إلا هو. وليس من وظيفة الرسالة. وإنما علمها مكتوب في اللوح المحفوظ، محصى غير منسي. ويجوز أن يكون: { فِي كِتَابٍ } تمثيلاً لتمكنه وتقريره في علم الله عزَّ وجلَّ، بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة. قال في العناية: فيشبه علمه تعالى بها علماً ثابتاً لا يتغير، بمن علم شيئاً وكتبه في جريدته، حتى لا يذهب أصلاً، فيكون قوله: { لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } ترشيحاً للتمثيل، واحتراساً أيضاً. لأن من يفعل ذلك إنما يفعله لخوف النسيان. والله تعالى منزه عنه. فالكتاب على هذا بمعناه اللغويّ. وهو الدفتر، لا اللوح المحفوظ. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } [53]. { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً } أي: فراشاً: { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } أي: أصنافاً من نبات مختلفة الأجناس، في الطعم والرائحة والشكل والنفع. لطيفة: جعل الزمخشري قوله تعالى: { فَأَخْرَجْنَا } من باب الالتفات. وناقشه الناصر؛ بأن الالتفات إنما يكون في كلام المتكلم الواحد. يصرّف كلامه على وجوه شتى. وما نحن فيه ليس كذلك. فإن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون: { عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } ثم قوله: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً } إلى قوله: { فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } فإما أن يجعل من قول موسى، فيكون باب قول خواص الملك: أمرنا وعمرنا وإنما يريدون الملك، وليس هذا بالتفات. وإما أن يكون كلام موسى قد انتهى عند قوله: { وَلا يَنْسَى } ثم ابتدأ الله تعالى وصف ذاته بصفات إنعامه على خلقه، فليس التفاتاً أيضاً. وإنما هو انتقال من حكاية إلى إنشاء خطاب. وعلى هذا التأويل ينبغي للقارئ أن يقف وُقَيْفَة عند قوله: { وَلا يَنْسَى } ليستقر بانتهاء الحكاية. ويحتمل وجهاً آخر وهو؛ أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفات على لفظ الغيبة. فقال: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } فلما حكاه الله تعالى عنه , أسند الضمير إلى ذاته. لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى. فمرجع الضميرين واحد. وهذا الوجه وجه حسن رقيق الحاشية. وهذا أقرب الوجوه إلى الالتفات. لكن الزمخشري لم يعنه. والله أعلم. انتهى كلام الناصر. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } [54 - 55]. { كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } حال من ضمير فَأَخْرَجْنَا على إرادة القول: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مِنْهَا } أي: من الأرض: { خَلَقْنَاكُمْ } أي: خلقنا أصلكم وهو آدم. أو خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة عن الأغذية، والمتولدة من الأرض بوسائط: { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } أي: بالإماتة إعادة البذر إلى الأرض: { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } أي: بردّهم كما كانوا، أحياء. ثم أشار تعالى إلى عتوّ فرعون وعناده، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً } [56 - 58]. { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا } أي: من العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين: { فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً } أي: مستوياً واضحاً يجمعنا. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى } [59 - 60]. { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِِ } وهو يوم مشتهر عندهم باجتماع الناس فيه: { وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً } أي: ضحوة النهار ليكون الأمر مكشوفاً لا سترة فيه: { فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ } أي انصرف عن المجلس: { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } أي: ما يكيد به موسى، من السحرة وأدواتهم: { ثُمَّ أَتَى } أي: الموعد ومعه ما جمعه. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } [61 - 63]. { قَالَ لَهُمْ مُوسَى } أي: مقدماً لهم النصح والإنذار، لينقطع عذرهم: { وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً } أي: لا تخيلوا للناس بأعمالكم، إيجاد أشياء لا حقائق لها، وأنها مخلوقة وليست مخلوقة. فتكونوا قد كذبتم على الله تعالى: { فَيُسْحِتَكُمْ } أي: يستأصلكم: { بِعَذَابٍ } أي: هائل لغضبه عليكم: { وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قَالُوا } أي: بطريق التناجي والإسرار: { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } أي: بمذهبكم الأفضل. وهو ما كانوا عليه. يعنون أن قصد موسى وهارون هو عزل فرعون عن ملكه، يجعله عبداً لغيره، واستقرارهما في مكانه، وجعل قومهما مكانكم. وإلجائكم إلى مبارحة أرضكم، وإبطال طريقتكم بسحرهما الذي يريدان إعجازكم به. و: { الْمُثْلَى } تأنيث الأمثل، بمعنى الأفضل. ودعواهم ذلك، لأن كل حزب بما لديهم فرحون. لطيفة: في قوله تعالى: { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } قراءات: الأولى: { إِنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ } بتشديد النون من إِنَّ وهَذَيْنِ بالياء وهي قراءة أبي عَمْرو، وهي جارية على السَّنَنِِ المشهور في عمل إِنَّ. الثانية: { إنِْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } بتحفيف إِنَّ وإهمالها عن العمل، كما هو الأكثر فيها إذا خففت. وما بعدها مرفوع بالابتداء والخبر. واللام لام الابتداء فرقاً بينها وبين النافية. ويرى الكوفيون أن اللام هذه بمعنى إِلاّ وإِنْ قبلها نافية، واستدلوا على مجيء اللام للاستثناء بقوله: ~أمس أبانُ ذليلاً بعد عِزَّتِهِ وما أبانُ لَمِنْ أعلاج سُودَانِ والثالثة: { إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } بتشديد إِنَّ وهذان بالألف. وخرّجت على أوجه: أحدها: موافقة لغة من يأتي في المثنى بالألف في أحواله الثلاث. وهم بنو الحارث بن كعب وخثعم وَزُبَيْد وكنانة وآخرون. قال قائلهم: ~تَزَوَّدَ مِنَّا بين أُذْنَاهُ طَعْنَةً وقال آخر: ~إنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا قد بلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا وثانيها: إِنَّ إِنَّ بمعنى نعم حكاه المبرد. واستدل بقول الراجز: ~يا عمر الخيرِ جُزِيتَ الجَنَّهْ اكسُ بُنَيَّانِي وَأُمَّهُنَّهْ ~وَقُلْ لَهُنَّ: إِنَّ أَنَّ إِنَّهْ أُقْسِمُ باللهِ لَتَفْعَلَنَّهْ وقول عبد الله بن قيس الرُّقَيَّات: ~ويَقُلْنَ شيب قد علا ك وقد كَبرْتَ فقلتُ إِنَّهُ وردَّ على المبرد أبو علي الفارسي، بأنه لم يتقدم ما يجاب بنعم وأجاب الشمنّي، بأن التنازع فيما بينهم، وإسرار النجوى، يتضمن استخبار بعضهم من بعض. فهو جواب للاستخبار الضمنيّ. ولا يخفى بعده. فإن إسرار النجوى فيما بينهم ليس في الاستخبار عن كونهما ساحرين، بل هم جزموا بالسحر فقالوا: { أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ } [57]، ثم أسروا النجوى فيما يغلبان به موسى. إلا أن يقال: محطّ الجواب قوله: { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ } الخ، وما قبله توطئة. وقد رد في " المغني " هذا التخريج؛ بأن مجيء نعم شاذ حتى نفاه بعضهم. ومنعه الدمامينيّ؛ بأن سيبويه والحذّاق حكوه عن الفصحاء. وعليه، فاللام في: { لَسَاحِرانِ } لام الابتداء، زحلقت للخبر. وأبى البصريون دخولها على الخبر. وزعموا أنها في مثله داخلة على مبتدأ محذوف، أو زائدة، أو دخلت مع إن التي بمعنى نعم لشبهها بالمؤكدة لفظاً. وأقول: فيه تكلف. والشواهد على اقتران الخبر باللام كثيرة. وثالثها: أنه لما كان الإعراب لا يظهر في الواحد، وهو هذا جعل كذلك في التثنية، ليكون المثنى كالمفرد. لأنه فرع عليه. واختار هذا القول الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيميةرحمه الله تعالى، وزعم أن بناء المثنى، إذا كان مفرده مبنيّاً، أفصح من إعرابه. قال: وقد تفطن لذلك غير واحد من حذاق النحاة. ثم اعترض بأمرين: أحدهما: أن السبعة أجمعوا عل الياء في قوله تعالى: { إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } [القصص: 27]، مع أن هاتين تثنية هاتا وهو مبني. والثاني: أن الذي مبني وقد قالوا في تثنيته اللَّذَيْنِ في الجر والنصب. وهي لغة القرآن، كقوله تعالى: { رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا } [فصلت: 29]، وأجاب الأول؛ بأنه إنما جاء هاتين بالياء على لغة الإعراب لمناسبة ابنتيّ قال: فالإعراب هنا أفصح من البناء، لأجل المناسبة. كما أن البناء في: { إِنّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } أفصح من الإعراب لمناسبة الألف في هذان للألف في ساحران. وأجاب عن الثاني بالفرق بين اللذان وهذان بأن اللَّذان تثنية اسم ثلاثي، فهو شبيه بالزيدان وهذان تثنية اسم على حرفين. فهو عريق في البناء لشبهه بالحروف. قالرحمه الله : وقد زعم قوم أن قراءة من قرأ إنّ هذان لحن وإن عثمان رضي الله عنه قال: إن في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها. وهذا خبر باطل لا يصح من وجوه. أحدها: إن الصحابة كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات، فكيف يقرّون اللحن في القرآن، مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته؟. والثاني: أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام , فكيف لا يستقبحون بقاءه في المصحف؟. والثالث: أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم. لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والعجمي. والرابع: أنه قد ثبت في الصحيح أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب التابوت بالهاء على لغة الأنصار، فمنعوه من ذلك ورفعوه إلى عثمان رضي الله عنهم. فأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة قريش. ولما بلغ عمر رضي الله عنه أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ: عَتَّى حين، على لغة هذيل، أنكر ذلك عليه وقال: أقرئ الناس بلغة قريش. فإن الله تعالى إنما أنزله بلغتهم، ولم ينزله بلغة هذيل. انتهى كلام تقي الدين مخلصاً. هذا حاصل ما في " المغني " و " الشذور " و " حواشيهما " وفي الآية وجوه أخرى استقصتها المطولات. وما ذكرناه أرقها. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } [64]. { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ } تصريح بالمطلوب، إثر تمهيد المقدمات. والفاء فصيحة. أي إذا كان الأمر كما ذكر، من كونهما ساحرين، يريدان بكم ما ذكر من الإخراج، والإذهاب، فأزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعاً عليه، بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم. أفاده أبو السعود. وقوله تعالى: { ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً } أي: مصطفين، ليكون أهيب في صدور الرائين: { وَقَدْ أَفْلَحَ } أي: فاز بالإنعامات العظيمة من فرعون وملئه: { الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } أي: علا وغلب. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [65 - 66]. { قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ } أي: التي ألقوها: { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } أي: حيّات تسعى على بطونها. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [67 - 69]. { فَأَوْجَسَ } أي: أحس: { فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى } وذلك لما جُبِلَ عليه الإنسان من النفرة من الحيات. أو خاف من توهم الخلق المعارضة، بأن لهم من حبالهم وعصيهم حيات. كما أن له من عصاه حيَّة: { قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا } أي: تلتقطه بفمها: { إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ } في مقابلة آية ربانية: { وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } أي: لا يفوز بمطلوبه، أي: مكانٍ جَاءَ لدفع الحق. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } [70 - 71]. { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً } أي: فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا فأَلْقيَ السَّحَرَةُ سُجَّدَاً، تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر، وإنما هي آية ربانية: { قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ } أي فرعون: { آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } أي: فاتفقتم معه ليكون لكم الملك: { فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ } أي: من جانبين متخالفين: { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } أي: التي هي أقوى الأخشاب وأخشنها: { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } يعني أنكم إنما آمنتم برب موسى خوفاً من شدة عذابه. أو من تخليده في العذاب: { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } فإن رب موسى لم يقطع من أحد يده ورجله من خلاف، ولم يصلبه في جذوع النخل، ولم يبقه مصلوباً، قاله المهايميّ. وضعّفه الزمخشري بأن فرعون يريد نفسه وموسى عليه السلام، بدليل قوله: { آمَنْتُمْ لَهُ } أي: لموسى. واللام مع الإيمان، في كتاب الله لغير الله تعالى كقوله تعالى: { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [التوبة: 61] وقصده إظهار اقتداره وبطشه، وما جرى [في المطبوع: ضرى] به من تعذيب الناس بأنواع العذاب. وتوضيع موسى عليه السلام واستضعافه مع الهزء به، لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } [72]. { قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ } أي: نختارك بالإيمان والاتباع: { عَلَى مَا جَاءَنَا } أي: من الله على يد موسى: { مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا } أي: وعلى الذي خلقنا. واختيارُ هذا الوصف للإشعار بعلة الحكم. فإن خالقيته تعالى لهم، وكون فرعون من جملة مخلوقاته، مما يوجب عدم إيثارهم له عليه، سبحانه و تعالى. وهذا جواب منهم لتوبيخ فرعون بقوله: { آمَنْتُمْ لَهُ } وقيل هو قسم محذوف الجواب: { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ } أي: اصنع ما أنت صانعه. وهذا جواب عن تهديده بقوله: { لَأُقَطِّعَنَّ } الخ: { إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي: فيها وهي لا بقاء لها، ولا سلطان لك بعدها. وإنما البغية الآخرة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [73]. { إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي: ثواباً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى } [74]. { إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا } أي: فينقضي عذابه: { وَلا يَحْيَى } أي: حياة طيبة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى } [75]. { وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى } أي: المنازل الرفيعة بسبب إيمانهم وعملهم الصالح. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى } [76]. { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى } أي: تطهر من دنس الكفر والمعاصي، بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة. لطائف: من " الكشاف " و " حواشيه للناصر ". الأولى: في تخيير السحرة بين إلقاء موسى وإلقائهم، استعمال أدب حسن معه، وتواضع له وخفض جناح. وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم. وكأن الله عزّ وعلا ألهمهم ذلك، وعلم موسى - صلوات الله عليه - اختيار إلقائهم، أوّلاً، مع ما فيه من مقابلة أدب بأدب، حتى يبرزوا ما معهم من مكايد السحر، ويستنفدوا أقصى طرقهم ومجهودهم. فإذا فعلوا أظهر الله سلطانه، وقذف بالحق على الباطل فدمغه، وسلط المعجزة على السحر فمحقته، وكانت آية نيرة للناظرين. وعبرة بينة للمعتبرين. وقبل ذلك تأدبوا معه بقولهم: { فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ } ففوضوا ضرب الموعد إليه، وكما ألهم الله عزَّ وجلَّ موسى ها هنا، أن يجعلهم مبتدئين بما معهم، ليكون إلقاؤه العصا، بعدُ، قذفاً بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، كذلك ألهمه من الأول، أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم، ليكون الحق أبلج على رؤوس الأشهاد، فيكون أفضح لكيدهم وأهتك لستر حرمهم. الثانية: جوز في إِيثار قوله تعالى: { مَا فِي يَميِنِكِِ } على: { عَصَاكَ } وجهان: أحدها: أن يكون تعظيماً لها. أي: لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة. فإِن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها. وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عنده. فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها. وثانيهما: أن يكون تصغيراً لها أي: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم. وألق العُوَيْد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك. فإِنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها. وإِنما المقصود بتحقيرها في جنب القدرة، تحقير كيد السحرة بطريق الأوْلى. لأنها إذا كانت أعظمُ مُنَّةً وهي حقيرة في جانب قدرة الله تعالى، فما الظن بكيدهم وقد تلقفته هذه الحقيرة الضئيلة؟ ولأصحاب البلاغة طريق في علوّ المدح بتعظيم جيش عدوّ الممدوح، ليلزم من ذلك تعظيم جيش الممدوح وقد قهره واستولى عليه. فصغر الله أمر العصا، ليلزم منه كيد السحرة الداحض بها في طرفة عين. واعلم أنه لا بد من نكتة تناسب الأمرين - التعظيم والتحقير - وتلك، والله أعلم، هي إرادة المذكور مبهماً، لأن: { مَا فِي يَميِنِكِِ } أبهم مِنْ: { عَصَاكَ } وللعرب مذهب في التنكير والإبهام، والإجمال، تسلكه مرة لتحقير شأن ما أبهمته، وأنه عند الناطق به أهون من أن يخصه ويوضحه. ومره لتعظيم شأنه، وليؤذن أنه من عناية المتكلم والسامع بمكان، يغني في الرمز والإِشارة. فهذا هو الوجه في إِسعاده بهما جميعاً. ثم قال الناصر: وعندي في الآية وجه سوى قصد التعظيم والتحقير. والله أعلم. وهو؛ أن موسى عليه السلام، أول ما علم أن العصا آية من الله تعالى، عندما سأله عنها بقوله تعالى: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى } ثم أظهر له تعالى آيتها، فلما دخل وقت الحاجة إلى ظهور الآية منها، قال تعالى: { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ } ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ } وقد أظهر له آيتها، فيكون ذلك تنبيهاً له وتأنيساً، حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت ظهور آيتها. وذلك مقام يناسب التأنيس والتثبيت. ألا ترى إلى قوله تعالى: { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى }؟ انتهى. ولأبي حيان نكتة أخرى. وهي ما في اليمين من الإشعار باليمن والبركة. ولا يقال جاء في سورة الأعراف: { أَلْقِ عَصَاكَ } والقصة واحدة. لأنه يجاب بأنه مانع من رعاية هذه النكتة فيما وقع هنا، وحكاية ما جاء بالمعنى. هذا وقال الشهاب الخفاجي: فيما ذكروه نظر لأنه إنما يتم إذا كان الخطاب بلفظ عربي أو مرادفٍ له، يجري فيه ما يجري فيه. والأول خلاف الواقع. والثاني دونه خرط القتاد، فتأمل. أقول: إِنما استبعد الثاني، لتوهم أن لا بلاغة ولا نكات إلا في اللغة العربية. مع أن الأمر ليس كذلك. وحينئذ فيتعين الثاني. وهو ظاهر. وبه تستعاد تلك اللطائف. ثم أشار تعالى إلى عنايته بموسى وقومه، من إِنجائهم وإِهلاك عدوهم، وقد طوى هنا ما فصل في آيات أخر: بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى } [77]. { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي } أي: سر بهم من مصر ليلاً: { فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً } أي: يابساً. فضرب موسى بعصاه البحر فانفلق وجاوزه إلى ساحله: { لا تَخَافُ دَرَكاً } أي: لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوك من ورائك { وَلا تَخْشَى } أي: غرقاً من بين يديك , ووحلاً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى } [78 - 79]. { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ } لأنه ندم على الإِذن بتسريحهم من مصر، وأنهم قهروه على قلتهم كما قال: { إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } [الشعراء: 54 - 55]، فتبعهم ومعه جنوده حتى لحقوهم، ونزلوا في الطريق الذي سلكوه. ففاجأهم الموج كما قال تعالى: { فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } أي: علاهم منه وغمرهم، ما لا يحاط بهوله: { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى } أي: أوردهم الهلاك، بعتوّه وعناده في الدنيا والآخرة. وما هداهم سبيل الرشاد. ثم ذكر تعالى نعمه على بني إِسرائيل ومننه الكبرى، وما وصاهم من المحافظة على شكرها، وحذرهم من التعرض لغضبه بكفرها، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَا بَنِي إِسْرائيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } [80 - 81]. { يَا بَنِي إِسْرائيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ } وهو فرعون وقومه. فقد كانوا يسومونكم سوء العذاب. يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم. وذلك بأن أقر أعينكم منهم، بإِغراقهم، وأنتم تنظرون: { وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ } أي: بمناجاة موسى وإنزال التوراة عليه. واليهود السامرية تزعم أن هذا الجبل في نابلس ويسمونه جبل الطور ويذكر في الجغرافيا بلفظ عيبال ولهم عيد سنوي فيه يصعدون إليه، ويقربون فيه القرابين. والله أعلم. قال الزمخشري: وإِنما عدَّى المواعدة إليهم، لأنها لابستهم واتصلت بهم، حيث كانت لنبيهم ونقبائهم. وإِليهم رجعت منافعها التي قام بها دينهم وشرعهم، وفيما أفاض عليهم من سائر نعمه وأرزاقه. وجانب مفعول فيه، أو مفعول به على الاتساع. أو بتقدير مضاف. أي: إِتيان جانب { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أي: من لذائذه. فإِن المن كالعسل. والسلوى من الطيور الجيد لحمها: { وَلا تَطْغَوْا فِيهِ } أي: فيما رزقناكم، بأن يتعدى فيه حدود الله، ويخالف ما أمر به: { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } أي: هلك. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } [82]. { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } أي: تاب عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق، وعمل صالحاً بجوارحه، ثم اهتدى، أي: استقام وثبت على الهدى المذكور. وهو التوبة والإِيمان والعمل الصالح. ونحوه قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } [فصلت: 30] و [الأحقاف: 13]، وفي الآية ترغيب لمن وقع في وهدة الطغيان، ببيان المخرج له منه، كي لا ييأس. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى } [83]. { وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى } أي: أي: شيء عجّل بك عنهم، على سبيل الإنكار، وكان قد مضى معه النقباء الذين اختارهم من قومه إلى الطور، على الموعد المضروب، ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه ورضاه. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } [84]. { قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي } أي: قادمون ينزلون بالطور، وإِنما سبقتهم بما ظننت أنه خير. ولذا قال: { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } أي: عني، بمسارعتي إلى الامتثال بأمرك. واعتنائي بالوفاء بعهدك. وزيادة رَبِّ لمزيد الضراعة والابتهال، رغبةً في قبول العذر. أفاده أبو السعود. فإِن قيل: كان مقتضى جواب السؤال من موسى أن يقول: طلب زيادة رضاك أو الشوقُ إلى كلامك , فالجوابُ. أن هذا من الغفلة عن سرِّ الإنكار. وذلك لأن الإنكار بالذات إنما هو للبعد والانفصال عنهم. فهو منصبّ على القيد. كما عرف في أمثاله. فالسؤال في المعنى عن الانفصال الذي يتضمنه أعجلك المتعدي بمن. وإنكار العجلة لأنها وسيلة له. فالجواب: { هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي }. وقوله: { وَعَجِلْتُ } الخ تتميم. وقيل الجواب إنما هو قوله: { وَعَجِلْتُ } الخ، وما قبله تمهيد له. وقال الناصر: إنما أراد الله بسؤاله عن سبب العجلة، وهو أعلم، أن يعلم موسى أدب السفر. وهو أنه ينبغي تأخُّرُ رئيس القوم عنهم في المسير، ليكون نظره محيطاً بطائفته، ونافذاً فيهم، ومهيمناً عليهم. وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم، ألا ترى الله عزّ وجلّ كيف علم هذا الأدب، لوطا، فقال: { وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ } [الحجر: 65]، فأمره أن يكون أخيرهم. على أن موسى عليه السلام إنما أغفل هذا الأمر مبادرة إلى رضاء الله عزَّ وجلَّ، ومسارعة إلى الميعاد. وذلك شأن الموعود بما يسره، يود لو ركب إليه أجنحة الطير. ولا أسَرَّ من مواعدة الله تعالى له صلى الله عليه وسلم. انتهى. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } [85]. { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ } أي: ابتليناهم بعد ذهابك للمناجاة: { وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } يعني اليهوديّ الذي وسوس لهم أن يعبدوا عجلاً يتخذوه إلهاً، لما طالت عليهم غيبة موسى ويئسوا من رجوعه. والسامري في لغة العرب، بمعني اليهودي. وقد قال بالظن، من ادعى تسميته أو حاول تعيينه. وأما الطائفة السامرية الآن فهم فئة من اليهود في نابلس قليلة العدد تخالف بقية اليهود في جلّ عاداتها. وقد تضمنت هذه الجملة - أعني إخباره تعالى لموسى بالفتنة - الأمر - برجوعه لقومه، وإصلاحه ما فسد من حالهم، كما قال تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي } [86]. { فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } أي: حزيناً: { قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } أي: بإنزال التوراة عليَّ، ورجوعي بها إليكم: { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ } أي: زمان الإنجاز، أو مجيئي: { أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي } أي: وعدكم إياي بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } [87 - 88]. { قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } قرئ بالحركات الثلاث على الميم. قال الزمخشري: أي: ما أخلفنا موعدك، بأن ملكنا أمرنا. أي: لو ملكنا أمرنا، وخلينا وراءنا، لما أخلفناه. ولكن غلبنا من جهة السامريّ وكيده: { وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا } بفتح الحاء مخففاً، وبضمها وكسر الميم مشدداً: { أَوْزَاراً } أي: أثقالاً وأحمالاً: { مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ } أي: من حلي القبط، قوم فرعون، وهو حليُّ نسائهم: { فَقَذَفْنَاهَا } أي: في النار لسكبها: { فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ } أي: كان إلقاؤه: { فَأَخْرَجَ لَهُمْ } أي: من تلك الحليّ المذابة: { عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ } أي: صوت عجل. وقد قيل: إنه صار حيّاً، وخار كما يخور العجل. وقيل: لم تحلّه الحياة وإنما جعل فيه منافذ ومخارق، بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوت يشبه صوت العجل. أفاده الرازي. وقوله: { فَقَالُوا } أي: السامريُّ ومن افتتنوا به: { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } أي: غفل عنه وذهب يطلبه في الطور. ثم أنكر تعالى على من ضل بهذا العجل وأضل. مسفهاً لهم فيما أقدموا عليه، مما لا يشتبه بطلانه على أحد، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً } [89]. { أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ } أي: العجل: { إِلَيْهِمْ قَوْلاً } أي: لا يردد لهم جواباً: { وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً } أي: دفع ضرّ ولا جلب نفع، أي: فكيف يتخذ إلهاً؟. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي } [90]. { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ } أي: قبل رجوع موسى إليهم: { يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ } أي: ضللتم بعبادته: { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي } في عبادته سبحانه، ونبذ العجل. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } [91 - 93]. { قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ } أي: موسى: { يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ } أي: في الغضب لله، وشدة الزجر عن الكفر. و لا مزيدة. أو المعنى ما حملك على أن لا تتبعني، بحمل النقيض على النقيض. فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابله. أو ما منعك أن تلحقني وتخبرني بضلالهم، فتكون مفارقتك مزجرة لهم: { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } وهو ما أمره به من أن يخلفه في قومه، ويصلح ما يراه فاسداً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [94]. { قَالَ } أي: هارون: { يَا ابْنَ أُمَّ } بكسر الميم وفتحها. أراد أمي وذكرُها أعطف لقلبه: { لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي } أي: بشعره. وكان قبض عليهما يجره إليه من شدة غضبه: { إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ } أي: بتركهم لا راعي لهم: { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } أي: لم تراعه في الاستخلاف والوجود بين ظهرانيهم. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ } [95]. { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ } أي: ثم أقبل على السامري وقال له منكراً: ما شأنك فيما صنعت؟ وما دعاك إليه؟. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً } [96 - 97]. { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ } أي: فطنت لما لم يفطنوا له: { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا } أي: في الحلي المذاب حتى حَيَّ: { وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } أي: حسّنته وزينته: { قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ } أي: لعذابك: { مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً } أي: لنطيّرنّه رماداً في البحر، بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر. تنبيهات: الأول: اعلم أن هارون عليه السلام، سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه. لأنه زجرهم عن الباطل، أوّلاً بقوله: { إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ } ثم دعاهم لمعرفة الله تعالى ثانياً بقوله: { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ } ثم دعاهم ثالثاً إلى معرفة النبوة بقوله تعالى:: { فَاتَّبِعُونِي } ثم دعاهم إلى الشرائع رابعاً بقوله: { وَأَطِيعُوا أَمْرِي } وهذا هو الترتيب الجيّد. لأنه لا بد قبل كل شيء في إماطة الأذى عن الطريق، وهو إزالة الشبهات. ثم معرفة الله تعالى، فإنها هي الأصل. ثم النبوة ثم الشريعة. فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه. أفاده الرازي. وقد برأ الله تعالى بهذه الآيات البينات، هارون عليه السلام مما افتراه عليه كتبة التوراة من أنه هو السامري الذي اتخذ العجل وأمر بعبادته، كما هو موجود عندهم. وهو من أعظم الفرى، بلا امترا. الثاني: عامة المفسرين قالوا: المراد بالرسول في قوله تعالى: { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } هو جبريل عليه السلام. وأراد بأثره، التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته. ثم اختلفوا: أن السامري متى رآه؟ فقيل: إنما رآه يوم فلق البحر. وقيل: وقت ذهابه بموسى إلى الطور. واختلفوا أيضاً في: أن السامري كيف اختص برؤية جبريل عليه السلام، ومعرفته من بين سائر الناس؟ فقيل إنما عرفه لأنه رآه في صغره، وحفظه من قتل آل فرعون له، وكان ممن رباه. وكل هذا ليس عليه أثارة من علم ولا يدل عليه التنزيل الكريم. ولذا قال أبو مسلم الأصفهاني: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون. فههنا وجه آخر وهو: أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام. وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر ويقبض أثره، إذا كان يمتثل رسمه. والتقدير، أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل، فقال: { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ } أي: عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، أي: شيئاً من سنّتك ودينك. فقذفته، أي: طرحته. فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة. وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب، كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير في كذا؟ وبماذا يأمر الأمير؟. وأما دعاؤه موسى عليه السلام رسولاً، مع جحده وكفره، فعلى مثل مذهب من حكى الله تعالى عنه قوله: { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [الحجر: 6]، وإن لم يؤمنوا بالإنزال. انتهى. قال الرازي: ما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق مما ذكره المفسرون، لوجوه: أحدها: أن جبريل عليه السلام ليس بمشهور باسم الرسول. ولم يجر له فيما تقدم ذكر، حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه. فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل عليه السلام، كأنه تكليف بعلم الغيب. وثانيها: أنه لا بد فيه من الإضمار. وهو قبضة من أثر حافر فرس الرسول , والإضمار خلاف الأصل. وثالثها: أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته؟ ثم كيف عرف أن لِتُرَابِ حافر فرسه هذا الأثر؟ والذي ذكروه من أن جبريل عليه السلام هو الذي رباه، فبعيد. لأن السامري، إن عرف جبريل حال كمال عقله، عرف قطعاً أن موسى عليه السلام نبيّ صادق. فكيف يحاول الإضلال؟ وإن كان ما عرفه حال بلوغ، فأي منفعة لكون جبريل عليه السلام مربياً له حال الطفولية، في حصول تلك المعرفة؟ انتهى. التنبيه الثالث: في قوله: { لاَ مسَاسَ } وجوه: أحدها: إني لا أَمَسُّ ولا أُمَسُّ. وثانيها: المراد المنع من أن يخالط أحداً أو يخالطه أحد، عقوبة له. ثالثها: ما ذكره أبو مسلم من أنه يجوز في حمله: ما أريد مسي النساءَ , فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله. فلا يكون له ولد يؤنسه، فيخليه الله تعالى من زينتي الدنيا اللتين ذكرهما بقوله: { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [الكهف: 46]، أي: لأن المسّ يكنى به عن النكاح كما في آية: { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } [البقرة: 237]، والله أعلم. ولما فرغ موسى عليه السلام من إبطال ما دعا إليه السامري، عاد إلى بيان الدين الحق، فقال: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [98]. { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ } أي: المستحق للعبادة والتعظيم: { اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } أي: أحاط علمه كل شيء. ثم أشار تعالى إلى فضله، فيما قصه على خاتم رسله صلوات الله عليه، من أنباء الأنبياء، تنويهاً بشأنه، وزيادة في معجزاته، وتكثيراً للاعتبار والاستبصار في آياته، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً } [99]. { كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً } أي: كتاباً عظيماً جامعاً لكل كمال، وسمي القرآن: { ذِكْراً } لما فيه من ذكر ما يحتاج إلى الناس من أمر دينهم ودنياهم، ومن ذكر آلاء الله ونعمائه. ففيه التذكير والمواعظ، ولما فيه من الذكر والشرف له صلوات الله عليه ولقومه. قال الرازي: وقد سمى تعالى كل كتبه ذكراً فقال: { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ } [النحل: 43]، ثم، كما بيّن تعالى نعمته بذلك، بيّن شدة الوعيد لمن أعرض عنه ولم يؤمن به، بقوله: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً } [100 - 101]. { مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً } أي: إثماً. يعني عقوبة ثقيلة. شبهت بالحمل الثقيل لثقلها على المعاقَب وصعوبة احتمالها: { خَالِدِينَ فِيهِ } أي: في احتماله المستمر: { وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً }. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً } [102 - 103]. { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ } بدل من يوم القيامة أو منصوب بمحذوف. والنفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق: { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } [الزمر: 68]، وعلينا أن يؤمن بما ورد من النفخ في الصور. وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور. والبحث وراء هذا، عبث لا يسوغ للمسلم. أفاده بعض المحققين. { وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ } أي: نسوقهم إلى جهنم: { يَوْمَئِذٍ زُرْقاً } أي: زرق الوجوه. الزرقة تقرب من السواد. فهو بمعنى آية: { وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [آل عِمْرَان: 106]. وقال أبو مسلم: المراد بهذه الزرقة شخوص أبصارهم. والأزرق شاخص، لأنه لضعف بصره، يكون محدقاً نحو الشيء يريد أن يتبينه. وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره. وهو كقوله تعالى: { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ } [إبراهيم: 42]، نقله الرازي. والأول أظهر { يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ } أي: يتسارّون من الرعب والهول، أو من الضعف، قائلين: { إِنْ لَبِثْتُمْ } أي: في الدنيا: { إِلَّا عَشْراً } أي: عشر ليال. قال الزمخشري: يستقصرون مدة لبثهم [في المطبوع: لبثم] في الدنيا، إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور، فيتأسّفون عليها ويصفونها بالقصر. لأن أيام السرور قصار. وإما لأنها ذهبت عنهم وتَقَضَّتْ. والذاهب، وإن طالت مدته، قصير بالانتهاء. ومنه توقيع عبد الله بن المعتز تحت: أطال الله بقاءك كفى بالانتهاء قصراً. وإما لاستطالتهم الآخرة، وأنها أبد سرمد، يستقصر إليها عمر الدنيا، ويتقالّ لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة. وقد استرجح الله قول من يكون أشد تقالاً منهم، في قوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً } [104]. { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً } أي: أعدلهم رأياً: { إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً } ونحوه قوله تعالى: { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ } [المؤمنون: 112 - 113]، انتهى. قال أبو السعود: ونسبة هذا القول إلى أمثلهم، استرجاع منه تعالى له، لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق، بل لكونه أدلّ على شدة الهول. أي: ولكونه منتهى الأعداد القليلة. وكذلك لبثهم بالنسبة إلى الخلود السرمديّ، وإلى تقضي الغائب الذي كأن لم يكن. ولا ينافي هذا ما جاء في آية: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ } [الروم: 55]، لأن المراد بالساعة الحصة من الزمان القليل، فتصدق باليوم. كما أن المراد باليوم مطلق الوقت. ولذلك نكر، تقليلاً له وتحقيراً. قال الشهاب: ليس المراد بحكاية قول من قال عَشْراً أو يَوْمَاً أو سَاعَةً حقيقة اختلافهم في مدة اللبث، ولا الشك في تعيينه. بل المراد أنه لسرعة زواله، عبّر عن قلّته بما ذكر. فتفنن في الحكاية، وأتى في كل مقام بما يليق به. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } [105 - 107]. { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ } أي: هل تبقى يوم القيامة أو تزول: { فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } أي: يزيلها عن مقارّها. فيسيّرها مقذوفة في الفضاء. وقد تمرّ على الرؤوس مرّ السحاب. حتى تتساوى مع سطح الأرض. كما قال: { فَيَذَرُهَا } أي: فيذر مقارّها ومراكزها. أو الأرض المدلول عليها بقرينة الحال: { قَاعاً } أي: سهلاً مستوياً: { صَفْصَفاً } أي: أملس: { لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } أي: نتوءاً يسيراً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً } [108]. { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ } أي: يُجيبون الداعي إلى المحشر، فينقلبون من كل صوب إليه: { لا عِوَجَ لَهُ } أي: لا يعوج له مدعوّ، ولا ينحرف عنه. بل يستوون إليه. متبعين لصوته، سائرين بسيره. في شروح " الكشاف ": هذا كما يقال: لا عصيان له , أي: لا يعصى. ولا ظلم له أي: لا يظلم. وضمير له: للداعي. وقيل: للمصدر. أي: لا عوج لذلك الاتباع: { وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ } أي: انخفضت لهيبه ولهول الفزع: { فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً } أي: صوتاً خفيّاً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } [109]. { يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } أي: قبل قوله. والمعنى: يومئذ لا يستطيع أحد أن يشفع لأحد، إلا إذا أذن الله له. ولا يأذن إلا لمن علم أنه سيجاب. قال بعض المحققين: وإنما يكون الكلام ضرباً من التكريم، لمن يأذن الله له به، يختص به من يشاء. ولا أثر فيما أراد الله البتة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [110]. { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } أي: بمعلوماته، أو بذاته العلية. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } [111]. { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } أي: ذلت وخضعت خضوع العناة، أي: الأسارى. لأنها في أسر مملكته وذلّ قهره وقدرته. لا تحيا ولا تقوم إلا به. ولما كانت الوجوه يومئذ، منها الظالمة لنفسها ومنها الصالحة، أشار إلى ما يجزي به الكل، بقوله سبحانه: { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } أي: خسر. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً } [112] { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً } أي: نقص ثواب: { وَلا هَضْماً } أي: ولا كسراً منه، بعدم توفيته. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } [113]. { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ } أي: بعبارات شتى، تصريحاً وتلويحاً، وضروب أمثال، وإقامة براهين: { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي: الكفر والمعاصي بالفعل: { أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } أي: اتعاظاً واعتباراً، يؤول بهم إلى التقوى. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً } [114]. { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } أي: تناهى في العلوّ والعظمة، بحيث لا يقدر قدره، ولا يغدر أمره في ملكه الذي يعلو كل شيء، ويصرفه بمقتضى إرادته وقدرته. وفي عدله الذي يوفي كل أحد حقه بموجب حكمته: { وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } أي: بل أنصت. فإذا فرغ المَلَك من قراءته فاقرأه بعده. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقَّنه جبريل الوحيَ، يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة، لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ. فأرشد إلى أن لا يساوقه في قراءته، وأن يتأنَّى عليه ريثما يسمعه ويفهمه. ثم ليقبل عليه بالحفظ بعد ذلك. ونحوه قوله تعالى: { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [القيامة: 16 - 19]، ثم أمره تعالى باستفاضة العلم واستزادته منه بقوله: { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً } أي: سله زيادة العلم. فإن مدده غير متناه. وهذا - كما قال الزمخشري - متضمن للتواضع لله تعالى والشكر له، عندما علم من ترتيب التعلم. أي: علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم، وأدباً جميلاً ما كان عندي، فزدني علماً إلى علم. فإن لك في كل شيء حكمة وعلماً. قيل: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم. ثم أشار تعالى إلى أخذه العهد على بني آدم، من اتّباعهم كل هدى يأتيهم منه سبحانه، وترتب الفوز عليه. وإلى أن الإعراض عنه من وسوسة الشيطان، العدوّ لهم ولأبيهم قبلهم. وترتب الشقاء عليه، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [115]. { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ } أي: من قبل هذا الزمان، أن لا يقرب من الشجرة: { فَنَسِيَ } أي: العهد: { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } أي: تصميماً في حفظه. إذ لو كان كذلك، لما أزلّه الشيطان ولما استطاع أن يغرّه. كما بيّنه الله تعالى بقوله: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } [116 - 117]. { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } أي: بالابتلاء. وإسناد الشقاء إليه خاصة، لأصالته في الأمور، واستلزام شقائه بشقائها. فاختصر الكلام لذلك ,مع المحافظة على الفاصلة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى } [118 - 119]. { إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى } أي: لا تتصوّن من حرّ الشمس. قال أبو السعود: هذا تعليل لما يُوجبه النهي. فإن اجتماع أسباب الراحة فيها. مما يوجب المبالغة في الاهتمام بتحصيل مبادئ البقاء فيها. والجدِّ في الانتهاء عما يؤدي إلى الخروج عنها. والعدولُ عن التصريح بأن له عليه السلام فيها تنعماً بفنون النعم. من المآكل والمشارب، وتمتعَاً بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية، مع أن فيه من الترغيب في البقاء فيها، ما لا يخفى. إلا ما ذكر من نفي نقائضها التي هي الجوع والعطش والعري والضحو، لتذكير تلك الأمور المنكرة والتنبيه على ما فيها من أنواع الشقوة التي حذره عنها، ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها. انتهى. لطيفة: قال الناصر: في الآية سر بديع من البلاغة، يسمى قطع النظير عن النظير. وذلك أنه قطع الظمأ عن الجوع، والضحو عن الكسوة، مع ما بينهما من التناسب. والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها , ولو قرن كلَّاً بشكله لتوهم المعدودات نعمة واحدة. وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديماً وحديثاً، فقال الكندي الأول: ~كَأَنِّي لَم أَرْكَبْ جَوَاداً لِلذَّةٍ ولم أَتَبَطَّن كَاعِباً ذاتَ خِلخَالِ ~ولم أسبأ الزِّقَّ الرويّ ولم أقُل لخيليَ: كُرِّي كَرَّةً بعدَ إِجفَالِ فقطع ركوب الجواد عن قوله: لخيلي كري كرة , وقطع تبطن الكاعب عن ترشف الكاس، مع التناسب. وغرضه أن يعدّد ملاذَّه ومفاخره ويكثرها. على أن هذه الآية سرّاً لذلك، زائداً على ما ذكر، وهو قصد تناسب الفواصل. ولو قرن الظمأ بالجوع فقيل: إن لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ, لانتثر سلك رؤوس الآي. وأحسنْ به منتظماً. انتهى. وهذا السرّ الذي سمّاه: قطع النظير عن النظير يسمى بالوصل الخفي. ومما قيل في وجه القطع: أن فيه التنبيه على أن الأوليْن، أعني الشبع والكسوة أصلان. وأن الأخيرين متممان. فالامتنان على هذا أظهر. ولذا فرّق بين القرينتين. فقيل إنَّ لَكَ وأنَّك وأيضاً روعي مناسبة الشبع والكسوة. لأن الأول يكسو العظام لحماً. وأما الظمأ والضحى فمن وادٍ واحد. وقيل: إن الغرض تعديد هذه النعم. ولو قرن كل بما يشاكله، لتوهم المقرونان نعمة واحدة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [120 - 121]. { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ } أي: من أكل منها خلد ولم يمت: { وَمُلْكٍ لا يَبْلَى فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا } أي: يلزقان: { مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } أي: لهما هذا الخزي، بدل عزّ الملك المخلد. وهذه الأوراق الفانية، بدل نفائس الملابس الخالدة: { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ } أي: بارتكاب النهي، وترك العزم في حفظ العهد: { فَغَوَى } أي: عن المأمور به. حيث اعتز بقول العدوّ. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } [122 - 123]. { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ } أي: اصطفاه ووفقّه للإنابة: { فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ } أي: بعد قبول توبته: { اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً } أي: انزلا من الجنة إلى الأرض: { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } أي: متعادين. قال المهايمي: فالمرأة عدوّة الزوج، في إلجائه إلى تحصيل الحرام. والزوج عدوّها في إنفاقه عليها. وإبليس يوقع الفتنة بينهما , ويدعوهما إلى أنواع المفاسد التي لا ترتفع إلا باتباع الأمر السماويّ { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً } أي: من كتاب ورسول { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } أي: لا في الدنيا ولا الآخرة. قال أبو السعود: ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: هُدَايَ مع الإضافة إلى ضميره تعالى، لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } [124 - 127]. { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } اعلم أنه لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه في معاشه ومعاده، أخبر عن حال من أعرض عنه ولم يتبعه، من شقائه في الدنيا والآخرة. وهذا الشقاء بقسميه، هو نوع من أفانين العذاب اللاحقة لمن تولى عن هدى الله الذي بعث به خاتم أنبيائه، ولم يقبله ولم يستجب له، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمرَ ربه. وفي الآية مسائل: الأولى: قال الرازي في قوله تعالى: { عَن ذِكْرِي }: الذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى. ويحتمل أن يراد به الأدلة. وقال ابن القيّم في " مفتاح دار السعادة ": أي: عن الذكر الذي أنزلته. والذكر هنا مصدر مضاف إلى الفاعل. كقيامي وقراءتي لا إلى المفعول. وليس المعنى: ومن أعرض عن أن يذكرني. بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر. وأحسن من هذا الوجه أن يقال: الذكر هنا مضاف إضافة الأسماء، لا إضافة المصادر إلى معمولاتها. والمعنى: ومن أعرض عن كتابي ولم يتبعه، فإن القرآن يسمى ذكراً. قال تعالى: { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ } [الأنبياء: 50]، وقال تعالى: { ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ } [آل عِمْرَان: 58]. وقال تعالى: { وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } [القلم: 52]. وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ } [فصلت: 41]. وقال تعالى: { إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ } [يس: 11]، وعلى هذا فإضافته كإضافة الأسماء الجوامد التي لا يقصد بها إضافة العامل إلى معموله. ونظيره في إضافة اسم الفاعل: { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } [غافر: 3]، فإن هذه الإضافات لم يقصد بها قصد الفعل المتجدد، وإنما قصد الوصف الثابت اللازم. ولذلك جرت أوصافاً على أعرف المعارف، وهو اسم الله تعالى في قوله تعالى: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ } [غافر: 2 - 3]. الثانية: قرئ ضَنكاً بالتنوين على أنه مصدر وصف به، ولذا لم يؤنث لاستوائه في القبيلين. كما قال ابن مالك: ~وَنَعَتُوا بمصدرٍ كثيراً فالتَزَمُوا الإِفرادَ والتذكِيرَا وفي القاموس: الضنك الضيق في كل شيء، للذكر والأنثى. يقال: ضَنُكَ ككرم، ضنكاً وضناكة وضنوكة، ضاق. وقال السمين: ضنكاً صفة معيشة. وأصله المصدر فلذلك لم يؤنث. ويقع للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد. وقرأ الجمهور ضنكاً بالتنوين وصلاً وإبداله ألفاً وقفاً كسائر المعربات. وقرأت فرقة ضنكي بألف كسكري. وفي هذه الألف احتمالان: فإما أن تكون بدلاً من التنوين، وإنما أجرى الوصل مجرى الوقف، وإما أن تكون ألف التأنيث بني المصدر على فعلى نحو دعوى. الثالثة: ذكروا في هذه المعيشة الضنك التي للكافر أقوالاً: إنها في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة أو في الدين. والأظهر الأول لمقابلته بالوعيد الأخروي. قال ابن كثير: أي: ضنكاً في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره. بل صدره ضيّق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء. وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك. فلا يزال في ريبه يتردد: فهذا من ضنك المعيشة. انتهى. وذلك لأن الاعتقاد بالدين الحق واليقين الصحيح لراحة الضمائر والأنفس، فوق كل الأهواء والذات والمآرب. فالضنك المعنيّ بها، إذن هو الضنك الحيويّ والقلق الدنيوي، من اضطراب القلب وعدم سكون النفس إلى الاعتقاد الحق والإيمان بالدين القيّم الذي هو دين الإسلام. فكل من لم يؤمن به فهو في ضيق صدر وهموم ومحابس، لا يجد منها مخارج إلا به ولا يرتاب في ذلك من كابر حسه وناقض وجدانه. فإن دين الإسلام هو دين الفطرة. دين اليسر. دين العقل. دين النور الذي تنشرح به الصدور وتطمئن به القلوب وتشفى به الأنفس من أدوائها، وتهتدي به من ضلالها وحيرتها، وتستنير به من ظلماتها. ولذلك سمي هدىً ونوراً وشفاءً ورحمةً. ألق نظرك على الأديان كلها، وقابل بينها وبينه، لتدرك ذلك. هذه اليهودية، يرى في اشتراعها في الآصار والأغلال والتكاليف الشاقة في المعيشة الحيوية ما لا يطاق. قيود في المأكل والمشرب. وحجر في المنكح والمبيت والمعاشرة. وضغط على الأنفس بتقسيمها إلى طاهرين يحضرون الاحتفالات، ونجسين مبعدين لا يَلْمسون ولا يُلْمسون. دع عنك خرافات الاعتقادات والافتراء بالأهواء في التشريعات وتشعبها في الأهواء إلى شعب تتباين في العبادات. وهذه النصرانية، الذي أساسها تعديل الشرعة الموسوية قام رهبانها بعد رفع المسيح، ومضي عصر الحواريين. فأطلقوا لأتباعهم كل قيد في اليهودية. وأمروهم بنبذ أحكام التوراة نكاية لليهود. وأخذوا يشرعون للناس ما لا ينطبق على أصل التوراة ولا بعثة عيسى. فإنه عليه السلام قال: ما جئت لأهدم الناموس - التوراة - بل لأتممه. فترى ما أحدث من طقوس الكنيسة وتعاليمها، اعتقاداً وعبادة وسلطة وسيطرة جائرة على العقل والفكر، وربط الأمور بأيدي الكهنة حلاَّ وإبراماً، تبعاً لرغائب الأنفس والشهوات، مما يتضجر منه كل مسيحيّ ذاق جوهر الدين المسيحي حقّاً. إذ جوهره مع ابتداعهم على طرفي نقيض، فأنَّى لا يضيق ذرعه ولا تضنك معيشته! لذلك لما استقر سلطان الإسلام بالأندلس، واحتك النصارى بالمسلمين في الحروب الصليبية، واستمدوا من معارف الإسلام وعلومه ما قلد جيدهم منناً لا تنكر؛ أخذوا يقاومون الكنيسة في حظرها على المعارف والفنون، ومعاداتها للعلوم. وجرى بإغراء الكهنة، من الدماء المسفوكة ما اسودت به صحف التاريخ. ثم كان الفوز لدعاة الإصلاح. وتفرقوا أحزاباً. ولا يزالون يتقربون إلى الإسلام، بنبذهم سخائف ما ورثوه. ولذا تراهم في عيشة ضنك يسعون لأرقى مما هم عليه، علماً بأن الدخائل والبدع في دينهم، أفسدت عليهم ما أفسدت. ولن يتسنى لهم الرقي إلا بالرجوع إلى دين الفطرة. وهم يسعون إليه، وإن كانوا لا يشعرون، أو يشعرون ويتجاهلون. هذه رشحات من المعيشة الضنك لأمتين عظيمتين، وهما تنتميان إلى كتابين منزلين.. فما ظنك بالمجوس والوثنيين وفرقهم التي لا تحصى. ولا يزال عقلاؤهم يطلبون التملص منها، لكثرة خرافاتها وضررها، نفساً ومالاً وعرضاً. فأهلها في شقاء وعذاب لا يشاكله عذاب. ومن نجا من ويلاتها بالإسلام، لا يعد ولا يحصى. وقس على هؤلاء، الطائفة المسماة بالماديين. وهم الدهريون والطبيعيون. فإنهم بلا ريب أضيق صدراً وأضنك معيشةً وأشد اضطراباً وأعظم فرقة. فلا يمكن أن يوجد اثنان على رأي واحد. بل يتصور كل منهم إلهه كما يهوى وكما تخيِّلُهُ له رغائبه وشهواته. قال بعضهم: هؤلاء الذين يحصرون دينهم في أن يعرف الإنسان الله، ويكون مستقيماً في أعماله، إذا سئلوا: ما هو الدين الطبيعي الذي تعترفون به؟ فيجيبون إنما هو الذي يرشد إليه العقل عريّاً عن الوحي. فيقال لهم: العقل، من حيث هو، ضعيف متغيّر قاصر. يرى اليوم صوباً ما يراه في الغد خطأً. ويحكم اليوم على أمر أنه حلال مباح، ويرى غداً أنه حرام لا يجوز إتيانه. تحمله أغراضه على استحلال ما يلذّ له وتجعله مستنفراً مما يضادّ أهواءه، فكيف يكون صاحبه مستقيماً في أعماله؟ وما هي القاعدة المطردة الثابتة للاستقامة عند هؤلاء؟ وكل يرى نفسه ويخيّل له أنه مستقيم!! فالصيني مثلاً يرى نفسه مستقيماً ولو باع أو قتل أولاده. والهندي يرى هذه الاستقامة في نفسه، ولو أحرق المرأة على جثة رجلها. والوثني يرى نفسه مستقيماً، ولو ارتكب الفحشاء تكرمة للزهرة. هذا، وإن أكبر الفلاسفة ضلّوا في موادّ ما يشرعون. ولم يهتدوا لجادّة الاستقامة الحقة. فأنَّى يمكن لعامة الناس أن يكون لكل منهم دين طبيعي يقبله كيف شاء، ويجعله كشيء مرن، يمده إلى ما طاب له، ويقصره عن كل ما عافه. فيختلف هذا الدين باختلاف العقول والأهواء فيهم. وكيف نسمي شريعة ثابتة عامة، ما كان وقفاً على إرادة كل فرد وأهوائه؟ وإذا سلمنا، مجاراة، أنه يوجد من كان ميّالاً طبعاً إلى الاستقامة والعدل والعفة، فيحمله طبعه على ذلك، فماذا نقول فيمن كان بالطبع محبّاً للانتقام والاعتداء والشهوات. لا سيما والعقل ضعيف والنفس أمّارة بالسوء، فأنَّى يكون العقل وحده وازعاً عن ارتكاب المعاصي والجرائم. فما قضى سبحانه بشريعته لمخلوقاته رحمة منه بهم، إلا لضعفهم وميلهم إلى الشر. وضعف الإنسان وانحرافه يقضي بإلزامه شريعة يخضع لها. فهي ضرورية له ضرورة نظام الأجرام الفلكية لها. وملازمة له ملازمة النطق والإدراك والحرية، ولزوم الامتداد والثقل والجذب والدفع للأجرام الجامدة. وأول بينة على ملازمة الشريعة طبعَ الإنسان، ما يجده في نفسه ووجدانه من انغراسها فيه انغراساً نظريّاً. حتى لا يمكنه أن يجرّد نفسه. مثلاً، كيف يمكن للإنسان، ولو مهما تعامى في الشر، أن يجرّد نفسه عن تصور أنه خاضع لشريعة تنهاه عن القتل واختلاس مال غيره والاعتداء عليه بأيّ نوع كان؟ فالشريعة مكتوبة على قلوبنا في ألواح لحمية. ومن بحث عن عموم سكان البسيطة، وجد إجماع القبائل والشعوب قاطبة على شرائع، وإن اختلفت في بعض موادها. والحرية التي منحت للإنسان إنما قيدت محاسنها بالشرائع والخضوع لها. وإلا فهي دمار لنظام العالم، وجائحة للأدب، وآفة لما غرس البارئ في عقول الناس أجمعين، من عهد آدم إلى يومنا هذا. وذلك لاستلزامها إفساد الطبع الإنساني، والإجحاف بالشرائع الأدبية. لأن الإنسان متى علم أن ليس له إله يثيب على الخير ويعاقب على الشر، أطلق لنفسه عنان الفاسد، واطّرح العذار في مضمار الشهوات وإحراز الرغائب، قضاء لما يحسبه من سعادته، واعتقاد أن نفسه ليست خالدة. وليس لسعادته موضوع خارج عن هذه العاجلة. ولاستلزامها أيضاً هدم الاجتماع الإنسانيّ والذهاب بشأفته. إذ لا ترعى بعد الله ذمة بين الملأ, ولا حرمة للسنن والشرائع, ولا برٌّ بالملوك، ولا عدل بالرعية، ولا محبة ولا صدق ولا وفاء ولا نحو ذلك مما هو ضروريّ بالذات لقيام الألفة البشرية ونظام العمران. وبالجملة، فلا يظنن أحد أن العالم يدوم أو يبقى فيه شيء من النظام أو الهيئة الاجتماعية، إذا لم يكن الناس مقيّدين بشريعة إلهية، تصدّ الفاجر عن الفجور. فكما أن الهواء ضروريّ للحياة الطبيعية، فكذا الشريعة ضرورية للحياة الأدبية. فلا حياة للموجودات الحية دون هواء، فكذا لا انتظام ولا هيئة في العالم دون الشريعة. انتهى. وقال إمام مدقق، في بحث تصحيح الاعتقاد وضرورته لطمأنينة النفس وسعادتها، ما مثاله: إنا نرى أمام أعيننا بعضاً من الناس قد رزقوا صحة عظيمة وثروة جسيمة وتهذبوا بأنواع العلوم والمعارف، ولكنهم كثيرو الضجر شديدو الحيرة. لا يكادون يشعرون بالراحة ولا يتلذذون بملذة. كأن لهم في لذة ألماً، وبإزاء كل فرح ترحاً، يحسّون بكآبة قد رانت على صدورهم: فلا يعلمون سببها ولا يعرفون موجبها. كآبة لا تزايلهم إلا بزوال عقولهم عنهم، بكأس من الرحيق. فلذلك تراهم شديدي الكلف به كثيري التحرق لفقدانه، لأنه دواؤهم الوحيد. ما سر هذا الأرق والضجر، مع هذه الصحة الجسمية وتلك الثروة المالية، وهما الأمران اللذان عليهما، كما يزعمون، مدار السعادة الإنسانية؟ ما هذه الحيرة الوجدانية والوحشة الضميرية، مع تهذبهم بأنواع العلم، وهو كما يزعمون، الشافي للناس من نزعات الوسواس؟. أما يدلنا هذا الضجر السري على أن النفس تائقة لأمر ما، إن غاب على الإنسان علمه، فقد دله عليه أثره. وإن ذلك الأمر ليس هو صحة البدن ولا وفرة المال ولا كثرة البنين، ولا سكنى القصور، ولا أكل الصنوف، ولا سماع العيدان، ولا مغازلة الغيد. بل هو أمر آخر لا تعد هذه الملاذ بالنسبة له إلا هباء، ولا الأكوان بجانبه إلا فناءً.. ما هو هذا الأمر السامي الذي لو حصلت عليه النفس اطمأنت وسكنت، وهامت به وسكرت، ورضيت به وقنعت. هو لا شك صحة المعتقد، وإليك الدليل: ليست النفس من طبيعة هذه الأجسام الصماء. ولا من طينة هذه المادة العمياء، حتى تأنس إلى شيء من أشياء هذه الأرض الحقيرة، أو تهتم بملاذها مهما كانت كبيرة. بل هي من طبيعة نورانية محضة. فلا تأنس إلا لنور يجلي عنها ظلمات الأشياء الأرضية الكثيفة، لتشرف على حضرة القدس المنيفة، وتطل على حظائرها الشريفة. النفس أجلّ من أن تقنع بالمشتهيات الجسمانية، وأكبر من أن ترضى بملاذها المموهة الفانية. فمهما غالط الإنسان نفسه، بجمع المال ورفاهة الحال، ليرتاح سره ويسكن اضطرابه، فإن النفس لا تفتأ تقيم عليه الحجة بعد الحجة، ليهتدي إلى وَضَحِ المحجة. فإن تبصر في أمره، واكتنه حقيقة سره، وأنال نفسه بغيتها من إبلاغها نورها المرجوّ لها، سكن فؤاده وآب إليه رشاده. ولو كان جسمه بين القنا والقنابل. وحاله من الفقر في أخس المنازل. فما هو السبيل إلى إبلاغ هذه النفس الهائمة أمنيتها، وإمتاعها بطلبتها، من صحة العقيدة؟ السبيل لذلك هو العقل السليم. العقل في النوع الإنسانيّ خصيصة من أجلّ خصائصه، ومنحة من أفضل منح الله عليه، لو استعمل فيما وضع له، واعتنى بصحته واعتداله. بالعقل يسبر الإنسان غور هذا الوجود العظيم، على ضخامة أجزائه وعظم أبعاده، ويستكنه سير النواميس السائدة عليه، فيستدل بها على وجود الخالق عزَّ وجلَّ، وعلى تنزه أفعاله عن العبث، وصنائعه عن اللهو. كما يستدل به على علمه وتدبيره ورحمته وحكمته، استدلالاً محسوساً لا يقبل شبهة ولا يداخله ريبة. بالعقل يدرس الإنسان أحوال الجمعيات البشرية. في نواميس رقيّها وهبوطها، وأسباب رفعتها وضعتها. ويتصبر في أحوال الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى خلقه هادين مرشدين. فيستدل بالتدقيق فيما جاؤوا به، وفي الآثار التي تركوها، على معنى النبوّة وضرورتها للبشر. وحكمة الله تعالى في اختلاف المدارك والإحساسات، وفي تباين الملل والديانات. بالعقل يميز الإنسان بين أحوال الماضي والحال. فيفرق تبعاً لذلك بين الديانات الخاصة وبين الديانات العامة. ويعثر بتعضيد العلم والبدائة، على الديانة التي يجب أن تكون خاتمة الأديان كلها، وباقية بقاء النوع الإنسانيّ، وهي شريعة خاتم النبيين صلوات الله عليه وسلامه. الرابعة: رأيت للإمام ابن القيّم،رحمه الله ، كلاماً على هذه الآية في كتابيه: " الجواب الكافي " و " مفتاح دار السعادة " فأحببت نقله هنا لفوائده وللعناية بهذه الآية، فإنها جديرة بذلك. قال في " الجواب الكافي " في فصل أَبَان فيه العقوبات المترتبة على المعاصي: ومنها المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة. قال: وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر. ولا ريب أنه من المعيشة الضنك. والآية تتناول ما هو أعمّ منه، وإن كانت نكرة في سياق الإثبات، فإن عمومها من حيث المعنى. فإنه سبحانه رتّب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره. فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإن تنعم في الدنيا بأوصاف النعم، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب، والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه، وإنما تواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة، إن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر. فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر. فإنه يفيق صاحبه، ويصحو. وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا سكر في عسكر الأموات. فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والبرزخ ويوم المعاد. ولا تقرّ العين ولا يهدأ القلب ولا تطمئن النفس إلا بإلهها ومعبودها الذي هو حق، وكل معبود سواه باطل، فمن قرت عينه بالله، قرت به كل عين. ومن لم تقر عينه بالله , تقطعت نفسه على الدنيا حسرات. والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن بالله وعمل صالحاً، كما قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 97]، فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح، الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة، والحسنى يوم القيامة. فلهم أطيب الحياتين وهم أحياء في الدارين. ونظير هذا قوله تعالى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ } [النحل: 30]، ونظيرها قوله تعالى: { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } [هود: 3]، ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة، وحصلوا على الحياة الطيبة في الدارين، فإن طيب النفس وسرور القلب وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته، من ترك الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة، هو النعيم على الحقيقة. ولا نسبة لنعيم البدن إليه، فقد كان بعض من ذاق هذه اللذة يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف. وقال آخر: إنه يمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيّب. وقال آخر: إن في الدنيا جنة، هي في الدنيا كالجنة في الآخرة. من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. وقد أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجنة بقوله: < إذا="" مررتم="" برياض="" الجنة="" فارتعوا.="" قالوا:="" وما="" رياض="" الجنة؟="" قال:="" حلق="" الذكر="">. وقال: < ما="" بين="" بيتي="" ومنبري="" روضة="" من="" رياض="" الجنة=""> ولا تظن أن قوله تعالى: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار: 13 - 14]، يختص بيوم المعاد فقط، بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة. وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة. وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بر القلب وسلامة الصدر ومعرفة الرب تعالى ومحبته والعمل على موافقته؟ وهل عيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم؟ وقد أثنى الله تعالى على خليله عليه السلام بسلامة قلبه فقال: { وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الصافات: 83 - 84]، وقال حاكياً عنه أنه قال: { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء: 88 - 89]، والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة. فسلم من كل آفة تبعده من الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره. وسلم من كل إرادة تزاحم مراده. وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله. فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ وفي جنة يوم المعاد انتهى ملخصاً. وقالرحمه الله في " مفتاح دار السعادة ": فَسَّرَ غير واحد من السلف قوله تعالى: { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً } بعذاب القبر. وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر. ولهذا قال: { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } أي: تترك في العذاب كما تركت العمل بآياتنا. فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوار، ونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [غافر: 46]، فهذا في البرزخ: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } فهذا في القيامة الكبرى. ونظيره قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } فقول الملائكة: { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } المراد به عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت. ونظيره قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } [لأنفال: 50]، فهذه الإذاقة في البرزخ. وأولها حين الوفاة، فإنه معطوف على قوله: { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } وهو من القول المحذوف لدلالة الكلام عليه كنظائره. وكلاهما واقع وقت الوفاة. وفي الصحيح، عن البراء بن عازب في قوله: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } [إبراهيم: 27]، قال: نزلت في عذاب القبر. والأحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر. والمقصود أن الله سبحانه أخبر أن من أعرض عن ذكره هو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى، بأن له معيشة ضنكاً، وتكفل لمن حفظ عهده أن يحيه حياة طيبة ويجزيه أجره في الآخرة فقال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 97]، فأخبر سبحانه عن فلاح من تمسك بعده علماً وعملاً في العاجلة بالحياة الطيبة، وفي الآخرة بأحسن الجزاء. وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ، ونسيانه في العذاب في الآخرة. وقال سبحانه: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [الزخرف: 36 - 37]، فأخبر سبحانه أن ابتلاءه بقرينه من الشياطين وضلاله به، إنما كان لسبب إعراضه وعشوّه عن ذكره الذي أنزله على رسوله. فكان عقوبة هذا الإعراض، أن قيض له شيطاناً يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه. وهو يحسب أنه مهتد. حتى إذا وافى ربه يوم القيامة من قرينه، وعاين هلاكه وإفلاسه قال: { يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } [الزخرف: 38]، وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله، فلا بد أن يقول هذا يوم القيامة. فإن قيل: فهل لهذا عذر في ضلاله، إذا كان يحسب أنه على هدى كما قال تعالى: { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [الزخرف: 37]؟ قيل: لا عذر لهذا وأمثاله في الضلال، الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول. ولو ظن أنه مهتد، فإنه مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى. فإذا ضل فإنما أُتَي من تفريطه وإعراضه. وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة، وعجزه عن الوصول إليها، فذاك له حكم آخر. والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول. وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إقامة الحجة عليه كما قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15]، وقال تعالى: { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [النساء: 165]، وقال تعالى في أهل النار: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } [الزخرف: 76]، وقال تعالى: { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [الزمر: 56 - 59]، وهذا كثير في القرآن. الخامسة: قال ابن القيم: اختلف في قوله تعالى: { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [124]: { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى } [125] هل هو من عمى البصيرة أو من عمى البصر؟ والذين قالوا هو من عمى البصيرة، إنما حملهم على ذلك قوله تعالى: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [38]، وقوله: { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [قّ: 22]، وقوله: { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ } [الفرقان: 22]، وقوله: { لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ } [التكاثر: 6 - 7]، ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية في الآخرة لقوله: { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ } [الشورى: 45]، وقوله: { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ } [الطور: 13 - 15]، وقوله: { وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا } [الكهف: 53]. والذين رجحوا أنه من عمى البصر، قالوا: السياق يدل عليه لقوله: { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً } وهو لم يكن بصيراً في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق. فكيف يقول: { وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً } وكيف يجاب بقوله: { كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا }؟ بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمي البصر وأنه جوزي من جنس عمله. فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته، أعمى الله به بصره يوم القيامة، وتركه في العذاب، كما ترك الذكر في الدنيا، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة. وعلى تركه ذكره، تركه في العذاب. وقال تعالى: { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } [الإسراء: 97]، وقد قيل في هذه الآي أيضاً: إنهم عمي وبكم وصم عن الهدى. كما قيل في هذه الآية قوله: { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [124]، قالوا لأنهم يتكلمون يومئذٍ ويسمعون ويبصرون. ومن نَصَرَ أنه العمى والبكم والصمم، المضادّ للبصر والسمع والنطق، قال: هو عمي وصمم وبكم مقيد لا مطلق. فهو عمي عن رؤية ما يسرهم وسماعه. وهذا قد روي عن ابن عباس قال: لا يرون شيئاً يسرهم. وقال آخرون: هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة، يخرجون من الدنيا كذلك. فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك. ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد. وهذا مروي عن الحسن. وقال آخرون: هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها، سلبوا الأسماع والأبصار والنطق، حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى: { اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون: 108]، فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم فَيُبْصَرُونَ بأجمعهم، عمياً بكماً صمّاً، لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون. ولا يسمع فيها بعدها إلا الزفير والشهيق. وهذا منقول عن مقاتل. والذين قالوا: المراد به العمي عن الحجة، إنما مرادهم أنهم لا حجة لهم، ولم يريدوا أن لهم حُجَّةً، هم عُمْيٌ عنها، بل هم عُمْيٌ عن الهدى كما كانوا في الدنيا. فإن العبد يموت على ما عاش عليه. ويبعث على ما مات عليه. وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر، وأنه عمي البصر. وأن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عياناً، ويقرّ بما كان يجحد في الدنيا. فليس هو أعمى عن الحق يومئذ. وفصل الخطاب؛ أن الحشر هو الضم والجمع. ويراد به تارة الحشر إلى موقف القيامة، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم < إنكم="" محشورون="" إليّ="" حفاة="" عُراة=""> وكقوله تعالى: { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [التكوير: 5]، وكقوله تعالى: { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [الكهف: 47]، ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر. فحشر المتقين جمعهم وضمهم إلى الجنة. وحشر الكافرين جمعهم وضمهم إلى النار. لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا: { يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [الصافات: 20 - 21]، ثم قال تعالى: { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } [الصافات: 22]، الآية وهذا الحشر الثاني، وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف والحشر الثاني. يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون، وعند الحشر الثاني يحشرون على وجوههم عمياً وبكماً وصماً. ولكل موقف حال يليق به، ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته. فالقرآن يصدق بعضه بعضاً: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء: 82]. انتهى. السادسة: قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } أي: لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك، تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها. كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك: { فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } [الأعراف: 51]، فإن الجزاء من جنس العمل. فالنسيان مجاز عن الترك. قال ابن كثير: فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه، والقيام بمقتضاه، فليس دخلاً في هذا الوعيد الخاص. وإن كان متوعداً عليه من جهة أخرى. فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك. روى الإمام أحمد عن سعد بن عُبَاْدَة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: < ما="" من="" رجل="" قرأ="" القرآن="" فنسيه،="" إلا="" لقي="" الله="" يوم="" يلقاه،="" وهو="" أجذم="">؛. السابعة: قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ } الآية، أي: وهكذا نجزي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة. وعذاب الآخرة أشد وأبقى، من ضنك العيش في الدنيا. لكونه دائماً. ثم أشار تعالى إلى تقرير ما تقدم من لحوق العذاب، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى } [128]. { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } أي: لهؤلاء المكذبين: { كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ } أي: الأمم المكذبة للرسل: { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } يريد قريشاً، أي: يتقلّبون في بلاد عاد وثمود ولوط ويعاينون آثار هلاكهم، وأن ليس لهم باقية ولا عين ولا أثر: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى } أي: العقول السليمة. كما قال تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج: 46]، وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً } [129]. { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً } بيان لحكمة تأخير عذابهم مع إشعار قوله: { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } الآية، بإهلاكهم مثل هلاك أولئك والكلمة السابقة، قال القاشانيّ: هو القضاء السابق أن لا يستأصل هذه الأمة بالدمار والعذاب في الدنيا، لكون نبيّهم نبيّ الرحمة. وقوله سبحانه: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } [الأنفال: 33]. وقال الزمخشري: الكلمة السابقة هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة. يقول: لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عاداً وثموداً لازماً لهؤلاء الكفرة. واللزام إما مصدر لازم كالخصام، وصف به مبالغة. أو اسم آلة لأنها تبنى عليه كحزام وركاب، واسمُ الآلة يوصف به مبالغة أيضاً، كقولهم: مِسْعَرُ حَرْبٍ، ولِزَاز خَصْمٍ بمعنى مُلَحّ علَى خَصمه. من لَزَّ بمعنى ضيق عليه. وجوز أبو البقاء فيه كونه جمع لازم. كقيام جمع قائم. وقوله تعالى: { وَأَجَلٌ مُسَمّىً } عطف على كلمة , أي: ولولا أجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم، وهو يوم القيامة أو يوم بدر، لما تأخر عذابهم أصلاً. قال أبو السعود: وفصله عما عطف عليه، للإشعار باستقلال كل منهما، بنفي لزوم العذاب ومراعاة فواصل الآية الكريمة. وقد جوز عطفه على المستكن في كان العائد إلى الأخذ العاجل، المفهوم من السياق، تنزيلاً للفصل بالخبر منزلة التأكيد. لكان الأخذ العاجل، وأجل مسمى لازمين لهم، كدأب عاد وثمود وأضرابهم. ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى } [130]. { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى } أي: إذا كان تأخير عذابهم ليس بإهمال بل إمهاْل، فاصبر على ما يقولون من كلمات الكفر، فالفاء سببية. والمراد بالصبر عدم الاضطراب لما صدر منهم، لا ترك القتال حتى تكون الآية منسوخة. وفي التسبيح المأمور به وجهان: الأول: أنه التنزيه. والمعنى: ونزه ربك عن الشرك وسائر ما يضيفون إليه من النقائض، حامداً على ما ميّزَك بالهدى، معترفاً بأنه المولى للنعم كلها. ومن صيغه المأثورة: سبحان الله وبحمده. وعليه فسرُّ تخصيص هذه الأوقات الإشارة إلى الدوام، مع أن لبعض الأوقات مزية يفضل بها غيرها. الثاني: أنه الصلاة وهو الأقرب لآية: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } [البقرة: 45]، والآيات يفسر بعضها بعضاً. والمعنى: صلَّ وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه، قبل طلوع الشمس، يعني صلاة الفجر. وقبل غروبها، يعني صلاة الظهر والعصر، لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار، بين زوال الشمس وغروبها: { وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ } أي: من ساعاته، يعني المغرب والعشاء. وإنما قدم الوقت فيهما، لاختصاصهما بمزيد الفضل. وذلك لأن أفضل الذكر ما كان بالليل لاجتماع القلب وهدوءِ الرَّجْلِ والخلوِّ بالرب تعالى. ولأن الليل وقت السكون والراحة، فإذا صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق، وللبدن أتعب وأنصب، فكانت أفضل عند الله وأقرب. قوله تعالى: { وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } تكرير لصلاة الفجر والمغرب، إيذاناً باختصاصهما بمزيد مزية. ومجيئه بلفظ الجمع لأمن الإلباس، والمرجح مشاكلته لـ: { آنَاءِ اللَّيْلِ } أو أمر بصلاة الظهر. فإنه نهاية النصف الأول من النهار، وبداية النصف الأخير. وجمعه باعتبار النصفين. أو لأن النهار جنس فيشمل كل نهار، أو أمر بالتطوع في أجزاء النهار. وقال الرازي: إنما أمر، عقيب الصبر، بالتسبيح، لأن ذكر الله تعالى يفيد السلوة والراحة. إذ لا راحة للمؤمنين دون لقاء الله تعالى. قلت: وقد أشير إلى حكمة الأمر بالصبر والتسبيح بقوله تعالى: { لَعَلَّكَ تَرْضَى } أي: رجاء أن تنال ما به ترضى نفسك، من رفع ذكرك. ونقهرك على عدوك وبلوغ أمنيتك من ظهور توحيد ربك وهذا كقوله تعالى: { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً } [الإسراء: 79]، وقوله تعالى: { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } [الضحى: 5]. ثم أشار تعالى إلى أن ما متع به الكفار من الزخارف، إنما هو فتنة لهم فلا ينبغي الرغبة فيه، وإن ما أويته أجلّ وأسمى، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [131]. { وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ } أي: أصنافاً من الكفرة: { زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي زينتها. منصوب على البدلية من: { أَزْوَاجاً } أو بـ: { مَتّعْنَا } على تضمينه معنى: أعطينا وخولنا: { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي: لنختبرهم فيما متعناهم به من ذلك ونبتليهم. فإن ذلك فانٍ وزائل وغرور وخدع تضمحل. قال أبو السعود: { لِنَفْتِنَهُمْ } متعلق بـ: { مَتَّعْنَا } جيء به للتنفير عنه ببيان سوء عاقبته مآلاً، إثر إظهار بهجته حالاً. أي: لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم فيه. أو لنعذبهم في الآخرة بسببه: { وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي: ثوابه الأخرويّ خير في نفسه مما متعوا به وأدوم، كقوله تعالى: { ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } [القصص: 80]، أو المعنى ما أوتيت من النبوة والهدى، خير مما فتنوا به وأبقى، لأنه لا مناسبة بين الهدى الذي تتبعه السعادة في الدارين، وبين زهرة يتمتع بها مدة ثم تذبل وتفنى. وفي التعبير بالزهرة إشارة لسرعة الاضمحلال، فإن أجلها قريب. ومن لطائف الآية ما قاله الزمخشريرحمه الله ، ونصه: مد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحساناً للمنظور إليه، وإعجاباً به وتمنياً أن يكون له. كما فعل نظارة قارون حين قالوا: { يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [القصص: 79]، حتى واجههم أولوا العلم و الإيمان بـ: { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } [القصص: 80]. وفيه: أن النظر غير الممدود معفوّ عنه. وذلك مثل نظر من باده الشيء بالنظر ثم غض الطرف. ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع، وإن من أبصر منها شيئاً أحب أن يمد إليه نظره ويملأ منه عينيه، قيل: ولا تمدّن عينيك. أي: لا تفعل ما أنت معتاد له وضارٍ به. ولقد شدد العلماء من أهل التقوى في وجب غض النظر عن أبنية الظلمة، وعدد الفسقة في اللباس و المراكب وغير ذلك، لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة، فالناظر إليها محصل لغرضهم، وكالمغري لهم على اتخاذها. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [132]. { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ } يعني بأهله: أهل بيته أو التابعين له. أي: مرهم بإقامتها لتجذب قلوبهم إلى خشية الله: { وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } أي: على أدائها، لترسخ بالصبر عليها ملكة الثبات على العبادة، والخشوع والمراقبة، التي ينتج عنها كل خير. ثم أشار تعالى إلى أن الأمر بها، إنما هو لفلاح المأمور ومنفعته، ولا يعود على الآمر بها نفع ما, لتعاليه وتنزهه بقوله: { لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ } أي: لا نسألك مالاً. بل نكلفك عملاً ببدنك نؤتيك عليه أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً. ومعنى نحن نرزقك: أي: نحن نعطيك المال ونكسبك ولا نسألكه. قاله ابن جرير. وقال أبو مسلم: المعنى أنه تعالى إنما يريد منه ومنهم العبادة. ولا يريد منه أن يرزقه كما تريد السادة من العبيد الخراج. وهو كقوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } [الذاريات: 56 - 57]، وقال بعض المفسرين: معنى الآية. أقبل مع أهلك على الصلاة واستعينوا بها على خصاصتكم. ولا تهتموا بأمر الرزق والمعيشة، فإن رزقك مكفي من عندنا، ونحن رازقوك. وهذا المعنى لا تدل عليه الآية منطوقاً ولا مفهوماً. وفيه حض على القعود عن الكسب، ومستند للكسالى القانعين بسكنى المساجد عن السعي المأمور به. وقد قال تعالى في وصف المتقين: { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } [النور: 37]، إشارة إلى جمعهم بين الفضيلتين { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً } [البقرة: 201]. وقوله تعالى: { وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } أي: والعاقبة الحسنة من عمل كل عامل، لأهل التقوى والخشية من الله، دون من لا يخاف له عقاباً ولا يرجو له ثواباً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى } [133] { وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ } يعنون ما تعنتوا في اقتراحه مما تقدم، في سورة بني إسرائيل، من قوله تعالى: { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ } [الإسراء: 90 - 91]. وقوله تعالى: { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى } أي: أو لم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب، من أنباء الأمم من قبلهم، التي أهلكناهم لما سألوا الآيات، فكفروا بها لما أتتهم، كيف عجلنا لهم العذاب، وأنزلنا بهم بأسنا بكفرهم بها. يقول: فماذا يؤمنهم إن أتتهم الآية، أن يكون حالهم حال أولئك. هذا ما قاله ابن جرير. وذهب غيره إلى أن المعنى: أو لم يأتهم آية هي أم الآيات وأعظمها، وهي معجزة القرآن المبينة لما في الكتب الأولى من التوراة والإنجيل والزبور. مع أن الآتي بها أّمّيُّ لم يرها ولم يعلم ممن علمها. فنقب منها على الصحيح من أنبائها فصدقه، وعلى الباطل المحرف فَفَنَّدَهُ. وفيه إشعار بكفاية التنزيل في الإعجاز والبرهان كما قال تعالى في سورة العنكبوت: { وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [العنكبوت: 50 - 51]، ولذلك قال أحد حكماء الإسلام: إن الخارق للعادة الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته إلى التصديق برسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الخارق الذي تواتر خبره ولم ينقطع أثره. وهو الدليل وحده. وما عداه مما ورد في الأخبار، سواء صح سندها أو اشتهر أو ضعف أو وهي، فليس مما يوجب القطع عند المسلمين. فإذا أورد في مقام الاستدلال، فهو على سبيل التقوية للعقد لمن حصل أصله، وفضلٌ من التأكيد لمن سلمه من أهله. ذلك الخارق المتواتر المعول عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين، هو القرآن وحده. والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة، تدل على أن موحيه هو الله وحده وليس من اختراع البشر، هو أنه جاء على لسان أميّ لم يتعلم الكتاب ولم يمارس العلوم، وقد نزل على وتيرة واحدة هادياً للضال مقوماً للمعوج كافلاً بنظام عام لحياة من يهتدي به من الأمم، منقذاً لهم من خسران كانوا فيه. وهلاك كانوا أشرفوا عليه. وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه، حتى لقد دعي الفصحاء والبلغاء، أن يعارضوه بشيء من مثل، فعجزوا ولجأوا إلى المجالدة بالسيوف، وسفك الدماء واضطهاد المؤمنين به، إلى أن ألجاؤهم إلى الدفاع عن حقهم، وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد عالمها بأضوائها، وتنشر أنوارها في جوائها. وهذا الخارق قد دعا الناس إلى النظر فيه بعقولهم. وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم، فإما وجدوا طريقاً لإبطال إعجازه أو كونه لا يصلح دليلاً على المدعي، فعليهم أن يأتوا به، قال تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ } [البقرة: 23]، وقال: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء: 82]، وقال غير ذلك، مما هو مطالبة بمقاومة الحجة بالحجة. ولم يطالبهم بمجرد التسليم على رَغْمٍ من العقل. معجزة القرآن جامع من القول والعلم. وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم. فهي معجزة عرضت على العقل وعرفته القاضي فيها، وأطلقت له حق النظر في أنحائها [في المطبوع: أحنائها]. ونشر ما انطوى في أثنائها. وله منها حظه الذي لا ينتقص. فهي معجزة أعجزت كل طوق أن يأتي بمثلها. ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها. أما معجزة موت حيّ بلا سبب معروف للموت، أو حياة ميت أو إخراج شيطان من جسم، أو شفاء علة من بدن، فهي مما ينقطع عنده العقل ويجمد لديه الفهم. وإنما يأتي بها الله على يد رسله لإسكات أقوام غلبهم الوهم ولم تضئ عقولهم بنور العلم. وهكذا يقيم الله بقدرته من الآيات للأمم على حسب الاستعدادات. وقال فاضل آخر: قضت مراحم الله جلّ شانه أن يكوّن الأكوان في الطبيعة على ترتيب محكم. ينطلق بلسان الصمت للمتبصر، ويظهر بلباس الوضوح للمتفكر، ويحبب إليه الانتقال منه إلى غيره بدون أن يشعر بملل ولا سآمة، ولا يؤوب من استبصاره بندامة، بدون هذا الاعتبار بالعقل، لا يأتي للنفس أن تصح عقيدتها، ولا يتأتى لها تبعاً لذلك أن تسكن من اضطرابها. هذا، ولا ننكر أنه قد مضى على النوع الإنساني زمن كان فيه العقل في دور الطفولية. وكان يكفيه في الإيمان أن يندهش لأمر خارق للطبيعة، يعطل من سير نواميسها وقتاً مّاً. وكان الله سبحانه وتعالى يرأف بعباده فيرسل إليهم رسلاً يمتعهم بخصائص تعجز عن اكتناه سرها عقولهم. وتندهش لها ألبابهم، فيستدلون بهذه المعجزات على صدق الرسول وضرورة اتباعه، وأما الآن، حيث بلغ العقل أشده، والنوع الإنسانيّ رشده، فلا تجدي فيه معجزة، ولا تنفع فيه غريبة. لأن الشكوك قد كثرت مع كثرة الموادّ العلمية. فإن حدث حادث من هذا القبيل رموا فاعله بالتدليس أوّلاً، ثم إذا ظهر لهم براءته منه أخذوا يعللون معجزته بكل أنواع التعليلات. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن طائفة الاسبيريت الروحيين في أوربا تعمل الآن من الأعمال المدهشة الخارقة لنواميس الطبيعة، ما لو رآه الجهلاء لظنوا به أنه من أكبر المعجزات، من أن القوم لا يدَّعون النبوة، ولا يزعمون الرسالة. نعم، لا ننكر أن أعمال هذه الطائفة ليست من نوع معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولكنه بدون شك، يقلل من أهميتها في نظر الذين يقفون مع ظواهر الأشياء. ومما يدل على أن هذه القرون الأخيرة لا تروج فيها مسائل المعجزات، تكذيب علماء أوربا بكل المعجزات السابقة. وهو، وإن كان تهوراً منهم، إلا أنهم مصيبون في قولهم إننا في زمان لا يجدي فيه الاعتقاد إلا النور العقلي والدليل العلمي. لهذه الأسباب جاءت الشريعة الإسلامية تدعو إلى السبيل الحق، ببدائه العقل، وقواعد العلم. صارفة النظر عن المعجزات وإظهار المدهشات. لعلم الله سبحانه وتعالى بأنه سيأتي زمان تؤثر فيه المقررات العلمية على القوة العقلية، ما لا تؤثر عليها الخوارق للنواميس الطبيعية. انتهى. ثم أشار تعالى إلى منته في إرسال الرسول صلوات الله عليه، والإعذار ببعثته، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى } [134 - 135]. { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ } أي: من قبل إتيان البينة، أو محمد عليه السلام: { لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ } أي: بالعذاب الدنيويّ: { وَنَخْزَى } أي: بالعذاب الأخرويّ. أي: ولكنا لم نهلكهم قبل إتيانها. فانقطعت معذرتهم. فعند ذلك، قالوا: بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا: ما نزل الله من شيء: { قُلْ } أي: لأولئك الكفرة المتمردين: { كُلٌّ } أي: منا ومنكم: { مُتَرَبِّصٌ } أي: منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم: { فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ } أي: عن قرب: { مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ } أي: المستقيم: { وَمَنِ اهْتَدَى } أي: من الزيغ والضلالة. أي: هل هو النبي وأتباعه، أم هم وأتباعهم. وقد حقّق الله وعده. ونصر عبده. وأعز جنده. وهزم الأحزاب وحده. فله الحمد في الأولى والآخرة. (/) سورة طه بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى: { طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [1 - 3]. { طه } قدمنا أن الحق في هذه الحروف التي افتتحت بها سورها، أنها أسماء لها. وفيه إشارة إلى أنها مؤلفة منها. ومع ذلك ففي عجزهم عن محاكاتها أبلغ آية على صدقها. ونبه الإمام ابن القيمرحمه الله على نكتة أخرى في " الكافية الشافية " بقوله: ~وانظر إلى السور التي افتتحت بأحْ رفها ترى سرّاً عظيم الشان ~لم يأت قط بسورة إلا أتى في إثرها خبر عن القرآن ~إذ كان إخباراً به عنها. وفي هذا الشفاءُ لطالب الإيمان ~ويدل أن كلامه هو نفسها لا غيرها، والحق ذو تبيان ~فانظر إلى مبدا الكتاب وبعدها الـ أعراف ثم كذا إلى لقمان ~مع تلوها أيضاً ومع حَمَ مع يسَ وافهم مقتضى الفرقان { مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } أي: لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا والشقاء في معنى التعب. ومنه المثل: أشقى من رائض مهر. وقوله تعالى: { إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى } أي: تذكيراً له. أي: { مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ } لتتعب بتبليغه، ولكن تذكرة لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار. والقصد أنه ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة. وقد جرت السنة الإلهية في خطاب الرسول في مواضع من التنزيل، أن ينهاه عن الحزن عليهم وضيق الصدر بهم، كقوله تعالى: { فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } [الأعراف: 2]، { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ } [الكهف: 6]، { وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر } [آل عِمْرَان: 176]، وهذه الآية من هذا الباب أيضاً. وفي ذلك كله من تكريم الرسول صلوات الله عليه، وحسن العناية به والرأفة، ما لا يخفى. ثم أشار إلى تضخيم شأن هذا المنزل الكريم، لنسبته إلى المتفرد بصفاته وأفعاله، بقوله: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [4 - 5]. { تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ } قرئ بالرفع على المدح. أي: هو الرحمن. وبالجر على أنه صفة للموصول. وقوله: { عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } أي: علا وارتفع. قاله ابن جرير. وقد ذهب الخلف إلى جعل ذلك مجازاً عن الملك والسلطان. كقولهم: استوى فلان على سرير الملك , وإن لم يقعد على السرير أصلاً. وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته أيضاً. قال ابن كثير: والمسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف، من إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة، من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل. وقد أسلفنا ما حققته أئمة الفلك الحديث؛ من أن العرش جرم حقيقيّ موجود وأنه مركز العوالم كلها. أي: مركز الجذب والتدبير والتأثير والنظام. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } [6]. { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى }. بيان لشمول قهره وملكته للكل. أي: كلها تحت ملكته وقهره وسلطنته وتأثيره. لا توجد ولا تتحرك ولا تسكن ولا تتغير ولا تثبت إلا بأمره. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } [7]. { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }. بيان لكمال لطفه. أي: علمه نافذ في الكل. يعلم ظواهرها وبواطنها والسر وسر السر. فكذلك إن تجهر وإن تخفت، فيعلمه بجهر وخفت. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [8]. { اللَّهُ } أي: ذلك المُنْزل الموصوف بهذه الصفات هو الله: { لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } أي: الفضلى، لدلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والأفعال التي هي النهاية في الحسن. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً } [9 - 10]. { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } من عطف القصة أو استئناف. والقصد تقرير أمر التوحيد الذي انتهى إليه الآية قبله، ببيان أنه دعوى كل نبيّ لا سيما أشهرهم نبأ، وهو موسى عليه السلام. فقد خوطب بقوله تعالى: { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا } [14] وبه ختم تعالى نبأه في هذه السورة بقوله: { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } [98]، أو تقرير لسعة علمه المبين في قوله تعالى: { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ } [7] الخ لقوله بعدُ: { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [98]، أولهما معاً. أو لحمله، صلوات الله عليه، على التأسي بموسى في الصبر والثبات. لكونه ابتلي بأَعظم من هذا فصبر، وكانت العاقبة له. وقد أشير في طليعة نبأ موسى عليه السلام، إلى كيفية ابتداء الوحي إليه، وتكليمه تعالى إياه. وذلك بعد أن قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم. وصار بأهله قاصداً بلاد مصر، بعد ما طالت غيبته عنها ومعه زوجته. فأضلّ الطريق. وكانت ليلة شاتية، ونزل منزلاً بين شعاب وجبال في برد وشتاء. وبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور ناراً، كما قصه تعالى بقوله: { إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً } أي: أبصرتها إبصاراً بيّناً لا شبهة فيه: { لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ } أي: بشعلة مقتبسة تصطلون بها: { أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً } أي: هادياً يدلني على الطريق. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً } [11 - 12]. { فَلَمَّا أَتَاهَا } أي: النار: { نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً } أي فيجب فيه رعاية الأدب، بتعظيمه واحترامه لتجلي الحق فيه، كما يراعى أدب القيام عند الملوك وطُوىً: اسم للوادي. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } [13 - 15]. { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ } أي: اصطفيتك للنبوة: { فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } أي: للذي يوحي. أو للوحي. ثم بينه بقوله: { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } أي: خصني بالعبادة: { وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي } أي: لتذكرني فيها بقلبك ولسانك وسائر جوارحك، بأن تجعل حركاتها دالة على ما في القلب واللسان. قال أبو السعود: خصت الصلاة بالذكر وأفردت بالأمر بالعبادة، لفضلها وإنافتها على سائر العبادات، بما نيطت به من ذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره. وذلك قوله تعالى: { لِذِكْرِي } أي: لتذكرني. فإن ذكري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة. أو لتذكرني فيها لاشتمالها على الأذكار. أو لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري. أو لإخلاص ذكري وابتغاء وجهي. لا ترائي بها، ولا تقصد بها غرضاً آخر. أو لتكون ذاكراً لي غير ناس. انتهى ثم أشار إلى وجوب إفراده بالعبادة وإقامة الصلاة لذكره. بقوله: { إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ } أي: واقعة لا محالة: { أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } أي: بسعيها عن اختيار منها. واللام متعلقة بآتية. ولما كان خفاء الساعة من اليقينيات وفي كاد معنى القرب من ذلك، لعدم وضعها للجزم بالفعل، تأولوا الآية على وجوه: أحدها: أن كَادَ منه تعالى واجب. والمعنى أنا أخفيها عن الخلق. كقوله: { عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً } [الإسراء: 51 )، أي: هو قريب. ثانيها: قال أبو مسلم: أَكَادُ بمعنى أريد كقوله: { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } [يوسف: 76]. ومن أمثالهم المتداولة: لا أفعل ذلك ولا أكاد , أي: ولا أريد أن أفعله. قال الشهاب: تفسير أَكَادُ بأريد هو أحد معانيها. كما نقله ابن جني في " المحتسب " عن الأخفش. واستدلوا عليه بقوله. ~كادتْ وكدتُ وتلك خيرُ إرادةٍٍ لو عاد من لَهْوِ الصِّبابِة مَا مَضَى بمعنى أرادت. لقوله: تلك خير إرادة. ثالثها: أن أَكَادُ صلة في الكلام. قال زيد الخيل. ~سريعٌ إِلى الهيجاء شاكٍ سلاحُهُ فما إِنْ يَكَادُ قِرْنُهُ يَتَنَفَّسُ رابعها: أن المعنى أكاد أخفيها فلا أذكرها إِجمالاً ولا أقول هي آتية. وذلك لفرط إرادته تعالى إخفاءها. إلا أن في إِجمال ذكرها حكمة، وهي اللطف بالمؤمنين، لحثهم على الأعمال الصالحة، وقطع أعذار غيرهم حتى لا يعتذروا بعدم العلم. وثمة وجوه أخر لا تخلو من تكلف، وإن اتسع اللفظ لها. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى } [16]. { فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا } أي: عن تصديق الساعة: { مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } أي: ما تهواه نفسه من الشهوات وترك النظر والاستدلال: { فَتَرْدَى } أي: فتهلك. قال الزمخشري: يعني أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجم الغفير. إذ لا شيء أطمّ على الكفرة، ولا هم أشد له نكيراً من البعث. فلا يهولنّك وفور دهمائهم, ولا عظم سوادهم. ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك. واعلم أنهم، وإن كثروا تلك الكثرة، فقدوتهم فيما هم فيه هو الهوى واتباعه. لا البرهان وتدابره. وفي هذا حث عظيم على العلم بالدليل، وزجر بليغ عن التقليد، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } [17 - 18]. { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى } شروع فيما سيؤتيه تعالى من البرهان الباهر. وفي الاستفهام إيقاظ له وتنبيه على ما سيبدو له من عجائب الصنع: { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } أي: أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفتُ على رأس القطيع وعند الطفرة: { وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي } أي: أخبط بها الورق وأسقطه عليها لتأكله: { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } أي: حاجات أخر. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى } [19 - 21]. { قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى } أي: هيئتها الأولى فتنتفع بها كما كنت تنتفع من قبل. أي: ليس القصد تخويفك، بل إظهار ما فيها من استعداد قبول الحياة، ومشاهدة معجزة وبرهان لك. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى } [22 - 23]. { وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ } أي: إبطك: { تَخْرُجْ بَيْضَاءَ } أي: نيَّرة: { مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } أي: قبيح وعيب كبياض البرص مما ينفر عنه. واعتمد الزمخشري؛ أن قوله تعالى: { مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } كناية عن البرص. كما كني عن العورة بالسوأة، قال: والبرص أبغض شيء إلى العرب، وبهم عنه نفرة عظيمة. وأسماعهم لاسمه مجّاجة. فكان جديراً بأن يكنى عنه. ولا ترى أحسن ولا ألطف ولا أحرّ للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه. انتهى { آيَةً أُخْرَى } أي: معجزة أخرى غير العصا: { لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى } متعلق بمضمر ينساق إليه النظم الكريم. أي: أريناك ما أريناك الآن، مع أن حقهما أن يظهرا بعد التحدي والمناظرة، لنريك أولاً بعض آياتنا الكبرى، فيقوى قلبك على مناظرة الطغاة. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } [24]. { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ } تخلص إلى ما هو المقصود من تمهيد المقدمات السالفة. فُصِل عما قبله من الأوامر إِيذاناً بأصالته. أي: اذهب إليه بما رأيتَه من الآيات الكبرى، وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي. أفاده أبو السعود. وقوله تعالى: { إِنَّهُ طَغَى } أي: جاوز الحد في التكبّر والعتوّ، حتى تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية. فلا بد من تنبيهه على طغيانه بالدلائل العقلية، التي صدقتها المعجزات. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي } [25 - 28]. { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي } إنما سأل ذلك، لما كان يتخوفه من آل فرعون في القتيل. ولما بعث به من صدع جبار عنيد، أطغى الملوك وأبلغهم تمرداً وكفراً، مما يحوج إلى عناية ربانية. وسأل أن يُمَدّ بمنطق فصيح، لما في لسانه من عقدة كانت بمنعه من كثير من الكلام كما قال: { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } [القصص: 34]، وقول فرعون: { وَلا يَكَادُ يُبِينُ } [الزخرف: 52]، ثم سأل عليه السلام ربه أن يعينه بأخيه هارون، ليكون له رِدْءاً، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، بقوله: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي } [29 - 31]. { وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي } أي: قَوِّ به ظهري. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً } [32 - 35]. { وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً } أي: كي نتعاون على تسبيحك وذكرك. لأن التعاون - لأنه مهيج الرغبات - يتزايد به الخير ويتكاثر: { إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً } أي: عالماً بأحوالنا، وبأن المدعوّ به مما يفيدنا. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى } [36 - 37]. { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } أي: أجيب دعاؤك. وقوله تعالى: { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى } كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله، وزيادة توطين نفس موسى عليه السلام بالقبول، ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعم التامة من غير سابقة دعاء منه وطلب، فَلأَنْ ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداعٍ، أولى وأحرى. وتصديره بالقسم، لكمال الاعتناء بذلك. أفاده أبو السعود. وقوله تعالى: { مَرَّةً أُخْرَى } أي: في وقت آخر. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [38 - 39]. { إِذْ أَوْحَيْنَا } أي: ألقينا بطريق الإلهام: { إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ } أي: الصندوق: { فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ } أي: البحر، متوكلةً على خالقه: { فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي } لدعواه الألوهية: { وَعَدُوٌّ لَهُ } لدعوته إلى نبذ ما يدعيه. قال الزمخشريّ: لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته - أن لا تخطئ جرية اليم، الوصولَ به إلى الساحل، وإلقاءه إليه - سلك في ذلك سبيل المجاز وجعل اليم كأنه ذو تمييز أُمر بذلك، ليطيع الأمر ويمتثل رسمه. فقيل: { فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ } أي: على سبيل الاستعارة بالكناية. بتشبيه اليم بمأمور منقاد. وإثبات الأمر تخييل، وقوله تعالى: { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي } أي: واقعة مني، زرعتها في قلب من يراك. ولذلك أحبك فرعون: { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } أي: ولتربَّى بيد العدوّ على نظري بالحفظ والعناية. فعلى عيني استعارة تمثيلية للحفظ والصون، لأن المصون يجعل بمرأى. قيل: وعلى بمعنى الباء لأنه بمعنى بمرأى مني، في الأصل. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } [40]. { إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ } أي: يضمن حضانته ورضاعته. فقبلوا قولها. وذلك لأنه لما استقر عند آل فرعون، عرضوا عليه المراضع فأباها كما قال تعالى: { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ } [القصص: 12]، فجاءت أخته فقالت: { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } [القصص: 12]، فجاءت بأمه كما قال: { فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ } أي: مع كونك بيد العدوّ: { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } أي: برؤيتك: { وَلا تَحْزَنَ } أي: بفراقك. فهذه منن زائدة على النجاة من القتل. ثم أشار إلى ما منّ عليه بالنجاة من القتل الذي لا يدفع بتلبيس، بقوله: { وَقَتَلْتَ نَفْساً } أي: من آل فرعون، وهو القبطيّ الذي استغاثه عليه الإسرائيليّ، إذ وكزه موسى فقضى عليه. أي: فاغتممت للقصاص: { فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ } أي: غم القتل بأن صرفنا عنك ما تخشاه. وذلك أنه عليه السلام فرَّ من آل فرعون حتى ورد ماء مدين. وقال له ذلك الرجل الصالح: { لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [القصص: 25]، { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } أي: ابتليناك ابتلاءً. على أن الفتون مصدر كالشكور، أو ضروباً من الفتن على أنه جمع فتنة أي: فجعلنا لك فرَجاً ومخرَجاً منها. وهو إجمال لما سبق ذكره. { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ } أي: معزز الجانب مكفيّ المؤونة في عشرة أتقى رجل منهم وأصلحهم، وهو نبيّهم عليه السلام: { ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } أي: بعد أن قضيت الأجل المضروب بينك وبين شعيب من الإجارة ,جئت بأهلك على وفق ما سبق في قضائي وقدري؛ أن أكلمك وأستنبئك في وقت يعينه قد وقَّته لذلك. فما جئت إلا على ذلك القدر، غير مستقدم ولا مستأخر. فالأمر له تعالى. وهو المسيّر عباده وخلقه فيما يشاء. قال أبو السعود: وقوله تعالى: { يَا مُوسَى } تشريف له عليه الصلاة والسلام، وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولاً. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي } [41 - 42]. { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } تذكير لقوله تعالى: { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ } وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيداً بأخيه والاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الصنيعة. يقال: اصطنع الأمير فلاناً لنفسه، أي: جعله محلاًّ لإكرامه باختيار وتقريبه منه، بجعله من خواص نفسه وندمائه، فاستعير استعارة تمثيلية من ذلك المعنى المشبه به إلى المشبه. وهو جعله نبيّاً مكرماً كليماً منعماً عليه بجلائل النعم. قال أبو السعود: والعدول عن نون الواقعة في قوله تعالى: { وَفَتَنَّاكَ } ونظيريه السابقين، تمهيد لإفراد لفظ النفس اللائق بالمقام، فإنه أدخل في تحقيق معنى الاصطناع والاستخلاص. ثم بين ما هو المقصود بالاصطناع بقوله سبحانه: { اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي } أي: بمعجزاتي. كالعصا وبياض اليد وحل العقدة، مع ما استظهره على يده: { وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي } أي: لا تَفْتُرَا ولا تقصّرا في ذكري بما يليق بي من النعوت الجليلة، عند تبليغ رسالتي والدعاء إليّ. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [43 - 44]. { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } أي: عقابي. فإن تليين القول مما يكسر سورة عناد العتاة، ويلين عريكة الطغاة. وقد بيّن ذلك في قوله تعالى: { فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [النازعات: 18 - 19]، وبمثل ذلك أمر نبينا صلوات الله عليه في قوله: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل: 125]، وظاهر أن الرجاء في لعله إنَما هو منهما، لا من الله. فإنه لا يصح منه. ولذا قال القاضي: أي: باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما أنه يثمر ولا نخيب سعيكما. فإن الراجي، مجتهد والآيس متكلف. والفائدة في إرسالها والمبالغة عليهما في الاجتهاد - مع علمه بأنه لا يؤمن - إلزام الحجة، وقطع المعذرة، وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [45 - 46]. { قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا } أي: يبادرنا بالعقوبة: { أَوْ أَنْ يَطْغَى } أي: يزداد طغياناً بالعناد، في دفع حججنا، ثم يأمر بقتلنا، أو بالتخطي إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي، لجرأته وقسوة قلبه. واقتصر على الثاني الزمخشري. وأفاد أن في المجيء به هكذا على الإطلاق، وعلى سبيل الرمز، باباً من حسن الأدب، وتحاشياً عن التفوه بالعظيمة: { قَالَ لا تَخَافَا } أي: من فرطه وطغيانه: { إِنَّنِي مَعَكُمَا } أي: بالحفظ والنصرة: { أَسْمَعُ وَأَرَى } أي: ما يجري بينكما وبينه. فأرعاكما بالحفظ. فالمفعول محذوف للقرينة، أو نزل منزلة اللازم تتميماً لما يستقل به الحفظ. كأنه قيل: أنا حافظ لكما وناصر، سامع وبصير. وإذا كان الحافظ كذلك، تمَّ الحفظ والتأييد، وذهبت المبالاة بالعدوّ. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } [47]. { فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ } أي: بإطلاقهم من الأسر والعبودية. وتسريحهم معنا إلى وطننا فلسطين: { وَلا تُعَذِّبْهُمْ } أي: بإبقائهم على ما هم عليه من التسخير والتذليل في الأمور الشاقة: { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ } أي: تحقق رسالتي إليك منه تعالى بذلك: { وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } أي: فصدق بآيات الله المبينة للحق. وفيه من ترغيبه في اتباعهما، على ألطف وجه، ما لا يَخْفَى. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [48]. { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا } أي: من ربنا: { أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ } أي: بآياته تعالى: { وَتَوَلَّى } أي: أعرض عنها. وفيه من التلطيف في الوعيد، حيث لم يصرح بحلول العذاب به، ما لا مزيد عليه. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [49 - 50]. { قَالَ } أي: فرعون: { فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } أي: منح كل شيء من الأنفس البشرية، صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، فسواه بها وعدّله، ثم هداه بأن وهبه العقل الذي يميز بين الخير والشر. وهذه الآية في معناها كآية: { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس: 7 - 8]، وآية: { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [البلد: 10]. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } [51 - 52]. { قَالَ } أي: فرعون: { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } أي: ما حال القرون السالفة وما جرى عليهم؟ وهذا السؤال إما لصرف موسى عليه السلام عما يدعوه إليه أمام ملئه، وإشغاله بما لا يعني ما أرسل به، وإما لتوهم أن الرسول يعلم الغيب، فأراد أن يقف على نبأ ما مضى، ويفتح باباً للتخطئة والتكذيب، بالعناد واللجاج. فأجابه موسى عليه السلام بأن هذا سؤال عن الغيب وقد استأثر الله به. فلا يعلمه إلا هو. وليس من وظيفة الرسالة. وإنما علمها مكتوب في اللوح المحفوظ، محصى غير منسي. ويجوز أن يكون: { فِي كِتَابٍ } تمثيلاً لتمكنه وتقريره في علم الله عزَّ وجلَّ، بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة. قال في العناية: فيشبه علمه تعالى بها علماً ثابتاً لا يتغير، بمن علم شيئاً وكتبه في جريدته، حتى لا يذهب أصلاً، فيكون قوله: { لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } ترشيحاً للتمثيل، واحتراساً أيضاً. لأن من يفعل ذلك إنما يفعله لخوف النسيان. والله تعالى منزه عنه. فالكتاب على هذا بمعناه اللغويّ. وهو الدفتر، لا اللوح المحفوظ. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } [53]. { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً } أي: فراشاً: { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } أي: أصنافاً من نبات مختلفة الأجناس، في الطعم والرائحة والشكل والنفع. لطيفة: جعل الزمخشري قوله تعالى: { فَأَخْرَجْنَا } من باب الالتفات. وناقشه الناصر؛ بأن الالتفات إنما يكون في كلام المتكلم الواحد. يصرّف كلامه على وجوه شتى. وما نحن فيه ليس كذلك. فإن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون: { عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } ثم قوله: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً } إلى قوله: { فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } فإما أن يجعل من قول موسى، فيكون باب قول خواص الملك: أمرنا وعمرنا وإنما يريدون الملك، وليس هذا بالتفات. وإما أن يكون كلام موسى قد انتهى عند قوله: { وَلا يَنْسَى } ثم ابتدأ الله تعالى وصف ذاته بصفات إنعامه على خلقه، فليس التفاتاً أيضاً. وإنما هو انتقال من حكاية إلى إنشاء خطاب. وعلى هذا التأويل ينبغي للقارئ أن يقف وُقَيْفَة عند قوله: { وَلا يَنْسَى } ليستقر بانتهاء الحكاية. ويحتمل وجهاً آخر وهو؛ أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفات على لفظ الغيبة. فقال: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } فلما حكاه الله تعالى عنه , أسند الضمير إلى ذاته. لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى. فمرجع الضميرين واحد. وهذا الوجه وجه حسن رقيق الحاشية. وهذا أقرب الوجوه إلى الالتفات. لكن الزمخشري لم يعنه. والله أعلم. انتهى كلام الناصر. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } [54 - 55]. { كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } حال من ضمير فَأَخْرَجْنَا على إرادة القول: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مِنْهَا } أي: من الأرض: { خَلَقْنَاكُمْ } أي: خلقنا أصلكم وهو آدم. أو خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة عن الأغذية، والمتولدة من الأرض بوسائط: { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } أي: بالإماتة إعادة البذر إلى الأرض: { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } أي: بردّهم كما كانوا، أحياء. ثم أشار تعالى إلى عتوّ فرعون وعناده، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً } [56 - 58]. { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا } أي: من العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين: { فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً } أي: مستوياً واضحاً يجمعنا. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى } [59 - 60]. { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِِ } وهو يوم مشتهر عندهم باجتماع الناس فيه: { وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً } أي: ضحوة النهار ليكون الأمر مكشوفاً لا سترة فيه: { فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ } أي انصرف عن المجلس: { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } أي: ما يكيد به موسى، من السحرة وأدواتهم: { ثُمَّ أَتَى } أي: الموعد ومعه ما جمعه. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } [61 - 63]. { قَالَ لَهُمْ مُوسَى } أي: مقدماً لهم النصح والإنذار، لينقطع عذرهم: { وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً } أي: لا تخيلوا للناس بأعمالكم، إيجاد أشياء لا حقائق لها، وأنها مخلوقة وليست مخلوقة. فتكونوا قد كذبتم على الله تعالى: { فَيُسْحِتَكُمْ } أي: يستأصلكم: { بِعَذَابٍ } أي: هائل لغضبه عليكم: { وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قَالُوا } أي: بطريق التناجي والإسرار: { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } أي: بمذهبكم الأفضل. وهو ما كانوا عليه. يعنون أن قصد موسى وهارون هو عزل فرعون عن ملكه، يجعله عبداً لغيره، واستقرارهما في مكانه، وجعل قومهما مكانكم. وإلجائكم إلى مبارحة أرضكم، وإبطال طريقتكم بسحرهما الذي يريدان إعجازكم به. و: { الْمُثْلَى } تأنيث الأمثل، بمعنى الأفضل. ودعواهم ذلك، لأن كل حزب بما لديهم فرحون. لطيفة: في قوله تعالى: { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } قراءات: الأولى: { إِنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ } بتشديد النون من إِنَّ وهَذَيْنِ بالياء وهي قراءة أبي عَمْرو، وهي جارية على السَّنَنِِ المشهور في عمل إِنَّ. الثانية: { إنِْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } بتحفيف إِنَّ وإهمالها عن العمل، كما هو الأكثر فيها إذا خففت. وما بعدها مرفوع بالابتداء والخبر. واللام لام الابتداء فرقاً بينها وبين النافية. ويرى الكوفيون أن اللام هذه بمعنى إِلاّ وإِنْ قبلها نافية، واستدلوا على مجيء اللام للاستثناء بقوله: ~أمس أبانُ ذليلاً بعد عِزَّتِهِ وما أبانُ لَمِنْ أعلاج سُودَانِ والثالثة: { إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } بتشديد إِنَّ وهذان بالألف. وخرّجت على أوجه: أحدها: موافقة لغة من يأتي في المثنى بالألف في أحواله الثلاث. وهم بنو الحارث بن كعب وخثعم وَزُبَيْد وكنانة وآخرون. قال قائلهم: ~تَزَوَّدَ مِنَّا بين أُذْنَاهُ طَعْنَةً وقال آخر: ~إنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا قد بلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا وثانيها: إِنَّ إِنَّ بمعنى نعم حكاه المبرد. واستدل بقول الراجز: ~يا عمر الخيرِ جُزِيتَ الجَنَّهْ اكسُ بُنَيَّانِي وَأُمَّهُنَّهْ ~وَقُلْ لَهُنَّ: إِنَّ أَنَّ إِنَّهْ أُقْسِمُ باللهِ لَتَفْعَلَنَّهْ وقول عبد الله بن قيس الرُّقَيَّات: ~ويَقُلْنَ شيب قد علا ك وقد كَبرْتَ فقلتُ إِنَّهُ وردَّ على المبرد أبو علي الفارسي، بأنه لم يتقدم ما يجاب بنعم وأجاب الشمنّي، بأن التنازع فيما بينهم، وإسرار النجوى، يتضمن استخبار بعضهم من بعض. فهو جواب للاستخبار الضمنيّ. ولا يخفى بعده. فإن إسرار النجوى فيما بينهم ليس في الاستخبار عن كونهما ساحرين، بل هم جزموا بالسحر فقالوا: { أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ } [57]، ثم أسروا النجوى فيما يغلبان به موسى. إلا أن يقال: محطّ الجواب قوله: { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ } الخ، وما قبله توطئة. وقد رد في " المغني " هذا التخريج؛ بأن مجيء نعم شاذ حتى نفاه بعضهم. ومنعه الدمامينيّ؛ بأن سيبويه والحذّاق حكوه عن الفصحاء. وعليه، فاللام في: { لَسَاحِرانِ } لام الابتداء، زحلقت للخبر. وأبى البصريون دخولها على الخبر. وزعموا أنها في مثله داخلة على مبتدأ محذوف، أو زائدة، أو دخلت مع إن التي بمعنى نعم لشبهها بالمؤكدة لفظاً. وأقول: فيه تكلف. والشواهد على اقتران الخبر باللام كثيرة. وثالثها: أنه لما كان الإعراب لا يظهر في الواحد، وهو هذا جعل كذلك في التثنية، ليكون المثنى كالمفرد. لأنه فرع عليه. واختار هذا القول الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيميةرحمه الله تعالى، وزعم أن بناء المثنى، إذا كان مفرده مبنيّاً، أفصح من إعرابه. قال: وقد تفطن لذلك غير واحد من حذاق النحاة. ثم اعترض بأمرين: أحدهما: أن السبعة أجمعوا عل الياء في قوله تعالى: { إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } [القصص: 27]، مع أن هاتين تثنية هاتا وهو مبني. والثاني: أن الذي مبني وقد قالوا في تثنيته اللَّذَيْنِ في الجر والنصب. وهي لغة القرآن، كقوله تعالى: { رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا } [فصلت: 29]، وأجاب الأول؛ بأنه إنما جاء هاتين بالياء على لغة الإعراب لمناسبة ابنتيّ قال: فالإعراب هنا أفصح من البناء، لأجل المناسبة. كما أن البناء في: { إِنّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } أفصح من الإعراب لمناسبة الألف في هذان للألف في ساحران. وأجاب عن الثاني بالفرق بين اللذان وهذان بأن اللَّذان تثنية اسم ثلاثي، فهو شبيه بالزيدان وهذان تثنية اسم على حرفين. فهو عريق في البناء لشبهه بالحروف. قالرحمه الله : وقد زعم قوم أن قراءة من قرأ إنّ هذان لحن وإن عثمان رضي الله عنه قال: إن في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها. وهذا خبر باطل لا يصح من وجوه. أحدها: إن الصحابة كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات، فكيف يقرّون اللحن في القرآن، مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته؟. والثاني: أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام , فكيف لا يستقبحون بقاءه في المصحف؟. والثالث: أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم. لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والعجمي. والرابع: أنه قد ثبت في الصحيح أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب التابوت بالهاء على لغة الأنصار، فمنعوه من ذلك ورفعوه إلى عثمان رضي الله عنهم. فأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة قريش. ولما بلغ عمر رضي الله عنه أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ: عَتَّى حين، على لغة هذيل، أنكر ذلك عليه وقال: أقرئ الناس بلغة قريش. فإن الله تعالى إنما أنزله بلغتهم، ولم ينزله بلغة هذيل. انتهى كلام تقي الدين مخلصاً. هذا حاصل ما في " المغني " و " الشذور " و " حواشيهما " وفي الآية وجوه أخرى استقصتها المطولات. وما ذكرناه أرقها. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } [64]. { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ } تصريح بالمطلوب، إثر تمهيد المقدمات. والفاء فصيحة. أي إذا كان الأمر كما ذكر، من كونهما ساحرين، يريدان بكم ما ذكر من الإخراج، والإذهاب، فأزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعاً عليه، بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم. أفاده أبو السعود. وقوله تعالى: { ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً } أي: مصطفين، ليكون أهيب في صدور الرائين: { وَقَدْ أَفْلَحَ } أي: فاز بالإنعامات العظيمة من فرعون وملئه: { الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } أي: علا وغلب. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [65 - 66]. { قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ } أي: التي ألقوها: { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } أي: حيّات تسعى على بطونها. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [67 - 69]. { فَأَوْجَسَ } أي: أحس: { فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى } وذلك لما جُبِلَ عليه الإنسان من النفرة من الحيات. أو خاف من توهم الخلق المعارضة، بأن لهم من حبالهم وعصيهم حيات. كما أن له من عصاه حيَّة: { قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا } أي: تلتقطه بفمها: { إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ } في مقابلة آية ربانية: { وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } أي: لا يفوز بمطلوبه، أي: مكانٍ جَاءَ لدفع الحق. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } [70 - 71]. { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً } أي: فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا فأَلْقيَ السَّحَرَةُ سُجَّدَاً، تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر، وإنما هي آية ربانية: { قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ } أي فرعون: { آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } أي: فاتفقتم معه ليكون لكم الملك: { فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ } أي: من جانبين متخالفين: { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } أي: التي هي أقوى الأخشاب وأخشنها: { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } يعني أنكم إنما آمنتم برب موسى خوفاً من شدة عذابه. أو من تخليده في العذاب: { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } فإن رب موسى لم يقطع من أحد يده ورجله من خلاف، ولم يصلبه في جذوع النخل، ولم يبقه مصلوباً، قاله المهايميّ. وضعّفه الزمخشري بأن فرعون يريد نفسه وموسى عليه السلام، بدليل قوله: { آمَنْتُمْ لَهُ } أي: لموسى. واللام مع الإيمان، في كتاب الله لغير الله تعالى كقوله تعالى: { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [التوبة: 61] وقصده إظهار اقتداره وبطشه، وما جرى [في المطبوع: ضرى] به من تعذيب الناس بأنواع العذاب. وتوضيع موسى عليه السلام واستضعافه مع الهزء به، لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } [72]. { قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ } أي: نختارك بالإيمان والاتباع: { عَلَى مَا جَاءَنَا } أي: من الله على يد موسى: { مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا } أي: وعلى الذي خلقنا. واختيارُ هذا الوصف للإشعار بعلة الحكم. فإن خالقيته تعالى لهم، وكون فرعون من جملة مخلوقاته، مما يوجب عدم إيثارهم له عليه، سبحانه و تعالى. وهذا جواب منهم لتوبيخ فرعون بقوله: { آمَنْتُمْ لَهُ } وقيل هو قسم محذوف الجواب: { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ } أي: اصنع ما أنت صانعه. وهذا جواب عن تهديده بقوله: { لَأُقَطِّعَنَّ } الخ: { إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي: فيها وهي لا بقاء لها، ولا سلطان لك بعدها. وإنما البغية الآخرة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [73]. { إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي: ثواباً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى } [74]. { إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا } أي: فينقضي عذابه: { وَلا يَحْيَى } أي: حياة طيبة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى } [75]. { وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى } أي: المنازل الرفيعة بسبب إيمانهم وعملهم الصالح. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى } [76]. { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى } أي: تطهر من دنس الكفر والمعاصي، بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة. لطائف: من " الكشاف " و " حواشيه للناصر ". الأولى: في تخيير السحرة بين إلقاء موسى وإلقائهم، استعمال أدب حسن معه، وتواضع له وخفض جناح. وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم. وكأن الله عزّ وعلا ألهمهم ذلك، وعلم موسى - صلوات الله عليه - اختيار إلقائهم، أوّلاً، مع ما فيه من مقابلة أدب بأدب، حتى يبرزوا ما معهم من مكايد السحر، ويستنفدوا أقصى طرقهم ومجهودهم. فإذا فعلوا أظهر الله سلطانه، وقذف بالحق على الباطل فدمغه، وسلط المعجزة على السحر فمحقته، وكانت آية نيرة للناظرين. وعبرة بينة للمعتبرين. وقبل ذلك تأدبوا معه بقولهم: { فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ } ففوضوا ضرب الموعد إليه، وكما ألهم الله عزَّ وجلَّ موسى ها هنا، أن يجعلهم مبتدئين بما معهم، ليكون إلقاؤه العصا، بعدُ، قذفاً بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، كذلك ألهمه من الأول، أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم، ليكون الحق أبلج على رؤوس الأشهاد، فيكون أفضح لكيدهم وأهتك لستر حرمهم. الثانية: جوز في إِيثار قوله تعالى: { مَا فِي يَميِنِكِِ } على: { عَصَاكَ } وجهان: أحدها: أن يكون تعظيماً لها. أي: لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة. فإِن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها. وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عنده. فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها. وثانيهما: أن يكون تصغيراً لها أي: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم. وألق العُوَيْد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك. فإِنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها. وإِنما المقصود بتحقيرها في جنب القدرة، تحقير كيد السحرة بطريق الأوْلى. لأنها إذا كانت أعظمُ مُنَّةً وهي حقيرة في جانب قدرة الله تعالى، فما الظن بكيدهم وقد تلقفته هذه الحقيرة الضئيلة؟ ولأصحاب البلاغة طريق في علوّ المدح بتعظيم جيش عدوّ الممدوح، ليلزم من ذلك تعظيم جيش الممدوح وقد قهره واستولى عليه. فصغر الله أمر العصا، ليلزم منه كيد السحرة الداحض بها في طرفة عين. واعلم أنه لا بد من نكتة تناسب الأمرين - التعظيم والتحقير - وتلك، والله أعلم، هي إرادة المذكور مبهماً، لأن: { مَا فِي يَميِنِكِِ } أبهم مِنْ: { عَصَاكَ } وللعرب مذهب في التنكير والإبهام، والإجمال، تسلكه مرة لتحقير شأن ما أبهمته، وأنه عند الناطق به أهون من أن يخصه ويوضحه. ومره لتعظيم شأنه، وليؤذن أنه من عناية المتكلم والسامع بمكان، يغني في الرمز والإِشارة. فهذا هو الوجه في إِسعاده بهما جميعاً. ثم قال الناصر: وعندي في الآية وجه سوى قصد التعظيم والتحقير. والله أعلم. وهو؛ أن موسى عليه السلام، أول ما علم أن العصا آية من الله تعالى، عندما سأله عنها بقوله تعالى: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى } ثم أظهر له تعالى آيتها، فلما دخل وقت الحاجة إلى ظهور الآية منها، قال تعالى: { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ } ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ } وقد أظهر له آيتها، فيكون ذلك تنبيهاً له وتأنيساً، حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت ظهور آيتها. وذلك مقام يناسب التأنيس والتثبيت. ألا ترى إلى قوله تعالى: { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى }؟ انتهى. ولأبي حيان نكتة أخرى. وهي ما في اليمين من الإشعار باليمن والبركة. ولا يقال جاء في سورة الأعراف: { أَلْقِ عَصَاكَ } والقصة واحدة. لأنه يجاب بأنه مانع من رعاية هذه النكتة فيما وقع هنا، وحكاية ما جاء بالمعنى. هذا وقال الشهاب الخفاجي: فيما ذكروه نظر لأنه إنما يتم إذا كان الخطاب بلفظ عربي أو مرادفٍ له، يجري فيه ما يجري فيه. والأول خلاف الواقع. والثاني دونه خرط القتاد، فتأمل. أقول: إِنما استبعد الثاني، لتوهم أن لا بلاغة ولا نكات إلا في اللغة العربية. مع أن الأمر ليس كذلك. وحينئذ فيتعين الثاني. وهو ظاهر. وبه تستعاد تلك اللطائف. ثم أشار تعالى إلى عنايته بموسى وقومه، من إِنجائهم وإِهلاك عدوهم، وقد طوى هنا ما فصل في آيات أخر: بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى } [77]. { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي } أي: سر بهم من مصر ليلاً: { فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً } أي: يابساً. فضرب موسى بعصاه البحر فانفلق وجاوزه إلى ساحله: { لا تَخَافُ دَرَكاً } أي: لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوك من ورائك { وَلا تَخْشَى } أي: غرقاً من بين يديك , ووحلاً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى } [78 - 79]. { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ } لأنه ندم على الإِذن بتسريحهم من مصر، وأنهم قهروه على قلتهم كما قال: { إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } [الشعراء: 54 - 55]، فتبعهم ومعه جنوده حتى لحقوهم، ونزلوا في الطريق الذي سلكوه. ففاجأهم الموج كما قال تعالى: { فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } أي: علاهم منه وغمرهم، ما لا يحاط بهوله: { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى } أي: أوردهم الهلاك، بعتوّه وعناده في الدنيا والآخرة. وما هداهم سبيل الرشاد. ثم ذكر تعالى نعمه على بني إِسرائيل ومننه الكبرى، وما وصاهم من المحافظة على شكرها، وحذرهم من التعرض لغضبه بكفرها، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَا بَنِي إِسْرائيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } [80 - 81]. { يَا بَنِي إِسْرائيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ } وهو فرعون وقومه. فقد كانوا يسومونكم سوء العذاب. يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم. وذلك بأن أقر أعينكم منهم، بإِغراقهم، وأنتم تنظرون: { وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ } أي: بمناجاة موسى وإنزال التوراة عليه. واليهود السامرية تزعم أن هذا الجبل في نابلس ويسمونه جبل الطور ويذكر في الجغرافيا بلفظ عيبال ولهم عيد سنوي فيه يصعدون إليه، ويقربون فيه القرابين. والله أعلم. قال الزمخشري: وإِنما عدَّى المواعدة إليهم، لأنها لابستهم واتصلت بهم، حيث كانت لنبيهم ونقبائهم. وإِليهم رجعت منافعها التي قام بها دينهم وشرعهم، وفيما أفاض عليهم من سائر نعمه وأرزاقه. وجانب مفعول فيه، أو مفعول به على الاتساع. أو بتقدير مضاف. أي: إِتيان جانب { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أي: من لذائذه. فإِن المن كالعسل. والسلوى من الطيور الجيد لحمها: { وَلا تَطْغَوْا فِيهِ } أي: فيما رزقناكم، بأن يتعدى فيه حدود الله، ويخالف ما أمر به: { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } أي: هلك. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } [82]. { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } أي: تاب عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق، وعمل صالحاً بجوارحه، ثم اهتدى، أي: استقام وثبت على الهدى المذكور. وهو التوبة والإِيمان والعمل الصالح. ونحوه قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } [فصلت: 30] و [الأحقاف: 13]، وفي الآية ترغيب لمن وقع في وهدة الطغيان، ببيان المخرج له منه، كي لا ييأس. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى } [83]. { وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى } أي: أي: شيء عجّل بك عنهم، على سبيل الإنكار، وكان قد مضى معه النقباء الذين اختارهم من قومه إلى الطور، على الموعد المضروب، ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه ورضاه. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } [84]. { قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي } أي: قادمون ينزلون بالطور، وإِنما سبقتهم بما ظننت أنه خير. ولذا قال: { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } أي: عني، بمسارعتي إلى الامتثال بأمرك. واعتنائي بالوفاء بعهدك. وزيادة رَبِّ لمزيد الضراعة والابتهال، رغبةً في قبول العذر. أفاده أبو السعود. فإِن قيل: كان مقتضى جواب السؤال من موسى أن يقول: طلب زيادة رضاك أو الشوقُ إلى كلامك , فالجوابُ. أن هذا من الغفلة عن سرِّ الإنكار. وذلك لأن الإنكار بالذات إنما هو للبعد والانفصال عنهم. فهو منصبّ على القيد. كما عرف في أمثاله. فالسؤال في المعنى عن الانفصال الذي يتضمنه أعجلك المتعدي بمن. وإنكار العجلة لأنها وسيلة له. فالجواب: { هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي }. وقوله: { وَعَجِلْتُ } الخ تتميم. وقيل الجواب إنما هو قوله: { وَعَجِلْتُ } الخ، وما قبله تمهيد له. وقال الناصر: إنما أراد الله بسؤاله عن سبب العجلة، وهو أعلم، أن يعلم موسى أدب السفر. وهو أنه ينبغي تأخُّرُ رئيس القوم عنهم في المسير، ليكون نظره محيطاً بطائفته، ونافذاً فيهم، ومهيمناً عليهم. وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم، ألا ترى الله عزّ وجلّ كيف علم هذا الأدب، لوطا، فقال: { وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ } [الحجر: 65]، فأمره أن يكون أخيرهم. على أن موسى عليه السلام إنما أغفل هذا الأمر مبادرة إلى رضاء الله عزَّ وجلَّ، ومسارعة إلى الميعاد. وذلك شأن الموعود بما يسره، يود لو ركب إليه أجنحة الطير. ولا أسَرَّ من مواعدة الله تعالى له صلى الله عليه وسلم. انتهى. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } [85]. { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ } أي: ابتليناهم بعد ذهابك للمناجاة: { وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } يعني اليهوديّ الذي وسوس لهم أن يعبدوا عجلاً يتخذوه إلهاً، لما طالت عليهم غيبة موسى ويئسوا من رجوعه. والسامري في لغة العرب، بمعني اليهودي. وقد قال بالظن، من ادعى تسميته أو حاول تعيينه. وأما الطائفة السامرية الآن فهم فئة من اليهود في نابلس قليلة العدد تخالف بقية اليهود في جلّ عاداتها. وقد تضمنت هذه الجملة - أعني إخباره تعالى لموسى بالفتنة - الأمر - برجوعه لقومه، وإصلاحه ما فسد من حالهم، كما قال تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي } [86]. { فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } أي: حزيناً: { قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } أي: بإنزال التوراة عليَّ، ورجوعي بها إليكم: { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ } أي: زمان الإنجاز، أو مجيئي: { أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي } أي: وعدكم إياي بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } [87 - 88]. { قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } قرئ بالحركات الثلاث على الميم. قال الزمخشري: أي: ما أخلفنا موعدك، بأن ملكنا أمرنا. أي: لو ملكنا أمرنا، وخلينا وراءنا، لما أخلفناه. ولكن غلبنا من جهة السامريّ وكيده: { وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا } بفتح الحاء مخففاً، وبضمها وكسر الميم مشدداً: { أَوْزَاراً } أي: أثقالاً وأحمالاً: { مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ } أي: من حلي القبط، قوم فرعون، وهو حليُّ نسائهم: { فَقَذَفْنَاهَا } أي: في النار لسكبها: { فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ } أي: كان إلقاؤه: { فَأَخْرَجَ لَهُمْ } أي: من تلك الحليّ المذابة: { عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ } أي: صوت عجل. وقد قيل: إنه صار حيّاً، وخار كما يخور العجل. وقيل: لم تحلّه الحياة وإنما جعل فيه منافذ ومخارق، بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوت يشبه صوت العجل. أفاده الرازي. وقوله: { فَقَالُوا } أي: السامريُّ ومن افتتنوا به: { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } أي: غفل عنه وذهب يطلبه في الطور. ثم أنكر تعالى على من ضل بهذا العجل وأضل. مسفهاً لهم فيما أقدموا عليه، مما لا يشتبه بطلانه على أحد، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً } [89]. { أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ } أي: العجل: { إِلَيْهِمْ قَوْلاً } أي: لا يردد لهم جواباً: { وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً } أي: دفع ضرّ ولا جلب نفع، أي: فكيف يتخذ إلهاً؟. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي } [90]. { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ } أي: قبل رجوع موسى إليهم: { يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ } أي: ضللتم بعبادته: { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي } في عبادته سبحانه، ونبذ العجل. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } [91 - 93]. { قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ } أي: موسى: { يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ } أي: في الغضب لله، وشدة الزجر عن الكفر. و لا مزيدة. أو المعنى ما حملك على أن لا تتبعني، بحمل النقيض على النقيض. فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابله. أو ما منعك أن تلحقني وتخبرني بضلالهم، فتكون مفارقتك مزجرة لهم: { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } وهو ما أمره به من أن يخلفه في قومه، ويصلح ما يراه فاسداً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [94]. { قَالَ } أي: هارون: { يَا ابْنَ أُمَّ } بكسر الميم وفتحها. أراد أمي وذكرُها أعطف لقلبه: { لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي } أي: بشعره. وكان قبض عليهما يجره إليه من شدة غضبه: { إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ } أي: بتركهم لا راعي لهم: { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } أي: لم تراعه في الاستخلاف والوجود بين ظهرانيهم. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ } [95]. { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ } أي: ثم أقبل على السامري وقال له منكراً: ما شأنك فيما صنعت؟ وما دعاك إليه؟. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً } [96 - 97]. { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ } أي: فطنت لما لم يفطنوا له: { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا } أي: في الحلي المذاب حتى حَيَّ: { وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } أي: حسّنته وزينته: { قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ } أي: لعذابك: { مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً } أي: لنطيّرنّه رماداً في البحر، بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر. تنبيهات: الأول: اعلم أن هارون عليه السلام، سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه. لأنه زجرهم عن الباطل، أوّلاً بقوله: { إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ } ثم دعاهم لمعرفة الله تعالى ثانياً بقوله: { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ } ثم دعاهم ثالثاً إلى معرفة النبوة بقوله تعالى:: { فَاتَّبِعُونِي } ثم دعاهم إلى الشرائع رابعاً بقوله: { وَأَطِيعُوا أَمْرِي } وهذا هو الترتيب الجيّد. لأنه لا بد قبل كل شيء في إماطة الأذى عن الطريق، وهو إزالة الشبهات. ثم معرفة الله تعالى، فإنها هي الأصل. ثم النبوة ثم الشريعة. فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه. أفاده الرازي. وقد برأ الله تعالى بهذه الآيات البينات، هارون عليه السلام مما افتراه عليه كتبة التوراة من أنه هو السامري الذي اتخذ العجل وأمر بعبادته، كما هو موجود عندهم. وهو من أعظم الفرى، بلا امترا. الثاني: عامة المفسرين قالوا: المراد بالرسول في قوله تعالى: { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } هو جبريل عليه السلام. وأراد بأثره، التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته. ثم اختلفوا: أن السامري متى رآه؟ فقيل: إنما رآه يوم فلق البحر. وقيل: وقت ذهابه بموسى إلى الطور. واختلفوا أيضاً في: أن السامري كيف اختص برؤية جبريل عليه السلام، ومعرفته من بين سائر الناس؟ فقيل إنما عرفه لأنه رآه في صغره، وحفظه من قتل آل فرعون له، وكان ممن رباه. وكل هذا ليس عليه أثارة من علم ولا يدل عليه التنزيل الكريم. ولذا قال أبو مسلم الأصفهاني: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون. فههنا وجه آخر وهو: أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام. وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر ويقبض أثره، إذا كان يمتثل رسمه. والتقدير، أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل، فقال: { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ } أي: عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، أي: شيئاً من سنّتك ودينك. فقذفته، أي: طرحته. فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة. وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب، كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير في كذا؟ وبماذا يأمر الأمير؟. وأما دعاؤه موسى عليه السلام رسولاً، مع جحده وكفره، فعلى مثل مذهب من حكى الله تعالى عنه قوله: { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [الحجر: 6]، وإن لم يؤمنوا بالإنزال. انتهى. قال الرازي: ما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق مما ذكره المفسرون، لوجوه: أحدها: أن جبريل عليه السلام ليس بمشهور باسم الرسول. ولم يجر له فيما تقدم ذكر، حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه. فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل عليه السلام، كأنه تكليف بعلم الغيب. وثانيها: أنه لا بد فيه من الإضمار. وهو قبضة من أثر حافر فرس الرسول , والإضمار خلاف الأصل. وثالثها: أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته؟ ثم كيف عرف أن لِتُرَابِ حافر فرسه هذا الأثر؟ والذي ذكروه من أن جبريل عليه السلام هو الذي رباه، فبعيد. لأن السامري، إن عرف جبريل حال كمال عقله، عرف قطعاً أن موسى عليه السلام نبيّ صادق. فكيف يحاول الإضلال؟ وإن كان ما عرفه حال بلوغ، فأي منفعة لكون جبريل عليه السلام مربياً له حال الطفولية، في حصول تلك المعرفة؟ انتهى. التنبيه الثالث: في قوله: { لاَ مسَاسَ } وجوه: أحدها: إني لا أَمَسُّ ولا أُمَسُّ. وثانيها: المراد المنع من أن يخالط أحداً أو يخالطه أحد، عقوبة له. ثالثها: ما ذكره أبو مسلم من أنه يجوز في حمله: ما أريد مسي النساءَ , فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله. فلا يكون له ولد يؤنسه، فيخليه الله تعالى من زينتي الدنيا اللتين ذكرهما بقوله: { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [الكهف: 46]، أي: لأن المسّ يكنى به عن النكاح كما في آية: { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } [البقرة: 237]، والله أعلم. ولما فرغ موسى عليه السلام من إبطال ما دعا إليه السامري، عاد إلى بيان الدين الحق، فقال: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [98]. { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ } أي: المستحق للعبادة والتعظيم: { اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } أي: أحاط علمه كل شيء. ثم أشار تعالى إلى فضله، فيما قصه على خاتم رسله صلوات الله عليه، من أنباء الأنبياء، تنويهاً بشأنه، وزيادة في معجزاته، وتكثيراً للاعتبار والاستبصار في آياته، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً } [99]. { كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً } أي: كتاباً عظيماً جامعاً لكل كمال، وسمي القرآن: { ذِكْراً } لما فيه من ذكر ما يحتاج إلى الناس من أمر دينهم ودنياهم، ومن ذكر آلاء الله ونعمائه. ففيه التذكير والمواعظ، ولما فيه من الذكر والشرف له صلوات الله عليه ولقومه. قال الرازي: وقد سمى تعالى كل كتبه ذكراً فقال: { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ } [النحل: 43]، ثم، كما بيّن تعالى نعمته بذلك، بيّن شدة الوعيد لمن أعرض عنه ولم يؤمن به، بقوله: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً } [100 - 101]. { مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً } أي: إثماً. يعني عقوبة ثقيلة. شبهت بالحمل الثقيل لثقلها على المعاقَب وصعوبة احتمالها: { خَالِدِينَ فِيهِ } أي: في احتماله المستمر: { وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً }. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً } [102 - 103]. { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ } بدل من يوم القيامة أو منصوب بمحذوف. والنفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق: { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } [الزمر: 68]، وعلينا أن يؤمن بما ورد من النفخ في الصور. وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور. والبحث وراء هذا، عبث لا يسوغ للمسلم. أفاده بعض المحققين. { وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ } أي: نسوقهم إلى جهنم: { يَوْمَئِذٍ زُرْقاً } أي: زرق الوجوه. الزرقة تقرب من السواد. فهو بمعنى آية: { وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [آل عِمْرَان: 106]. وقال أبو مسلم: المراد بهذه الزرقة شخوص أبصارهم. والأزرق شاخص، لأنه لضعف بصره، يكون محدقاً نحو الشيء يريد أن يتبينه. وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره. وهو كقوله تعالى: { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ } [إبراهيم: 42]، نقله الرازي. والأول أظهر { يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ } أي: يتسارّون من الرعب والهول، أو من الضعف، قائلين: { إِنْ لَبِثْتُمْ } أي: في الدنيا: { إِلَّا عَشْراً } أي: عشر ليال. قال الزمخشري: يستقصرون مدة لبثهم [في المطبوع: لبثم] في الدنيا، إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور، فيتأسّفون عليها ويصفونها بالقصر. لأن أيام السرور قصار. وإما لأنها ذهبت عنهم وتَقَضَّتْ. والذاهب، وإن طالت مدته، قصير بالانتهاء. ومنه توقيع عبد الله بن المعتز تحت: أطال الله بقاءك كفى بالانتهاء قصراً. وإما لاستطالتهم الآخرة، وأنها أبد سرمد، يستقصر إليها عمر الدنيا، ويتقالّ لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة. وقد استرجح الله قول من يكون أشد تقالاً منهم، في قوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً } [104]. { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً } أي: أعدلهم رأياً: { إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً } ونحوه قوله تعالى: { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ } [المؤمنون: 112 - 113]، انتهى. قال أبو السعود: ونسبة هذا القول إلى أمثلهم، استرجاع منه تعالى له، لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق، بل لكونه أدلّ على شدة الهول. أي: ولكونه منتهى الأعداد القليلة. وكذلك لبثهم بالنسبة إلى الخلود السرمديّ، وإلى تقضي الغائب الذي كأن لم يكن. ولا ينافي هذا ما جاء في آية: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ } [الروم: 55]، لأن المراد بالساعة الحصة من الزمان القليل، فتصدق باليوم. كما أن المراد باليوم مطلق الوقت. ولذلك نكر، تقليلاً له وتحقيراً. قال الشهاب: ليس المراد بحكاية قول من قال عَشْراً أو يَوْمَاً أو سَاعَةً حقيقة اختلافهم في مدة اللبث، ولا الشك في تعيينه. بل المراد أنه لسرعة زواله، عبّر عن قلّته بما ذكر. فتفنن في الحكاية، وأتى في كل مقام بما يليق به. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } [105 - 107]. { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ } أي: هل تبقى يوم القيامة أو تزول: { فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } أي: يزيلها عن مقارّها. فيسيّرها مقذوفة في الفضاء. وقد تمرّ على الرؤوس مرّ السحاب. حتى تتساوى مع سطح الأرض. كما قال: { فَيَذَرُهَا } أي: فيذر مقارّها ومراكزها. أو الأرض المدلول عليها بقرينة الحال: { قَاعاً } أي: سهلاً مستوياً: { صَفْصَفاً } أي: أملس: { لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } أي: نتوءاً يسيراً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً } [108]. { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ } أي: يُجيبون الداعي إلى المحشر، فينقلبون من كل صوب إليه: { لا عِوَجَ لَهُ } أي: لا يعوج له مدعوّ، ولا ينحرف عنه. بل يستوون إليه. متبعين لصوته، سائرين بسيره. في شروح " الكشاف ": هذا كما يقال: لا عصيان له , أي: لا يعصى. ولا ظلم له أي: لا يظلم. وضمير له: للداعي. وقيل: للمصدر. أي: لا عوج لذلك الاتباع: { وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ } أي: انخفضت لهيبه ولهول الفزع: { فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً } أي: صوتاً خفيّاً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } [109]. { يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } أي: قبل قوله. والمعنى: يومئذ لا يستطيع أحد أن يشفع لأحد، إلا إذا أذن الله له. ولا يأذن إلا لمن علم أنه سيجاب. قال بعض المحققين: وإنما يكون الكلام ضرباً من التكريم، لمن يأذن الله له به، يختص به من يشاء. ولا أثر فيما أراد الله البتة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [110]. { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } أي: بمعلوماته، أو بذاته العلية. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } [111]. { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } أي: ذلت وخضعت خضوع العناة، أي: الأسارى. لأنها في أسر مملكته وذلّ قهره وقدرته. لا تحيا ولا تقوم إلا به. ولما كانت الوجوه يومئذ، منها الظالمة لنفسها ومنها الصالحة، أشار إلى ما يجزي به الكل، بقوله سبحانه: { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } أي: خسر. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً } [112] { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً } أي: نقص ثواب: { وَلا هَضْماً } أي: ولا كسراً منه، بعدم توفيته. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } [113]. { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ } أي: بعبارات شتى، تصريحاً وتلويحاً، وضروب أمثال، وإقامة براهين: { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي: الكفر والمعاصي بالفعل: { أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } أي: اتعاظاً واعتباراً، يؤول بهم إلى التقوى. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً } [114]. { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } أي: تناهى في العلوّ والعظمة، بحيث لا يقدر قدره، ولا يغدر أمره في ملكه الذي يعلو كل شيء، ويصرفه بمقتضى إرادته وقدرته. وفي عدله الذي يوفي كل أحد حقه بموجب حكمته: { وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } أي: بل أنصت. فإذا فرغ المَلَك من قراءته فاقرأه بعده. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقَّنه جبريل الوحيَ، يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة، لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ. فأرشد إلى أن لا يساوقه في قراءته، وأن يتأنَّى عليه ريثما يسمعه ويفهمه. ثم ليقبل عليه بالحفظ بعد ذلك. ونحوه قوله تعالى: { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [القيامة: 16 - 19]، ثم أمره تعالى باستفاضة العلم واستزادته منه بقوله: { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً } أي: سله زيادة العلم. فإن مدده غير متناه. وهذا - كما قال الزمخشري - متضمن للتواضع لله تعالى والشكر له، عندما علم من ترتيب التعلم. أي: علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم، وأدباً جميلاً ما كان عندي، فزدني علماً إلى علم. فإن لك في كل شيء حكمة وعلماً. قيل: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم. ثم أشار تعالى إلى أخذه العهد على بني آدم، من اتّباعهم كل هدى يأتيهم منه سبحانه، وترتب الفوز عليه. وإلى أن الإعراض عنه من وسوسة الشيطان، العدوّ لهم ولأبيهم قبلهم. وترتب الشقاء عليه، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [115]. { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ } أي: من قبل هذا الزمان، أن لا يقرب من الشجرة: { فَنَسِيَ } أي: العهد: { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } أي: تصميماً في حفظه. إذ لو كان كذلك، لما أزلّه الشيطان ولما استطاع أن يغرّه. كما بيّنه الله تعالى بقوله: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } [116 - 117]. { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } أي: بالابتلاء. وإسناد الشقاء إليه خاصة، لأصالته في الأمور، واستلزام شقائه بشقائها. فاختصر الكلام لذلك ,مع المحافظة على الفاصلة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى } [118 - 119]. { إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى } أي: لا تتصوّن من حرّ الشمس. قال أبو السعود: هذا تعليل لما يُوجبه النهي. فإن اجتماع أسباب الراحة فيها. مما يوجب المبالغة في الاهتمام بتحصيل مبادئ البقاء فيها. والجدِّ في الانتهاء عما يؤدي إلى الخروج عنها. والعدولُ عن التصريح بأن له عليه السلام فيها تنعماً بفنون النعم. من المآكل والمشارب، وتمتعَاً بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية، مع أن فيه من الترغيب في البقاء فيها، ما لا يخفى. إلا ما ذكر من نفي نقائضها التي هي الجوع والعطش والعري والضحو، لتذكير تلك الأمور المنكرة والتنبيه على ما فيها من أنواع الشقوة التي حذره عنها، ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها. انتهى. لطيفة: قال الناصر: في الآية سر بديع من البلاغة، يسمى قطع النظير عن النظير. وذلك أنه قطع الظمأ عن الجوع، والضحو عن الكسوة، مع ما بينهما من التناسب. والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها , ولو قرن كلَّاً بشكله لتوهم المعدودات نعمة واحدة. وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديماً وحديثاً، فقال الكندي الأول: ~كَأَنِّي لَم أَرْكَبْ جَوَاداً لِلذَّةٍ ولم أَتَبَطَّن كَاعِباً ذاتَ خِلخَالِ ~ولم أسبأ الزِّقَّ الرويّ ولم أقُل لخيليَ: كُرِّي كَرَّةً بعدَ إِجفَالِ فقطع ركوب الجواد عن قوله: لخيلي كري كرة , وقطع تبطن الكاعب عن ترشف الكاس، مع التناسب. وغرضه أن يعدّد ملاذَّه ومفاخره ويكثرها. على أن هذه الآية سرّاً لذلك، زائداً على ما ذكر، وهو قصد تناسب الفواصل. ولو قرن الظمأ بالجوع فقيل: إن لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ, لانتثر سلك رؤوس الآي. وأحسنْ به منتظماً. انتهى. وهذا السرّ الذي سمّاه: قطع النظير عن النظير يسمى بالوصل الخفي. ومما قيل في وجه القطع: أن فيه التنبيه على أن الأوليْن، أعني الشبع والكسوة أصلان. وأن الأخيرين متممان. فالامتنان على هذا أظهر. ولذا فرّق بين القرينتين. فقيل إنَّ لَكَ وأنَّك وأيضاً روعي مناسبة الشبع والكسوة. لأن الأول يكسو العظام لحماً. وأما الظمأ والضحى فمن وادٍ واحد. وقيل: إن الغرض تعديد هذه النعم. ولو قرن كل بما يشاكله، لتوهم المقرونان نعمة واحدة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [120 - 121]. { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ } أي: من أكل منها خلد ولم يمت: { وَمُلْكٍ لا يَبْلَى فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا } أي: يلزقان: { مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } أي: لهما هذا الخزي، بدل عزّ الملك المخلد. وهذه الأوراق الفانية، بدل نفائس الملابس الخالدة: { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ } أي: بارتكاب النهي، وترك العزم في حفظ العهد: { فَغَوَى } أي: عن المأمور به. حيث اعتز بقول العدوّ. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } [122 - 123]. { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ } أي: اصطفاه ووفقّه للإنابة: { فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ } أي: بعد قبول توبته: { اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً } أي: انزلا من الجنة إلى الأرض: { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } أي: متعادين. قال المهايمي: فالمرأة عدوّة الزوج، في إلجائه إلى تحصيل الحرام. والزوج عدوّها في إنفاقه عليها. وإبليس يوقع الفتنة بينهما , ويدعوهما إلى أنواع المفاسد التي لا ترتفع إلا باتباع الأمر السماويّ { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً } أي: من كتاب ورسول { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } أي: لا في الدنيا ولا الآخرة. قال أبو السعود: ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: هُدَايَ مع الإضافة إلى ضميره تعالى، لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } [124 - 127]. { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } اعلم أنه لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه في معاشه ومعاده، أخبر عن حال من أعرض عنه ولم يتبعه، من شقائه في الدنيا والآخرة. وهذا الشقاء بقسميه، هو نوع من أفانين العذاب اللاحقة لمن تولى عن هدى الله الذي بعث به خاتم أنبيائه، ولم يقبله ولم يستجب له، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمرَ ربه. وفي الآية مسائل: الأولى: قال الرازي في قوله تعالى: { عَن ذِكْرِي }: الذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى. ويحتمل أن يراد به الأدلة. وقال ابن القيّم في " مفتاح دار السعادة ": أي: عن الذكر الذي أنزلته. والذكر هنا مصدر مضاف إلى الفاعل. كقيامي وقراءتي لا إلى المفعول. وليس المعنى: ومن أعرض عن أن يذكرني. بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر. وأحسن من هذا الوجه أن يقال: الذكر هنا مضاف إضافة الأسماء، لا إضافة المصادر إلى معمولاتها. والمعنى: ومن أعرض عن كتابي ولم يتبعه، فإن القرآن يسمى ذكراً. قال تعالى: { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ } [الأنبياء: 50]، وقال تعالى: { ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ } [آل عِمْرَان: 58]. وقال تعالى: { وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } [القلم: 52]. وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ } [فصلت: 41]. وقال تعالى: { إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ } [يس: 11]، وعلى هذا فإضافته كإضافة الأسماء الجوامد التي لا يقصد بها إضافة العامل إلى معموله. ونظيره في إضافة اسم الفاعل: { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } [غافر: 3]، فإن هذه الإضافات لم يقصد بها قصد الفعل المتجدد، وإنما قصد الوصف الثابت اللازم. ولذلك جرت أوصافاً على أعرف المعارف، وهو اسم الله تعالى في قوله تعالى: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ } [غافر: 2 - 3]. الثانية: قرئ ضَنكاً بالتنوين على أنه مصدر وصف به، ولذا لم يؤنث لاستوائه في القبيلين. كما قال ابن مالك: ~وَنَعَتُوا بمصدرٍ كثيراً فالتَزَمُوا الإِفرادَ والتذكِيرَا وفي القاموس: الضنك الضيق في كل شيء، للذكر والأنثى. يقال: ضَنُكَ ككرم، ضنكاً وضناكة وضنوكة، ضاق. وقال السمين: ضنكاً صفة معيشة. وأصله المصدر فلذلك لم يؤنث. ويقع للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد. وقرأ الجمهور ضنكاً بالتنوين وصلاً وإبداله ألفاً وقفاً كسائر المعربات. وقرأت فرقة ضنكي بألف كسكري. وفي هذه الألف احتمالان: فإما أن تكون بدلاً من التنوين، وإنما أجرى الوصل مجرى الوقف، وإما أن تكون ألف التأنيث بني المصدر على فعلى نحو دعوى. الثالثة: ذكروا في هذه المعيشة الضنك التي للكافر أقوالاً: إنها في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة أو في الدين. والأظهر الأول لمقابلته بالوعيد الأخروي. قال ابن كثير: أي: ضنكاً في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره. بل صدره ضيّق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء. وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك. فلا يزال في ريبه يتردد: فهذا من ضنك المعيشة. انتهى. وذلك لأن الاعتقاد بالدين الحق واليقين الصحيح لراحة الضمائر والأنفس، فوق كل الأهواء والذات والمآرب. فالضنك المعنيّ بها، إذن هو الضنك الحيويّ والقلق الدنيوي، من اضطراب القلب وعدم سكون النفس إلى الاعتقاد الحق والإيمان بالدين القيّم الذي هو دين الإسلام. فكل من لم يؤمن به فهو في ضيق صدر وهموم ومحابس، لا يجد منها مخارج إلا به ولا يرتاب في ذلك من كابر حسه وناقض وجدانه. فإن دين الإسلام هو دين الفطرة. دين اليسر. دين العقل. دين النور الذي تنشرح به الصدور وتطمئن به القلوب وتشفى به الأنفس من أدوائها، وتهتدي به من ضلالها وحيرتها، وتستنير به من ظلماتها. ولذلك سمي هدىً ونوراً وشفاءً ورحمةً. ألق نظرك على الأديان كلها، وقابل بينها وبينه، لتدرك ذلك. هذه اليهودية، يرى في اشتراعها في الآصار والأغلال والتكاليف الشاقة في المعيشة الحيوية ما لا يطاق. قيود في المأكل والمشرب. وحجر في المنكح والمبيت والمعاشرة. وضغط على الأنفس بتقسيمها إلى طاهرين يحضرون الاحتفالات، ونجسين مبعدين لا يَلْمسون ولا يُلْمسون. دع عنك خرافات الاعتقادات والافتراء بالأهواء في التشريعات وتشعبها في الأهواء إلى شعب تتباين في العبادات. وهذه النصرانية، الذي أساسها تعديل الشرعة الموسوية قام رهبانها بعد رفع المسيح، ومضي عصر الحواريين. فأطلقوا لأتباعهم كل قيد في اليهودية. وأمروهم بنبذ أحكام التوراة نكاية لليهود. وأخذوا يشرعون للناس ما لا ينطبق على أصل التوراة ولا بعثة عيسى. فإنه عليه السلام قال: ما جئت لأهدم الناموس - التوراة - بل لأتممه. فترى ما أحدث من طقوس الكنيسة وتعاليمها، اعتقاداً وعبادة وسلطة وسيطرة جائرة على العقل والفكر، وربط الأمور بأيدي الكهنة حلاَّ وإبراماً، تبعاً لرغائب الأنفس والشهوات، مما يتضجر منه كل مسيحيّ ذاق جوهر الدين المسيحي حقّاً. إذ جوهره مع ابتداعهم على طرفي نقيض، فأنَّى لا يضيق ذرعه ولا تضنك معيشته! لذلك لما استقر سلطان الإسلام بالأندلس، واحتك النصارى بالمسلمين في الحروب الصليبية، واستمدوا من معارف الإسلام وعلومه ما قلد جيدهم منناً لا تنكر؛ أخذوا يقاومون الكنيسة في حظرها على المعارف والفنون، ومعاداتها للعلوم. وجرى بإغراء الكهنة، من الدماء المسفوكة ما اسودت به صحف التاريخ. ثم كان الفوز لدعاة الإصلاح. وتفرقوا أحزاباً. ولا يزالون يتقربون إلى الإسلام، بنبذهم سخائف ما ورثوه. ولذا تراهم في عيشة ضنك يسعون لأرقى مما هم عليه، علماً بأن الدخائل والبدع في دينهم، أفسدت عليهم ما أفسدت. ولن يتسنى لهم الرقي إلا بالرجوع إلى دين الفطرة. وهم يسعون إليه، وإن كانوا لا يشعرون، أو يشعرون ويتجاهلون. هذه رشحات من المعيشة الضنك لأمتين عظيمتين، وهما تنتميان إلى كتابين منزلين.. فما ظنك بالمجوس والوثنيين وفرقهم التي لا تحصى. ولا يزال عقلاؤهم يطلبون التملص منها، لكثرة خرافاتها وضررها، نفساً ومالاً وعرضاً. فأهلها في شقاء وعذاب لا يشاكله عذاب. ومن نجا من ويلاتها بالإسلام، لا يعد ولا يحصى. وقس على هؤلاء، الطائفة المسماة بالماديين. وهم الدهريون والطبيعيون. فإنهم بلا ريب أضيق صدراً وأضنك معيشةً وأشد اضطراباً وأعظم فرقة. فلا يمكن أن يوجد اثنان على رأي واحد. بل يتصور كل منهم إلهه كما يهوى وكما تخيِّلُهُ له رغائبه وشهواته. قال بعضهم: هؤلاء الذين يحصرون دينهم في أن يعرف الإنسان الله، ويكون مستقيماً في أعماله، إذا سئلوا: ما هو الدين الطبيعي الذي تعترفون به؟ فيجيبون إنما هو الذي يرشد إليه العقل عريّاً عن الوحي. فيقال لهم: العقل، من حيث هو، ضعيف متغيّر قاصر. يرى اليوم صوباً ما يراه في الغد خطأً. ويحكم اليوم على أمر أنه حلال مباح، ويرى غداً أنه حرام لا يجوز إتيانه. تحمله أغراضه على استحلال ما يلذّ له وتجعله مستنفراً مما يضادّ أهواءه، فكيف يكون صاحبه مستقيماً في أعماله؟ وما هي القاعدة المطردة الثابتة للاستقامة عند هؤلاء؟ وكل يرى نفسه ويخيّل له أنه مستقيم!! فالصيني مثلاً يرى نفسه مستقيماً ولو باع أو قتل أولاده. والهندي يرى هذه الاستقامة في نفسه، ولو أحرق المرأة على جثة رجلها. والوثني يرى نفسه مستقيماً، ولو ارتكب الفحشاء تكرمة للزهرة. هذا، وإن أكبر الفلاسفة ضلّوا في موادّ ما يشرعون. ولم يهتدوا لجادّة الاستقامة الحقة. فأنَّى يمكن لعامة الناس أن يكون لكل منهم دين طبيعي يقبله كيف شاء، ويجعله كشيء مرن، يمده إلى ما طاب له، ويقصره عن كل ما عافه. فيختلف هذا الدين باختلاف العقول والأهواء فيهم. وكيف نسمي شريعة ثابتة عامة، ما كان وقفاً على إرادة كل فرد وأهوائه؟ وإذا سلمنا، مجاراة، أنه يوجد من كان ميّالاً طبعاً إلى الاستقامة والعدل والعفة، فيحمله طبعه على ذلك، فماذا نقول فيمن كان بالطبع محبّاً للانتقام والاعتداء والشهوات. لا سيما والعقل ضعيف والنفس أمّارة بالسوء، فأنَّى يكون العقل وحده وازعاً عن ارتكاب المعاصي والجرائم. فما قضى سبحانه بشريعته لمخلوقاته رحمة منه بهم، إلا لضعفهم وميلهم إلى الشر. وضعف الإنسان وانحرافه يقضي بإلزامه شريعة يخضع لها. فهي ضرورية له ضرورة نظام الأجرام الفلكية لها. وملازمة له ملازمة النطق والإدراك والحرية، ولزوم الامتداد والثقل والجذب والدفع للأجرام الجامدة. وأول بينة على ملازمة الشريعة طبعَ الإنسان، ما يجده في نفسه ووجدانه من انغراسها فيه انغراساً نظريّاً. حتى لا يمكنه أن يجرّد نفسه. مثلاً، كيف يمكن للإنسان، ولو مهما تعامى في الشر، أن يجرّد نفسه عن تصور أنه خاضع لشريعة تنهاه عن القتل واختلاس مال غيره والاعتداء عليه بأيّ نوع كان؟ فالشريعة مكتوبة على قلوبنا في ألواح لحمية. ومن بحث عن عموم سكان البسيطة، وجد إجماع القبائل والشعوب قاطبة على شرائع، وإن اختلفت في بعض موادها. والحرية التي منحت للإنسان إنما قيدت محاسنها بالشرائع والخضوع لها. وإلا فهي دمار لنظام العالم، وجائحة للأدب، وآفة لما غرس البارئ في عقول الناس أجمعين، من عهد آدم إلى يومنا هذا. وذلك لاستلزامها إفساد الطبع الإنساني، والإجحاف بالشرائع الأدبية. لأن الإنسان متى علم أن ليس له إله يثيب على الخير ويعاقب على الشر، أطلق لنفسه عنان الفاسد، واطّرح العذار في مضمار الشهوات وإحراز الرغائب، قضاء لما يحسبه من سعادته، واعتقاد أن نفسه ليست خالدة. وليس لسعادته موضوع خارج عن هذه العاجلة. ولاستلزامها أيضاً هدم الاجتماع الإنسانيّ والذهاب بشأفته. إذ لا ترعى بعد الله ذمة بين الملأ, ولا حرمة للسنن والشرائع, ولا برٌّ بالملوك، ولا عدل بالرعية، ولا محبة ولا صدق ولا وفاء ولا نحو ذلك مما هو ضروريّ بالذات لقيام الألفة البشرية ونظام العمران. وبالجملة، فلا يظنن أحد أن العالم يدوم أو يبقى فيه شيء من النظام أو الهيئة الاجتماعية، إذا لم يكن الناس مقيّدين بشريعة إلهية، تصدّ الفاجر عن الفجور. فكما أن الهواء ضروريّ للحياة الطبيعية، فكذا الشريعة ضرورية للحياة الأدبية. فلا حياة للموجودات الحية دون هواء، فكذا لا انتظام ولا هيئة في العالم دون الشريعة. انتهى. وقال إمام مدقق، في بحث تصحيح الاعتقاد وضرورته لطمأنينة النفس وسعادتها، ما مثاله: إنا نرى أمام أعيننا بعضاً من الناس قد رزقوا صحة عظيمة وثروة جسيمة وتهذبوا بأنواع العلوم والمعارف، ولكنهم كثيرو الضجر شديدو الحيرة. لا يكادون يشعرون بالراحة ولا يتلذذون بملذة. كأن لهم في لذة ألماً، وبإزاء كل فرح ترحاً، يحسّون بكآبة قد رانت على صدورهم: فلا يعلمون سببها ولا يعرفون موجبها. كآبة لا تزايلهم إلا بزوال عقولهم عنهم، بكأس من الرحيق. فلذلك تراهم شديدي الكلف به كثيري التحرق لفقدانه، لأنه دواؤهم الوحيد. ما سر هذا الأرق والضجر، مع هذه الصحة الجسمية وتلك الثروة المالية، وهما الأمران اللذان عليهما، كما يزعمون، مدار السعادة الإنسانية؟ ما هذه الحيرة الوجدانية والوحشة الضميرية، مع تهذبهم بأنواع العلم، وهو كما يزعمون، الشافي للناس من نزعات الوسواس؟. أما يدلنا هذا الضجر السري على أن النفس تائقة لأمر ما، إن غاب على الإنسان علمه، فقد دله عليه أثره. وإن ذلك الأمر ليس هو صحة البدن ولا وفرة المال ولا كثرة البنين، ولا سكنى القصور، ولا أكل الصنوف، ولا سماع العيدان، ولا مغازلة الغيد. بل هو أمر آخر لا تعد هذه الملاذ بالنسبة له إلا هباء، ولا الأكوان بجانبه إلا فناءً.. ما هو هذا الأمر السامي الذي لو حصلت عليه النفس اطمأنت وسكنت، وهامت به وسكرت، ورضيت به وقنعت. هو لا شك صحة المعتقد، وإليك الدليل: ليست النفس من طبيعة هذه الأجسام الصماء. ولا من طينة هذه المادة العمياء، حتى تأنس إلى شيء من أشياء هذه الأرض الحقيرة، أو تهتم بملاذها مهما كانت كبيرة. بل هي من طبيعة نورانية محضة. فلا تأنس إلا لنور يجلي عنها ظلمات الأشياء الأرضية الكثيفة، لتشرف على حضرة القدس المنيفة، وتطل على حظائرها الشريفة. النفس أجلّ من أن تقنع بالمشتهيات الجسمانية، وأكبر من أن ترضى بملاذها المموهة الفانية. فمهما غالط الإنسان نفسه، بجمع المال ورفاهة الحال، ليرتاح سره ويسكن اضطرابه، فإن النفس لا تفتأ تقيم عليه الحجة بعد الحجة، ليهتدي إلى وَضَحِ المحجة. فإن تبصر في أمره، واكتنه حقيقة سره، وأنال نفسه بغيتها من إبلاغها نورها المرجوّ لها، سكن فؤاده وآب إليه رشاده. ولو كان جسمه بين القنا والقنابل. وحاله من الفقر في أخس المنازل. فما هو السبيل إلى إبلاغ هذه النفس الهائمة أمنيتها، وإمتاعها بطلبتها، من صحة العقيدة؟ السبيل لذلك هو العقل السليم. العقل في النوع الإنسانيّ خصيصة من أجلّ خصائصه، ومنحة من أفضل منح الله عليه، لو استعمل فيما وضع له، واعتنى بصحته واعتداله. بالعقل يسبر الإنسان غور هذا الوجود العظيم، على ضخامة أجزائه وعظم أبعاده، ويستكنه سير النواميس السائدة عليه، فيستدل بها على وجود الخالق عزَّ وجلَّ، وعلى تنزه أفعاله عن العبث، وصنائعه عن اللهو. كما يستدل به على علمه وتدبيره ورحمته وحكمته، استدلالاً محسوساً لا يقبل شبهة ولا يداخله ريبة. بالعقل يدرس الإنسان أحوال الجمعيات البشرية. في نواميس رقيّها وهبوطها، وأسباب رفعتها وضعتها. ويتصبر في أحوال الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى خلقه هادين مرشدين. فيستدل بالتدقيق فيما جاؤوا به، وفي الآثار التي تركوها، على معنى النبوّة وضرورتها للبشر. وحكمة الله تعالى في اختلاف المدارك والإحساسات، وفي تباين الملل والديانات. بالعقل يميز الإنسان بين أحوال الماضي والحال. فيفرق تبعاً لذلك بين الديانات الخاصة وبين الديانات العامة. ويعثر بتعضيد العلم والبدائة، على الديانة التي يجب أن تكون خاتمة الأديان كلها، وباقية بقاء النوع الإنسانيّ، وهي شريعة خاتم النبيين صلوات الله عليه وسلامه. الرابعة: رأيت للإمام ابن القيّم،رحمه الله ، كلاماً على هذه الآية في كتابيه: " الجواب الكافي " و " مفتاح دار السعادة " فأحببت نقله هنا لفوائده وللعناية بهذه الآية، فإنها جديرة بذلك. قال في " الجواب الكافي " في فصل أَبَان فيه العقوبات المترتبة على المعاصي: ومنها المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة. قال: وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر. ولا ريب أنه من المعيشة الضنك. والآية تتناول ما هو أعمّ منه، وإن كانت نكرة في سياق الإثبات، فإن عمومها من حيث المعنى. فإنه سبحانه رتّب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره. فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإن تنعم في الدنيا بأوصاف النعم، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب، والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه، وإنما تواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة، إن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر. فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر. فإنه يفيق صاحبه، ويصحو. وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا سكر في عسكر الأموات. فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والبرزخ ويوم المعاد. ولا تقرّ العين ولا يهدأ القلب ولا تطمئن النفس إلا بإلهها ومعبودها الذي هو حق، وكل معبود سواه باطل، فمن قرت عينه بالله، قرت به كل عين. ومن لم تقر عينه بالله , تقطعت نفسه على الدنيا حسرات. والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن بالله وعمل صالحاً، كما قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 97]، فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح، الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة، والحسنى يوم القيامة. فلهم أطيب الحياتين وهم أحياء في الدارين. ونظير هذا قوله تعالى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ } [النحل: 30]، ونظيرها قوله تعالى: { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } [هود: 3]، ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة، وحصلوا على الحياة الطيبة في الدارين، فإن طيب النفس وسرور القلب وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته، من ترك الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة، هو النعيم على الحقيقة. ولا نسبة لنعيم البدن إليه، فقد كان بعض من ذاق هذه اللذة يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف. وقال آخر: إنه يمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيّب. وقال آخر: إن في الدنيا جنة، هي في الدنيا كالجنة في الآخرة. من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. وقد أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجنة بقوله: < إذا="" مررتم="" برياض="" الجنة="" فارتعوا.="" قالوا:="" وما="" رياض="" الجنة؟="" قال:="" حلق="" الذكر="">. وقال: < ما="" بين="" بيتي="" ومنبري="" روضة="" من="" رياض="" الجنة=""> ولا تظن أن قوله تعالى: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار: 13 - 14]، يختص بيوم المعاد فقط، بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة. وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة. وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بر القلب وسلامة الصدر ومعرفة الرب تعالى ومحبته والعمل على موافقته؟ وهل عيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم؟ وقد أثنى الله تعالى على خليله عليه السلام بسلامة قلبه فقال: { وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الصافات: 83 - 84]، وقال حاكياً عنه أنه قال: { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء: 88 - 89]، والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة. فسلم من كل آفة تبعده من الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره. وسلم من كل إرادة تزاحم مراده. وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله. فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ وفي جنة يوم المعاد انتهى ملخصاً. وقالرحمه الله في " مفتاح دار السعادة ": فَسَّرَ غير واحد من السلف قوله تعالى: { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً } بعذاب القبر. وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر. ولهذا قال: { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } أي: تترك في العذاب كما تركت العمل بآياتنا. فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوار، ونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [غافر: 46]، فهذا في البرزخ: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } فهذا في القيامة الكبرى. ونظيره قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } فقول الملائكة: { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } المراد به عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت. ونظيره قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } [لأنفال: 50]، فهذه الإذاقة في البرزخ. وأولها حين الوفاة، فإنه معطوف على قوله: { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } وهو من القول المحذوف لدلالة الكلام عليه كنظائره. وكلاهما واقع وقت الوفاة. وفي الصحيح، عن البراء بن عازب في قوله: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } [إبراهيم: 27]، قال: نزلت في عذاب القبر. والأحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر. والمقصود أن الله سبحانه أخبر أن من أعرض عن ذكره هو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى، بأن له معيشة ضنكاً، وتكفل لمن حفظ عهده أن يحيه حياة طيبة ويجزيه أجره في الآخرة فقال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 97]، فأخبر سبحانه عن فلاح من تمسك بعده علماً وعملاً في العاجلة بالحياة الطيبة، وفي الآخرة بأحسن الجزاء. وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ، ونسيانه في العذاب في الآخرة. وقال سبحانه: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [الزخرف: 36 - 37]، فأخبر سبحانه أن ابتلاءه بقرينه من الشياطين وضلاله به، إنما كان لسبب إعراضه وعشوّه عن ذكره الذي أنزله على رسوله. فكان عقوبة هذا الإعراض، أن قيض له شيطاناً يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه. وهو يحسب أنه مهتد. حتى إذا وافى ربه يوم القيامة من قرينه، وعاين هلاكه وإفلاسه قال: { يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } [الزخرف: 38]، وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله، فلا بد أن يقول هذا يوم القيامة. فإن قيل: فهل لهذا عذر في ضلاله، إذا كان يحسب أنه على هدى كما قال تعالى: { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [الزخرف: 37]؟ قيل: لا عذر لهذا وأمثاله في الضلال، الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول. ولو ظن أنه مهتد، فإنه مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى. فإذا ضل فإنما أُتَي من تفريطه وإعراضه. وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة، وعجزه عن الوصول إليها، فذاك له حكم آخر. والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول. وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إقامة الحجة عليه كما قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15]، وقال تعالى: { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [النساء: 165]، وقال تعالى في أهل النار: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } [الزخرف: 76]، وقال تعالى: { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [الزمر: 56 - 59]، وهذا كثير في القرآن. الخامسة: قال ابن القيم: اختلف في قوله تعالى: { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [124]: { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى } [125] هل هو من عمى البصيرة أو من عمى البصر؟ والذين قالوا هو من عمى البصيرة، إنما حملهم على ذلك قوله تعالى: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [38]، وقوله: { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [قّ: 22]، وقوله: { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ } [الفرقان: 22]، وقوله: { لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ } [التكاثر: 6 - 7]، ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية في الآخرة لقوله: { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ } [الشورى: 45]، وقوله: { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ } [الطور: 13 - 15]، وقوله: { وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا } [الكهف: 53]. والذين رجحوا أنه من عمى البصر، قالوا: السياق يدل عليه لقوله: { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً } وهو لم يكن بصيراً في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق. فكيف يقول: { وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً } وكيف يجاب بقوله: { كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا }؟ بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمي البصر وأنه جوزي من جنس عمله. فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته، أعمى الله به بصره يوم القيامة، وتركه في العذاب، كما ترك الذكر في الدنيا، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة. وعلى تركه ذكره، تركه في العذاب. وقال تعالى: { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } [الإسراء: 97]، وقد قيل في هذه الآي أيضاً: إنهم عمي وبكم وصم عن الهدى. كما قيل في هذه الآية قوله: { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [124]، قالوا لأنهم يتكلمون يومئذٍ ويسمعون ويبصرون. ومن نَصَرَ أنه العمى والبكم والصمم، المضادّ للبصر والسمع والنطق، قال: هو عمي وصمم وبكم مقيد لا مطلق. فهو عمي عن رؤية ما يسرهم وسماعه. وهذا قد روي عن ابن عباس قال: لا يرون شيئاً يسرهم. وقال آخرون: هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة، يخرجون من الدنيا كذلك. فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك. ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد. وهذا مروي عن الحسن. وقال آخرون: هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها، سلبوا الأسماع والأبصار والنطق، حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى: { اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون: 108]، فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم فَيُبْصَرُونَ بأجمعهم، عمياً بكماً صمّاً، لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون. ولا يسمع فيها بعدها إلا الزفير والشهيق. وهذا منقول عن مقاتل. والذين قالوا: المراد به العمي عن الحجة، إنما مرادهم أنهم لا حجة لهم، ولم يريدوا أن لهم حُجَّةً، هم عُمْيٌ عنها، بل هم عُمْيٌ عن الهدى كما كانوا في الدنيا. فإن العبد يموت على ما عاش عليه. ويبعث على ما مات عليه. وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر، وأنه عمي البصر. وأن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عياناً، ويقرّ بما كان يجحد في الدنيا. فليس هو أعمى عن الحق يومئذ. وفصل الخطاب؛ أن الحشر هو الضم والجمع. ويراد به تارة الحشر إلى موقف القيامة، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم < إنكم="" محشورون="" إليّ="" حفاة="" عُراة=""> وكقوله تعالى: { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [التكوير: 5]، وكقوله تعالى: { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [الكهف: 47]، ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر. فحشر المتقين جمعهم وضمهم إلى الجنة. وحشر الكافرين جمعهم وضمهم إلى النار. لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا: { يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [الصافات: 20 - 21]، ثم قال تعالى: { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } [الصافات: 22]، الآية وهذا الحشر الثاني، وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف والحشر الثاني. يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون، وعند الحشر الثاني يحشرون على وجوههم عمياً وبكماً وصماً. ولكل موقف حال يليق به، ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته. فالقرآن يصدق بعضه بعضاً: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء: 82]. انتهى. السادسة: قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } أي: لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك، تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها. كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك: { فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } [الأعراف: 51]، فإن الجزاء من جنس العمل. فالنسيان مجاز عن الترك. قال ابن كثير: فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه، والقيام بمقتضاه، فليس دخلاً في هذا الوعيد الخاص. وإن كان متوعداً عليه من جهة أخرى. فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك. روى الإمام أحمد عن سعد بن عُبَاْدَة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: < ما="" من="" رجل="" قرأ="" القرآن="" فنسيه،="" إلا="" لقي="" الله="" يوم="" يلقاه،="" وهو="" أجذم="">؛. السابعة: قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ } الآية، أي: وهكذا نجزي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة. وعذاب الآخرة أشد وأبقى، من ضنك العيش في الدنيا. لكونه دائماً. ثم أشار تعالى إلى تقرير ما تقدم من لحوق العذاب، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى } [128]. { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } أي: لهؤلاء المكذبين: { كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ } أي: الأمم المكذبة للرسل: { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } يريد قريشاً، أي: يتقلّبون في بلاد عاد وثمود ولوط ويعاينون آثار هلاكهم، وأن ليس لهم باقية ولا عين ولا أثر: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى } أي: العقول السليمة. كما قال تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج: 46]، وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً } [129]. { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً } بيان لحكمة تأخير عذابهم مع إشعار قوله: { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } الآية، بإهلاكهم مثل هلاك أولئك والكلمة السابقة، قال القاشانيّ: هو القضاء السابق أن لا يستأصل هذه الأمة بالدمار والعذاب في الدنيا، لكون نبيّهم نبيّ الرحمة. وقوله سبحانه: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } [الأنفال: 33]. وقال الزمخشري: الكلمة السابقة هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة. يقول: لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عاداً وثموداً لازماً لهؤلاء الكفرة. واللزام إما مصدر لازم كالخصام، وصف به مبالغة. أو اسم آلة لأنها تبنى عليه كحزام وركاب، واسمُ الآلة يوصف به مبالغة أيضاً، كقولهم: مِسْعَرُ حَرْبٍ، ولِزَاز خَصْمٍ بمعنى مُلَحّ علَى خَصمه. من لَزَّ بمعنى ضيق عليه. وجوز أبو البقاء فيه كونه جمع لازم. كقيام جمع قائم. وقوله تعالى: { وَأَجَلٌ مُسَمّىً } عطف على كلمة , أي: ولولا أجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم، وهو يوم القيامة أو يوم بدر، لما تأخر عذابهم أصلاً. قال أبو السعود: وفصله عما عطف عليه، للإشعار باستقلال كل منهما، بنفي لزوم العذاب ومراعاة فواصل الآية الكريمة. وقد جوز عطفه على المستكن في كان العائد إلى الأخذ العاجل، المفهوم من السياق، تنزيلاً للفصل بالخبر منزلة التأكيد. لكان الأخذ العاجل، وأجل مسمى لازمين لهم، كدأب عاد وثمود وأضرابهم. ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى } [130]. { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى } أي: إذا كان تأخير عذابهم ليس بإهمال بل إمهاْل، فاصبر على ما يقولون من كلمات الكفر، فالفاء سببية. والمراد بالصبر عدم الاضطراب لما صدر منهم، لا ترك القتال حتى تكون الآية منسوخة. وفي التسبيح المأمور به وجهان: الأول: أنه التنزيه. والمعنى: ونزه ربك عن الشرك وسائر ما يضيفون إليه من النقائض، حامداً على ما ميّزَك بالهدى، معترفاً بأنه المولى للنعم كلها. ومن صيغه المأثورة: سبحان الله وبحمده. وعليه فسرُّ تخصيص هذه الأوقات الإشارة إلى الدوام، مع أن لبعض الأوقات مزية يفضل بها غيرها. الثاني: أنه الصلاة وهو الأقرب لآية: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } [البقرة: 45]، والآيات يفسر بعضها بعضاً. والمعنى: صلَّ وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه، قبل طلوع الشمس، يعني صلاة الفجر. وقبل غروبها، يعني صلاة الظهر والعصر، لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار، بين زوال الشمس وغروبها: { وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ } أي: من ساعاته، يعني المغرب والعشاء. وإنما قدم الوقت فيهما، لاختصاصهما بمزيد الفضل. وذلك لأن أفضل الذكر ما كان بالليل لاجتماع القلب وهدوءِ الرَّجْلِ والخلوِّ بالرب تعالى. ولأن الليل وقت السكون والراحة، فإذا صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق، وللبدن أتعب وأنصب، فكانت أفضل عند الله وأقرب. قوله تعالى: { وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } تكرير لصلاة الفجر والمغرب، إيذاناً باختصاصهما بمزيد مزية. ومجيئه بلفظ الجمع لأمن الإلباس، والمرجح مشاكلته لـ: { آنَاءِ اللَّيْلِ } أو أمر بصلاة الظهر. فإنه نهاية النصف الأول من النهار، وبداية النصف الأخير. وجمعه باعتبار النصفين. أو لأن النهار جنس فيشمل كل نهار، أو أمر بالتطوع في أجزاء النهار. وقال الرازي: إنما أمر، عقيب الصبر، بالتسبيح، لأن ذكر الله تعالى يفيد السلوة والراحة. إذ لا راحة للمؤمنين دون لقاء الله تعالى. قلت: وقد أشير إلى حكمة الأمر بالصبر والتسبيح بقوله تعالى: { لَعَلَّكَ تَرْضَى } أي: رجاء أن تنال ما به ترضى نفسك، من رفع ذكرك. ونقهرك على عدوك وبلوغ أمنيتك من ظهور توحيد ربك وهذا كقوله تعالى: { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً } [الإسراء: 79]، وقوله تعالى: { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } [الضحى: 5]. ثم أشار تعالى إلى أن ما متع به الكفار من الزخارف، إنما هو فتنة لهم فلا ينبغي الرغبة فيه، وإن ما أويته أجلّ وأسمى، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [131]. { وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ } أي: أصنافاً من الكفرة: { زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي زينتها. منصوب على البدلية من: { أَزْوَاجاً } أو بـ: { مَتّعْنَا } على تضمينه معنى: أعطينا وخولنا: { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي: لنختبرهم فيما متعناهم به من ذلك ونبتليهم. فإن ذلك فانٍ وزائل وغرور وخدع تضمحل. قال أبو السعود: { لِنَفْتِنَهُمْ } متعلق بـ: { مَتَّعْنَا } جيء به للتنفير عنه ببيان سوء عاقبته مآلاً، إثر إظهار بهجته حالاً. أي: لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم فيه. أو لنعذبهم في الآخرة بسببه: { وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي: ثوابه الأخرويّ خير في نفسه مما متعوا به وأدوم، كقوله تعالى: { ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } [القصص: 80]، أو المعنى ما أوتيت من النبوة والهدى، خير مما فتنوا به وأبقى، لأنه لا مناسبة بين الهدى الذي تتبعه السعادة في الدارين، وبين زهرة يتمتع بها مدة ثم تذبل وتفنى. وفي التعبير بالزهرة إشارة لسرعة الاضمحلال، فإن أجلها قريب. ومن لطائف الآية ما قاله الزمخشريرحمه الله ، ونصه: مد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحساناً للمنظور إليه، وإعجاباً به وتمنياً أن يكون له. كما فعل نظارة قارون حين قالوا: { يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [القصص: 79]، حتى واجههم أولوا العلم و الإيمان بـ: { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } [القصص: 80]. وفيه: أن النظر غير الممدود معفوّ عنه. وذلك مثل نظر من باده الشيء بالنظر ثم غض الطرف. ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع، وإن من أبصر منها شيئاً أحب أن يمد إليه نظره ويملأ منه عينيه، قيل: ولا تمدّن عينيك. أي: لا تفعل ما أنت معتاد له وضارٍ به. ولقد شدد العلماء من أهل التقوى في وجب غض النظر عن أبنية الظلمة، وعدد الفسقة في اللباس و المراكب وغير ذلك، لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة، فالناظر إليها محصل لغرضهم، وكالمغري لهم على اتخاذها. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [132]. { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ } يعني بأهله: أهل بيته أو التابعين له. أي: مرهم بإقامتها لتجذب قلوبهم إلى خشية الله: { وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } أي: على أدائها، لترسخ بالصبر عليها ملكة الثبات على العبادة، والخشوع والمراقبة، التي ينتج عنها كل خير. ثم أشار تعالى إلى أن الأمر بها، إنما هو لفلاح المأمور ومنفعته، ولا يعود على الآمر بها نفع ما, لتعاليه وتنزهه بقوله: { لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ } أي: لا نسألك مالاً. بل نكلفك عملاً ببدنك نؤتيك عليه أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً. ومعنى نحن نرزقك: أي: نحن نعطيك المال ونكسبك ولا نسألكه. قاله ابن جرير. وقال أبو مسلم: المعنى أنه تعالى إنما يريد منه ومنهم العبادة. ولا يريد منه أن يرزقه كما تريد السادة من العبيد الخراج. وهو كقوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } [الذاريات: 56 - 57]، وقال بعض المفسرين: معنى الآية. أقبل مع أهلك على الصلاة واستعينوا بها على خصاصتكم. ولا تهتموا بأمر الرزق والمعيشة، فإن رزقك مكفي من عندنا، ونحن رازقوك. وهذا المعنى لا تدل عليه الآية منطوقاً ولا مفهوماً. وفيه حض على القعود عن الكسب، ومستند للكسالى القانعين بسكنى المساجد عن السعي المأمور به. وقد قال تعالى في وصف المتقين: { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } [النور: 37]، إشارة إلى جمعهم بين الفضيلتين { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً } [البقرة: 201]. وقوله تعالى: { وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } أي: والعاقبة الحسنة من عمل كل عامل، لأهل التقوى والخشية من الله، دون من لا يخاف له عقاباً ولا يرجو له ثواباً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى } [133] { وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ } يعنون ما تعنتوا في اقتراحه مما تقدم، في سورة بني إسرائيل، من قوله تعالى: { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ } [الإسراء: 90 - 91]. وقوله تعالى: { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى } أي: أو لم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب، من أنباء الأمم من قبلهم، التي أهلكناهم لما سألوا الآيات، فكفروا بها لما أتتهم، كيف عجلنا لهم العذاب، وأنزلنا بهم بأسنا بكفرهم بها. يقول: فماذا يؤمنهم إن أتتهم الآية، أن يكون حالهم حال أولئك. هذا ما قاله ابن جرير. وذهب غيره إلى أن المعنى: أو لم يأتهم آية هي أم الآيات وأعظمها، وهي معجزة القرآن المبينة لما في الكتب الأولى من التوراة والإنجيل والزبور. مع أن الآتي بها أّمّيُّ لم يرها ولم يعلم ممن علمها. فنقب منها على الصحيح من أنبائها فصدقه، وعلى الباطل المحرف فَفَنَّدَهُ. وفيه إشعار بكفاية التنزيل في الإعجاز والبرهان كما قال تعالى في سورة العنكبوت: { وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [العنكبوت: 50 - 51]، ولذلك قال أحد حكماء الإسلام: إن الخارق للعادة الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته إلى التصديق برسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الخارق الذي تواتر خبره ولم ينقطع أثره. وهو الدليل وحده. وما عداه مما ورد في الأخبار، سواء صح سندها أو اشتهر أو ضعف أو وهي، فليس مما يوجب القطع عند المسلمين. فإذا أورد في مقام الاستدلال، فهو على سبيل التقوية للعقد لمن حصل أصله، وفضلٌ من التأكيد لمن سلمه من أهله. ذلك الخارق المتواتر المعول عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين، هو القرآن وحده. والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة، تدل على أن موحيه هو الله وحده وليس من اختراع البشر، هو أنه جاء على لسان أميّ لم يتعلم الكتاب ولم يمارس العلوم، وقد نزل على وتيرة واحدة هادياً للضال مقوماً للمعوج كافلاً بنظام عام لحياة من يهتدي به من الأمم، منقذاً لهم من خسران كانوا فيه. وهلاك كانوا أشرفوا عليه. وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه، حتى لقد دعي الفصحاء والبلغاء، أن يعارضوه بشيء من مثل، فعجزوا ولجأوا إلى المجالدة بالسيوف، وسفك الدماء واضطهاد المؤمنين به، إلى أن ألجاؤهم إلى الدفاع عن حقهم، وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد عالمها بأضوائها، وتنشر أنوارها في جوائها. وهذا الخارق قد دعا الناس إلى النظر فيه بعقولهم. وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم، فإما وجدوا طريقاً لإبطال إعجازه أو كونه لا يصلح دليلاً على المدعي، فعليهم أن يأتوا به، قال تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ } [البقرة: 23]، وقال: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء: 82]، وقال غير ذلك، مما هو مطالبة بمقاومة الحجة بالحجة. ولم يطالبهم بمجرد التسليم على رَغْمٍ من العقل. معجزة القرآن جامع من القول والعلم. وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم. فهي معجزة عرضت على العقل وعرفته القاضي فيها، وأطلقت له حق النظر في أنحائها [في المطبوع: أحنائها]. ونشر ما انطوى في أثنائها. وله منها حظه الذي لا ينتقص. فهي معجزة أعجزت كل طوق أن يأتي بمثلها. ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها. أما معجزة موت حيّ بلا سبب معروف للموت، أو حياة ميت أو إخراج شيطان من جسم، أو شفاء علة من بدن، فهي مما ينقطع عنده العقل ويجمد لديه الفهم. وإنما يأتي بها الله على يد رسله لإسكات أقوام غلبهم الوهم ولم تضئ عقولهم بنور العلم. وهكذا يقيم الله بقدرته من الآيات للأمم على حسب الاستعدادات. وقال فاضل آخر: قضت مراحم الله جلّ شانه أن يكوّن الأكوان في الطبيعة على ترتيب محكم. ينطلق بلسان الصمت للمتبصر، ويظهر بلباس الوضوح للمتفكر، ويحبب إليه الانتقال منه إلى غيره بدون أن يشعر بملل ولا سآمة، ولا يؤوب من استبصاره بندامة، بدون هذا الاعتبار بالعقل، لا يأتي للنفس أن تصح عقيدتها، ولا يتأتى لها تبعاً لذلك أن تسكن من اضطرابها. هذا، ولا ننكر أنه قد مضى على النوع الإنساني زمن كان فيه العقل في دور الطفولية. وكان يكفيه في الإيمان أن يندهش لأمر خارق للطبيعة، يعطل من سير نواميسها وقتاً مّاً. وكان الله سبحانه وتعالى يرأف بعباده فيرسل إليهم رسلاً يمتعهم بخصائص تعجز عن اكتناه سرها عقولهم. وتندهش لها ألبابهم، فيستدلون بهذه المعجزات على صدق الرسول وضرورة اتباعه، وأما الآن، حيث بلغ العقل أشده، والنوع الإنسانيّ رشده، فلا تجدي فيه معجزة، ولا تنفع فيه غريبة. لأن الشكوك قد كثرت مع كثرة الموادّ العلمية. فإن حدث حادث من هذا القبيل رموا فاعله بالتدليس أوّلاً، ثم إذا ظهر لهم براءته منه أخذوا يعللون معجزته بكل أنواع التعليلات. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن طائفة الاسبيريت الروحيين في أوربا تعمل الآن من الأعمال المدهشة الخارقة لنواميس الطبيعة، ما لو رآه الجهلاء لظنوا به أنه من أكبر المعجزات، من أن القوم لا يدَّعون النبوة، ولا يزعمون الرسالة. نعم، لا ننكر أن أعمال هذه الطائفة ليست من نوع معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولكنه بدون شك، يقلل من أهميتها في نظر الذين يقفون مع ظواهر الأشياء. ومما يدل على أن هذه القرون الأخيرة لا تروج فيها مسائل المعجزات، تكذيب علماء أوربا بكل المعجزات السابقة. وهو، وإن كان تهوراً منهم، إلا أنهم مصيبون في قولهم إننا في زمان لا يجدي فيه الاعتقاد إلا النور العقلي والدليل العلمي. لهذه الأسباب جاءت الشريعة الإسلامية تدعو إلى السبيل الحق، ببدائه العقل، وقواعد العلم. صارفة النظر عن المعجزات وإظهار المدهشات. لعلم الله سبحانه وتعالى بأنه سيأتي زمان تؤثر فيه المقررات العلمية على القوة العقلية، ما لا تؤثر عليها الخوارق للنواميس الطبيعية. انتهى. ثم أشار تعالى إلى منته في إرسال الرسول صلوات الله عليه، والإعذار ببعثته، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى } [134 - 135]. { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ } أي: من قبل إتيان البينة، أو محمد عليه السلام: { لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ } أي: بالعذاب الدنيويّ: { وَنَخْزَى } أي: بالعذاب الأخرويّ. أي: ولكنا لم نهلكهم قبل إتيانها. فانقطعت معذرتهم. فعند ذلك، قالوا: بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا: ما نزل الله من شيء: { قُلْ } أي: لأولئك الكفرة المتمردين: { كُلٌّ } أي: منا ومنكم: { مُتَرَبِّصٌ } أي: منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم: { فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ } أي: عن قرب: { مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ } أي: المستقيم: { وَمَنِ اهْتَدَى } أي: من الزيغ والضلالة. أي: هل هو النبي وأتباعه، أم هم وأتباعهم. وقد حقّق الله وعده. ونصر عبده. وأعز جنده. وهزم الأحزاب وحده. فله الحمد في الأولى والآخرة. (/) سورة طه بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى: { طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى } [1 - 3]. { طه } قدمنا أن الحق في هذه الحروف التي افتتحت بها سورها، أنها أسماء لها. وفيه إشارة إلى أنها مؤلفة منها. ومع ذلك ففي عجزهم عن محاكاتها أبلغ آية على صدقها. ونبه الإمام ابن القيمرحمه الله على نكتة أخرى في " الكافية الشافية " بقوله: ~وانظر إلى السور التي افتتحت بأحْ رفها ترى سرّاً عظيم الشان ~لم يأت قط بسورة إلا أتى في إثرها خبر عن القرآن ~إذ كان إخباراً به عنها. وفي هذا الشفاءُ لطالب الإيمان ~ويدل أن كلامه هو نفسها لا غيرها، والحق ذو تبيان ~فانظر إلى مبدا الكتاب وبعدها الـ أعراف ثم كذا إلى لقمان ~مع تلوها أيضاً ومع حَمَ مع يسَ وافهم مقتضى الفرقان { مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى } أي: لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا والشقاء في معنى التعب. ومنه المثل: أشقى من رائض مهر. وقوله تعالى: { إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى } أي: تذكيراً له. أي: { مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ } لتتعب بتبليغه، ولكن تذكرة لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار. والقصد أنه ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة. وقد جرت السنة الإلهية في خطاب الرسول في مواضع من التنزيل، أن ينهاه عن الحزن عليهم وضيق الصدر بهم، كقوله تعالى: { فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } [الأعراف: 2]، { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ } [الكهف: 6]، { وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر } [آل عِمْرَان: 176]، وهذه الآية من هذا الباب أيضاً. وفي ذلك كله من تكريم الرسول صلوات الله عليه، وحسن العناية به والرأفة، ما لا يخفى. ثم أشار إلى تضخيم شأن هذا المنزل الكريم، لنسبته إلى المتفرد بصفاته وأفعاله، بقوله: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [4 - 5]. { تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى الرَّحْمَنُ } قرئ بالرفع على المدح. أي: هو الرحمن. وبالجر على أنه صفة للموصول. وقوله: { عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } أي: علا وارتفع. قاله ابن جرير. وقد ذهب الخلف إلى جعل ذلك مجازاً عن الملك والسلطان. كقولهم: استوى فلان على سرير الملك , وإن لم يقعد على السرير أصلاً. وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته أيضاً. قال ابن كثير: والمسلك الأسلم في ذلك طريقة السلف، من إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنة، من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل. وقد أسلفنا ما حققته أئمة الفلك الحديث؛ من أن العرش جرم حقيقيّ موجود وأنه مركز العوالم كلها. أي: مركز الجذب والتدبير والتأثير والنظام. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } [6]. { لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى }. بيان لشمول قهره وملكته للكل. أي: كلها تحت ملكته وقهره وسلطنته وتأثيره. لا توجد ولا تتحرك ولا تسكن ولا تتغير ولا تثبت إلا بأمره. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } [7]. { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى }. بيان لكمال لطفه. أي: علمه نافذ في الكل. يعلم ظواهرها وبواطنها والسر وسر السر. فكذلك إن تجهر وإن تخفت، فيعلمه بجهر وخفت. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } [8]. { اللَّهُ } أي: ذلك المُنْزل الموصوف بهذه الصفات هو الله: { لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } أي: الفضلى، لدلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والأفعال التي هي النهاية في الحسن. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً } [9 - 10]. { وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى } من عطف القصة أو استئناف. والقصد تقرير أمر التوحيد الذي انتهى إليه الآية قبله، ببيان أنه دعوى كل نبيّ لا سيما أشهرهم نبأ، وهو موسى عليه السلام. فقد خوطب بقوله تعالى: { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا } [14] وبه ختم تعالى نبأه في هذه السورة بقوله: { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } [98]، أو تقرير لسعة علمه المبين في قوله تعالى: { وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ } [7] الخ لقوله بعدُ: { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [98]، أولهما معاً. أو لحمله، صلوات الله عليه، على التأسي بموسى في الصبر والثبات. لكونه ابتلي بأَعظم من هذا فصبر، وكانت العاقبة له. وقد أشير في طليعة نبأ موسى عليه السلام، إلى كيفية ابتداء الوحي إليه، وتكليمه تعالى إياه. وذلك بعد أن قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم. وصار بأهله قاصداً بلاد مصر، بعد ما طالت غيبته عنها ومعه زوجته. فأضلّ الطريق. وكانت ليلة شاتية، ونزل منزلاً بين شعاب وجبال في برد وشتاء. وبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور ناراً، كما قصه تعالى بقوله: { إِذْ رَأى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً } أي: أبصرتها إبصاراً بيّناً لا شبهة فيه: { لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ } أي: بشعلة مقتبسة تصطلون بها: { أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً } أي: هادياً يدلني على الطريق. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً } [11 - 12]. { فَلَمَّا أَتَاهَا } أي: النار: { نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً } أي فيجب فيه رعاية الأدب، بتعظيمه واحترامه لتجلي الحق فيه، كما يراعى أدب القيام عند الملوك وطُوىً: اسم للوادي. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } [13 - 15]. { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ } أي: اصطفيتك للنبوة: { فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } أي: للذي يوحي. أو للوحي. ثم بينه بقوله: { إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي } أي: خصني بالعبادة: { وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي } أي: لتذكرني فيها بقلبك ولسانك وسائر جوارحك، بأن تجعل حركاتها دالة على ما في القلب واللسان. قال أبو السعود: خصت الصلاة بالذكر وأفردت بالأمر بالعبادة، لفضلها وإنافتها على سائر العبادات، بما نيطت به من ذكر المعبود وشغل القلب واللسان بذكره. وذلك قوله تعالى: { لِذِكْرِي } أي: لتذكرني. فإن ذكري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة. أو لتذكرني فيها لاشتمالها على الأذكار. أو لذكري خاصة لا تشوبه بذكر غيري. أو لإخلاص ذكري وابتغاء وجهي. لا ترائي بها، ولا تقصد بها غرضاً آخر. أو لتكون ذاكراً لي غير ناس. انتهى ثم أشار إلى وجوب إفراده بالعبادة وإقامة الصلاة لذكره. بقوله: { إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ } أي: واقعة لا محالة: { أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى } أي: بسعيها عن اختيار منها. واللام متعلقة بآتية. ولما كان خفاء الساعة من اليقينيات وفي كاد معنى القرب من ذلك، لعدم وضعها للجزم بالفعل، تأولوا الآية على وجوه: أحدها: أن كَادَ منه تعالى واجب. والمعنى أنا أخفيها عن الخلق. كقوله: { عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً } [الإسراء: 51 )، أي: هو قريب. ثانيها: قال أبو مسلم: أَكَادُ بمعنى أريد كقوله: { كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } [يوسف: 76]. ومن أمثالهم المتداولة: لا أفعل ذلك ولا أكاد , أي: ولا أريد أن أفعله. قال الشهاب: تفسير أَكَادُ بأريد هو أحد معانيها. كما نقله ابن جني في " المحتسب " عن الأخفش. واستدلوا عليه بقوله. ~كادتْ وكدتُ وتلك خيرُ إرادةٍٍ لو عاد من لَهْوِ الصِّبابِة مَا مَضَى بمعنى أرادت. لقوله: تلك خير إرادة. ثالثها: أن أَكَادُ صلة في الكلام. قال زيد الخيل. ~سريعٌ إِلى الهيجاء شاكٍ سلاحُهُ فما إِنْ يَكَادُ قِرْنُهُ يَتَنَفَّسُ رابعها: أن المعنى أكاد أخفيها فلا أذكرها إِجمالاً ولا أقول هي آتية. وذلك لفرط إرادته تعالى إخفاءها. إلا أن في إِجمال ذكرها حكمة، وهي اللطف بالمؤمنين، لحثهم على الأعمال الصالحة، وقطع أعذار غيرهم حتى لا يعتذروا بعدم العلم. وثمة وجوه أخر لا تخلو من تكلف، وإن اتسع اللفظ لها. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى } [16]. { فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا } أي: عن تصديق الساعة: { مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ } أي: ما تهواه نفسه من الشهوات وترك النظر والاستدلال: { فَتَرْدَى } أي: فتهلك. قال الزمخشري: يعني أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجم الغفير. إذ لا شيء أطمّ على الكفرة، ولا هم أشد له نكيراً من البعث. فلا يهولنّك وفور دهمائهم, ولا عظم سوادهم. ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك. واعلم أنهم، وإن كثروا تلك الكثرة، فقدوتهم فيما هم فيه هو الهوى واتباعه. لا البرهان وتدابره. وفي هذا حث عظيم على العلم بالدليل، وزجر بليغ عن التقليد، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } [17 - 18]. { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى } شروع فيما سيؤتيه تعالى من البرهان الباهر. وفي الاستفهام إيقاظ له وتنبيه على ما سيبدو له من عجائب الصنع: { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } أي: أعتمد عليها إذا أعييت أو وقفتُ على رأس القطيع وعند الطفرة: { وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي } أي: أخبط بها الورق وأسقطه عليها لتأكله: { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى } أي: حاجات أخر. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى } [19 - 21]. { قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى } أي: هيئتها الأولى فتنتفع بها كما كنت تنتفع من قبل. أي: ليس القصد تخويفك، بل إظهار ما فيها من استعداد قبول الحياة، ومشاهدة معجزة وبرهان لك. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى } [22 - 23]. { وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ } أي: إبطك: { تَخْرُجْ بَيْضَاءَ } أي: نيَّرة: { مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } أي: قبيح وعيب كبياض البرص مما ينفر عنه. واعتمد الزمخشري؛ أن قوله تعالى: { مِنْ غَيْرِ سُوءٍ } كناية عن البرص. كما كني عن العورة بالسوأة، قال: والبرص أبغض شيء إلى العرب، وبهم عنه نفرة عظيمة. وأسماعهم لاسمه مجّاجة. فكان جديراً بأن يكنى عنه. ولا ترى أحسن ولا ألطف ولا أحرّ للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه. انتهى { آيَةً أُخْرَى } أي: معجزة أخرى غير العصا: { لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى } متعلق بمضمر ينساق إليه النظم الكريم. أي: أريناك ما أريناك الآن، مع أن حقهما أن يظهرا بعد التحدي والمناظرة، لنريك أولاً بعض آياتنا الكبرى، فيقوى قلبك على مناظرة الطغاة. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى } [24]. { اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ } تخلص إلى ما هو المقصود من تمهيد المقدمات السالفة. فُصِل عما قبله من الأوامر إِيذاناً بأصالته. أي: اذهب إليه بما رأيتَه من الآيات الكبرى، وادعه إلى عبادتي وحذره نقمتي. أفاده أبو السعود. وقوله تعالى: { إِنَّهُ طَغَى } أي: جاوز الحد في التكبّر والعتوّ، حتى تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية. فلا بد من تنبيهه على طغيانه بالدلائل العقلية، التي صدقتها المعجزات. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي } [25 - 28]. { قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي } إنما سأل ذلك، لما كان يتخوفه من آل فرعون في القتيل. ولما بعث به من صدع جبار عنيد، أطغى الملوك وأبلغهم تمرداً وكفراً، مما يحوج إلى عناية ربانية. وسأل أن يُمَدّ بمنطق فصيح، لما في لسانه من عقدة كانت بمنعه من كثير من الكلام كما قال: { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } [القصص: 34]، وقول فرعون: { وَلا يَكَادُ يُبِينُ } [الزخرف: 52]، ثم سأل عليه السلام ربه أن يعينه بأخيه هارون، ليكون له رِدْءاً، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، بقوله: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي } [29 - 31]. { وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي } أي: قَوِّ به ظهري. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً } [32 - 35]. { وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً } أي: كي نتعاون على تسبيحك وذكرك. لأن التعاون - لأنه مهيج الرغبات - يتزايد به الخير ويتكاثر: { إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً } أي: عالماً بأحوالنا، وبأن المدعوّ به مما يفيدنا. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى } [36 - 37]. { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى } أي: أجيب دعاؤك. وقوله تعالى: { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى } كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله، وزيادة توطين نفس موسى عليه السلام بالقبول، ببيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعم التامة من غير سابقة دعاء منه وطلب، فَلأَنْ ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداعٍ، أولى وأحرى. وتصديره بالقسم، لكمال الاعتناء بذلك. أفاده أبو السعود. وقوله تعالى: { مَرَّةً أُخْرَى } أي: في وقت آخر. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [38 - 39]. { إِذْ أَوْحَيْنَا } أي: ألقينا بطريق الإلهام: { إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ } أي: الصندوق: { فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ } أي: البحر، متوكلةً على خالقه: { فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي } لدعواه الألوهية: { وَعَدُوٌّ لَهُ } لدعوته إلى نبذ ما يدعيه. قال الزمخشريّ: لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته - أن لا تخطئ جرية اليم، الوصولَ به إلى الساحل، وإلقاءه إليه - سلك في ذلك سبيل المجاز وجعل اليم كأنه ذو تمييز أُمر بذلك، ليطيع الأمر ويمتثل رسمه. فقيل: { فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ } أي: على سبيل الاستعارة بالكناية. بتشبيه اليم بمأمور منقاد. وإثبات الأمر تخييل، وقوله تعالى: { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي } أي: واقعة مني، زرعتها في قلب من يراك. ولذلك أحبك فرعون: { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } أي: ولتربَّى بيد العدوّ على نظري بالحفظ والعناية. فعلى عيني استعارة تمثيلية للحفظ والصون، لأن المصون يجعل بمرأى. قيل: وعلى بمعنى الباء لأنه بمعنى بمرأى مني، في الأصل. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } [40]. { إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ } أي: يضمن حضانته ورضاعته. فقبلوا قولها. وذلك لأنه لما استقر عند آل فرعون، عرضوا عليه المراضع فأباها كما قال تعالى: { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ } [القصص: 12]، فجاءت أخته فقالت: { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } [القصص: 12]، فجاءت بأمه كما قال: { فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ } أي: مع كونك بيد العدوّ: { كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } أي: برؤيتك: { وَلا تَحْزَنَ } أي: بفراقك. فهذه منن زائدة على النجاة من القتل. ثم أشار إلى ما منّ عليه بالنجاة من القتل الذي لا يدفع بتلبيس، بقوله: { وَقَتَلْتَ نَفْساً } أي: من آل فرعون، وهو القبطيّ الذي استغاثه عليه الإسرائيليّ، إذ وكزه موسى فقضى عليه. أي: فاغتممت للقصاص: { فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ } أي: غم القتل بأن صرفنا عنك ما تخشاه. وذلك أنه عليه السلام فرَّ من آل فرعون حتى ورد ماء مدين. وقال له ذلك الرجل الصالح: { لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [القصص: 25]، { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } أي: ابتليناك ابتلاءً. على أن الفتون مصدر كالشكور، أو ضروباً من الفتن على أنه جمع فتنة أي: فجعلنا لك فرَجاً ومخرَجاً منها. وهو إجمال لما سبق ذكره. { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ } أي: معزز الجانب مكفيّ المؤونة في عشرة أتقى رجل منهم وأصلحهم، وهو نبيّهم عليه السلام: { ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } أي: بعد أن قضيت الأجل المضروب بينك وبين شعيب من الإجارة ,جئت بأهلك على وفق ما سبق في قضائي وقدري؛ أن أكلمك وأستنبئك في وقت يعينه قد وقَّته لذلك. فما جئت إلا على ذلك القدر، غير مستقدم ولا مستأخر. فالأمر له تعالى. وهو المسيّر عباده وخلقه فيما يشاء. قال أبو السعود: وقوله تعالى: { يَا مُوسَى } تشريف له عليه الصلاة والسلام، وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولاً. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي } [41 - 42]. { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } تذكير لقوله تعالى: { وَأَنَا اخْتَرْتُكَ } وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيداً بأخيه والاصطناع افتعال من الصنع بمعنى الصنيعة. يقال: اصطنع الأمير فلاناً لنفسه، أي: جعله محلاًّ لإكرامه باختيار وتقريبه منه، بجعله من خواص نفسه وندمائه، فاستعير استعارة تمثيلية من ذلك المعنى المشبه به إلى المشبه. وهو جعله نبيّاً مكرماً كليماً منعماً عليه بجلائل النعم. قال أبو السعود: والعدول عن نون الواقعة في قوله تعالى: { وَفَتَنَّاكَ } ونظيريه السابقين، تمهيد لإفراد لفظ النفس اللائق بالمقام، فإنه أدخل في تحقيق معنى الاصطناع والاستخلاص. ثم بين ما هو المقصود بالاصطناع بقوله سبحانه: { اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي } أي: بمعجزاتي. كالعصا وبياض اليد وحل العقدة، مع ما استظهره على يده: { وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي } أي: لا تَفْتُرَا ولا تقصّرا في ذكري بما يليق بي من النعوت الجليلة، عند تبليغ رسالتي والدعاء إليّ. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } [43 - 44]. { اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } أي: عقابي. فإن تليين القول مما يكسر سورة عناد العتاة، ويلين عريكة الطغاة. وقد بيّن ذلك في قوله تعالى: { فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى } [النازعات: 18 - 19]، وبمثل ذلك أمر نبينا صلوات الله عليه في قوله: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [النحل: 125]، وظاهر أن الرجاء في لعله إنَما هو منهما، لا من الله. فإنه لا يصح منه. ولذا قال القاضي: أي: باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما أنه يثمر ولا نخيب سعيكما. فإن الراجي، مجتهد والآيس متكلف. والفائدة في إرسالها والمبالغة عليهما في الاجتهاد - مع علمه بأنه لا يؤمن - إلزام الحجة، وقطع المعذرة، وإظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى } [45 - 46]. { قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا } أي: يبادرنا بالعقوبة: { أَوْ أَنْ يَطْغَى } أي: يزداد طغياناً بالعناد، في دفع حججنا، ثم يأمر بقتلنا، أو بالتخطي إلى أن يقول في شأنك ما لا ينبغي، لجرأته وقسوة قلبه. واقتصر على الثاني الزمخشري. وأفاد أن في المجيء به هكذا على الإطلاق، وعلى سبيل الرمز، باباً من حسن الأدب، وتحاشياً عن التفوه بالعظيمة: { قَالَ لا تَخَافَا } أي: من فرطه وطغيانه: { إِنَّنِي مَعَكُمَا } أي: بالحفظ والنصرة: { أَسْمَعُ وَأَرَى } أي: ما يجري بينكما وبينه. فأرعاكما بالحفظ. فالمفعول محذوف للقرينة، أو نزل منزلة اللازم تتميماً لما يستقل به الحفظ. كأنه قيل: أنا حافظ لكما وناصر، سامع وبصير. وإذا كان الحافظ كذلك، تمَّ الحفظ والتأييد، وذهبت المبالاة بالعدوّ. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } [47]. { فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرائيلَ } أي: بإطلاقهم من الأسر والعبودية. وتسريحهم معنا إلى وطننا فلسطين: { وَلا تُعَذِّبْهُمْ } أي: بإبقائهم على ما هم عليه من التسخير والتذليل في الأمور الشاقة: { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ } أي: تحقق رسالتي إليك منه تعالى بذلك: { وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى } أي: فصدق بآيات الله المبينة للحق. وفيه من ترغيبه في اتباعهما، على ألطف وجه، ما لا يَخْفَى. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى } [48]. { إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا } أي: من ربنا: { أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ } أي: بآياته تعالى: { وَتَوَلَّى } أي: أعرض عنها. وفيه من التلطيف في الوعيد، حيث لم يصرح بحلول العذاب به، ما لا مزيد عليه. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } [49 - 50]. { قَالَ } أي: فرعون: { فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } أي: منح كل شيء من الأنفس البشرية، صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، فسواه بها وعدّله، ثم هداه بأن وهبه العقل الذي يميز بين الخير والشر. وهذه الآية في معناها كآية: { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس: 7 - 8]، وآية: { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ } [البلد: 10]. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } [51 - 52]. { قَالَ } أي: فرعون: { فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } أي: ما حال القرون السالفة وما جرى عليهم؟ وهذا السؤال إما لصرف موسى عليه السلام عما يدعوه إليه أمام ملئه، وإشغاله بما لا يعني ما أرسل به، وإما لتوهم أن الرسول يعلم الغيب، فأراد أن يقف على نبأ ما مضى، ويفتح باباً للتخطئة والتكذيب، بالعناد واللجاج. فأجابه موسى عليه السلام بأن هذا سؤال عن الغيب وقد استأثر الله به. فلا يعلمه إلا هو. وليس من وظيفة الرسالة. وإنما علمها مكتوب في اللوح المحفوظ، محصى غير منسي. ويجوز أن يكون: { فِي كِتَابٍ } تمثيلاً لتمكنه وتقريره في علم الله عزَّ وجلَّ، بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة. قال في العناية: فيشبه علمه تعالى بها علماً ثابتاً لا يتغير، بمن علم شيئاً وكتبه في جريدته، حتى لا يذهب أصلاً، فيكون قوله: { لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } ترشيحاً للتمثيل، واحتراساً أيضاً. لأن من يفعل ذلك إنما يفعله لخوف النسيان. والله تعالى منزه عنه. فالكتاب على هذا بمعناه اللغويّ. وهو الدفتر، لا اللوح المحفوظ. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } [53]. { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً } أي: فراشاً: { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } أي: أصنافاً من نبات مختلفة الأجناس، في الطعم والرائحة والشكل والنفع. لطيفة: جعل الزمخشري قوله تعالى: { فَأَخْرَجْنَا } من باب الالتفات. وناقشه الناصر؛ بأن الالتفات إنما يكون في كلام المتكلم الواحد. يصرّف كلامه على وجوه شتى. وما نحن فيه ليس كذلك. فإن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون: { عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى } ثم قوله: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً } إلى قوله: { فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } فإما أن يجعل من قول موسى، فيكون باب قول خواص الملك: أمرنا وعمرنا وإنما يريدون الملك، وليس هذا بالتفات. وإما أن يكون كلام موسى قد انتهى عند قوله: { وَلا يَنْسَى } ثم ابتدأ الله تعالى وصف ذاته بصفات إنعامه على خلقه، فليس التفاتاً أيضاً. وإنما هو انتقال من حكاية إلى إنشاء خطاب. وعلى هذا التأويل ينبغي للقارئ أن يقف وُقَيْفَة عند قوله: { وَلا يَنْسَى } ليستقر بانتهاء الحكاية. ويحتمل وجهاً آخر وهو؛ أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفات على لفظ الغيبة. فقال: { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى } فلما حكاه الله تعالى عنه , أسند الضمير إلى ذاته. لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى. فمرجع الضميرين واحد. وهذا الوجه وجه حسن رقيق الحاشية. وهذا أقرب الوجوه إلى الالتفات. لكن الزمخشري لم يعنه. والله أعلم. انتهى كلام الناصر. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } [54 - 55]. { كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } حال من ضمير فَأَخْرَجْنَا على إرادة القول: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى مِنْهَا } أي: من الأرض: { خَلَقْنَاكُمْ } أي: خلقنا أصلكم وهو آدم. أو خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة عن الأغذية، والمتولدة من الأرض بوسائط: { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } أي: بالإماتة إعادة البذر إلى الأرض: { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى } أي: بردّهم كما كانوا، أحياء. ثم أشار تعالى إلى عتوّ فرعون وعناده، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً } [56 - 58]. { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا } أي: من العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين: { فَكَذَّبَ وَأَبَى قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوَىً } أي: مستوياً واضحاً يجمعنا. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى } [59 - 60]. { قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِِ } وهو يوم مشتهر عندهم باجتماع الناس فيه: { وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحىً } أي: ضحوة النهار ليكون الأمر مكشوفاً لا سترة فيه: { فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ } أي انصرف عن المجلس: { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } أي: ما يكيد به موسى، من السحرة وأدواتهم: { ثُمَّ أَتَى } أي: الموعد ومعه ما جمعه. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } [61 - 63]. { قَالَ لَهُمْ مُوسَى } أي: مقدماً لهم النصح والإنذار، لينقطع عذرهم: { وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً } أي: لا تخيلوا للناس بأعمالكم، إيجاد أشياء لا حقائق لها، وأنها مخلوقة وليست مخلوقة. فتكونوا قد كذبتم على الله تعالى: { فَيُسْحِتَكُمْ } أي: يستأصلكم: { بِعَذَابٍ } أي: هائل لغضبه عليكم: { وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى قَالُوا } أي: بطريق التناجي والإسرار: { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } أي: بمذهبكم الأفضل. وهو ما كانوا عليه. يعنون أن قصد موسى وهارون هو عزل فرعون عن ملكه، يجعله عبداً لغيره، واستقرارهما في مكانه، وجعل قومهما مكانكم. وإلجائكم إلى مبارحة أرضكم، وإبطال طريقتكم بسحرهما الذي يريدان إعجازكم به. و: { الْمُثْلَى } تأنيث الأمثل، بمعنى الأفضل. ودعواهم ذلك، لأن كل حزب بما لديهم فرحون. لطيفة: في قوله تعالى: { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } قراءات: الأولى: { إِنَّ هَذَيْنِ لَسَاحِرَانِ } بتشديد النون من إِنَّ وهَذَيْنِ بالياء وهي قراءة أبي عَمْرو، وهي جارية على السَّنَنِِ المشهور في عمل إِنَّ. الثانية: { إنِْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } بتحفيف إِنَّ وإهمالها عن العمل، كما هو الأكثر فيها إذا خففت. وما بعدها مرفوع بالابتداء والخبر. واللام لام الابتداء فرقاً بينها وبين النافية. ويرى الكوفيون أن اللام هذه بمعنى إِلاّ وإِنْ قبلها نافية، واستدلوا على مجيء اللام للاستثناء بقوله: ~أمس أبانُ ذليلاً بعد عِزَّتِهِ وما أبانُ لَمِنْ أعلاج سُودَانِ والثالثة: { إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } بتشديد إِنَّ وهذان بالألف. وخرّجت على أوجه: أحدها: موافقة لغة من يأتي في المثنى بالألف في أحواله الثلاث. وهم بنو الحارث بن كعب وخثعم وَزُبَيْد وكنانة وآخرون. قال قائلهم: ~تَزَوَّدَ مِنَّا بين أُذْنَاهُ طَعْنَةً وقال آخر: ~إنَّ أَبَاهَا وَأَبَا أَبَاهَا قد بلَغَا فِي الْمَجْدِ غَايَتَاهَا وثانيها: إِنَّ إِنَّ بمعنى نعم حكاه المبرد. واستدل بقول الراجز: ~يا عمر الخيرِ جُزِيتَ الجَنَّهْ اكسُ بُنَيَّانِي وَأُمَّهُنَّهْ ~وَقُلْ لَهُنَّ: إِنَّ أَنَّ إِنَّهْ أُقْسِمُ باللهِ لَتَفْعَلَنَّهْ وقول عبد الله بن قيس الرُّقَيَّات: ~ويَقُلْنَ شيب قد علا ك وقد كَبرْتَ فقلتُ إِنَّهُ وردَّ على المبرد أبو علي الفارسي، بأنه لم يتقدم ما يجاب بنعم وأجاب الشمنّي، بأن التنازع فيما بينهم، وإسرار النجوى، يتضمن استخبار بعضهم من بعض. فهو جواب للاستخبار الضمنيّ. ولا يخفى بعده. فإن إسرار النجوى فيما بينهم ليس في الاستخبار عن كونهما ساحرين، بل هم جزموا بالسحر فقالوا: { أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ } [57]، ثم أسروا النجوى فيما يغلبان به موسى. إلا أن يقال: محطّ الجواب قوله: { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ } الخ، وما قبله توطئة. وقد رد في " المغني " هذا التخريج؛ بأن مجيء نعم شاذ حتى نفاه بعضهم. ومنعه الدمامينيّ؛ بأن سيبويه والحذّاق حكوه عن الفصحاء. وعليه، فاللام في: { لَسَاحِرانِ } لام الابتداء، زحلقت للخبر. وأبى البصريون دخولها على الخبر. وزعموا أنها في مثله داخلة على مبتدأ محذوف، أو زائدة، أو دخلت مع إن التي بمعنى نعم لشبهها بالمؤكدة لفظاً. وأقول: فيه تكلف. والشواهد على اقتران الخبر باللام كثيرة. وثالثها: أنه لما كان الإعراب لا يظهر في الواحد، وهو هذا جعل كذلك في التثنية، ليكون المثنى كالمفرد. لأنه فرع عليه. واختار هذا القول الإمام العلامة تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيميةرحمه الله تعالى، وزعم أن بناء المثنى، إذا كان مفرده مبنيّاً، أفصح من إعرابه. قال: وقد تفطن لذلك غير واحد من حذاق النحاة. ثم اعترض بأمرين: أحدهما: أن السبعة أجمعوا عل الياء في قوله تعالى: { إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ } [القصص: 27]، مع أن هاتين تثنية هاتا وهو مبني. والثاني: أن الذي مبني وقد قالوا في تثنيته اللَّذَيْنِ في الجر والنصب. وهي لغة القرآن، كقوله تعالى: { رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا } [فصلت: 29]، وأجاب الأول؛ بأنه إنما جاء هاتين بالياء على لغة الإعراب لمناسبة ابنتيّ قال: فالإعراب هنا أفصح من البناء، لأجل المناسبة. كما أن البناء في: { إِنّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } أفصح من الإعراب لمناسبة الألف في هذان للألف في ساحران. وأجاب عن الثاني بالفرق بين اللذان وهذان بأن اللَّذان تثنية اسم ثلاثي، فهو شبيه بالزيدان وهذان تثنية اسم على حرفين. فهو عريق في البناء لشبهه بالحروف. قالرحمه الله : وقد زعم قوم أن قراءة من قرأ إنّ هذان لحن وإن عثمان رضي الله عنه قال: إن في المصحف لحناً وستقيمه العرب بألسنتها. وهذا خبر باطل لا يصح من وجوه. أحدها: إن الصحابة كانوا يتسارعون إلى إنكار أدنى المنكرات، فكيف يقرّون اللحن في القرآن، مع أنهم لا كلفة عليهم في إزالته؟. والثاني: أن العرب كانت تستقبح اللحن غاية الاستقباح في الكلام , فكيف لا يستقبحون بقاءه في المصحف؟. والثالث: أن الاحتجاج بأن العرب ستقيمه بألسنتها غير مستقيم. لأن المصحف الكريم يقف عليه العربي والعجمي. والرابع: أنه قد ثبت في الصحيح أن زيد بن ثابت أراد أن يكتب التابوت بالهاء على لغة الأنصار، فمنعوه من ذلك ورفعوه إلى عثمان رضي الله عنهم. فأمرهم أن يكتبوه بالتاء على لغة قريش. ولما بلغ عمر رضي الله عنه أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ: عَتَّى حين، على لغة هذيل، أنكر ذلك عليه وقال: أقرئ الناس بلغة قريش. فإن الله تعالى إنما أنزله بلغتهم، ولم ينزله بلغة هذيل. انتهى كلام تقي الدين مخلصاً. هذا حاصل ما في " المغني " و " الشذور " و " حواشيهما " وفي الآية وجوه أخرى استقصتها المطولات. وما ذكرناه أرقها. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } [64]. { فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ } تصريح بالمطلوب، إثر تمهيد المقدمات. والفاء فصيحة. أي إذا كان الأمر كما ذكر، من كونهما ساحرين، يريدان بكم ما ذكر من الإخراج، والإذهاب، فأزمعوا كيدكم واجعلوه مجمعاً عليه، بحيث لا يتخلف عنه واحد منكم. أفاده أبو السعود. وقوله تعالى: { ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً } أي: مصطفين، ليكون أهيب في صدور الرائين: { وَقَدْ أَفْلَحَ } أي: فاز بالإنعامات العظيمة من فرعون وملئه: { الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى } أي: علا وغلب. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } [65 - 66]. { قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ } أي: التي ألقوها: { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } أي: حيّات تسعى على بطونها. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } [67 - 69]. { فَأَوْجَسَ } أي: أحس: { فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى } وذلك لما جُبِلَ عليه الإنسان من النفرة من الحيات. أو خاف من توهم الخلق المعارضة، بأن لهم من حبالهم وعصيهم حيات. كما أن له من عصاه حيَّة: { قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا } أي: تلتقطه بفمها: { إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ } في مقابلة آية ربانية: { وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى } أي: لا يفوز بمطلوبه، أي: مكانٍ جَاءَ لدفع الحق. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } [70 - 71]. { فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً } أي: فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا فأَلْقيَ السَّحَرَةُ سُجَّدَاً، تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر، وإنما هي آية ربانية: { قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى قَالَ } أي فرعون: { آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ } أي: فاتفقتم معه ليكون لكم الملك: { فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ } أي: من جانبين متخالفين: { وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } أي: التي هي أقوى الأخشاب وأخشنها: { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } يعني أنكم إنما آمنتم برب موسى خوفاً من شدة عذابه. أو من تخليده في العذاب: { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى } فإن رب موسى لم يقطع من أحد يده ورجله من خلاف، ولم يصلبه في جذوع النخل، ولم يبقه مصلوباً، قاله المهايميّ. وضعّفه الزمخشري بأن فرعون يريد نفسه وموسى عليه السلام، بدليل قوله: { آمَنْتُمْ لَهُ } أي: لموسى. واللام مع الإيمان، في كتاب الله لغير الله تعالى كقوله تعالى: { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [التوبة: 61] وقصده إظهار اقتداره وبطشه، وما جرى [في المطبوع: ضرى] به من تعذيب الناس بأنواع العذاب. وتوضيع موسى عليه السلام واستضعافه مع الهزء به، لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } [72]. { قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ } أي: نختارك بالإيمان والاتباع: { عَلَى مَا جَاءَنَا } أي: من الله على يد موسى: { مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا } أي: وعلى الذي خلقنا. واختيارُ هذا الوصف للإشعار بعلة الحكم. فإن خالقيته تعالى لهم، وكون فرعون من جملة مخلوقاته، مما يوجب عدم إيثارهم له عليه، سبحانه و تعالى. وهذا جواب منهم لتوبيخ فرعون بقوله: { آمَنْتُمْ لَهُ } وقيل هو قسم محذوف الجواب: { فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ } أي: اصنع ما أنت صانعه. وهذا جواب عن تهديده بقوله: { لَأُقَطِّعَنَّ } الخ: { إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا } أي: فيها وهي لا بقاء لها، ولا سلطان لك بعدها. وإنما البغية الآخرة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [73]. { إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي: ثواباً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَى } [74]. { إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا } أي: فينقضي عذابه: { وَلا يَحْيَى } أي: حياة طيبة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى } [75]. { وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى } أي: المنازل الرفيعة بسبب إيمانهم وعملهم الصالح. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى } [76]. { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى } أي: تطهر من دنس الكفر والمعاصي، بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة. لطائف: من " الكشاف " و " حواشيه للناصر ". الأولى: في تخيير السحرة بين إلقاء موسى وإلقائهم، استعمال أدب حسن معه، وتواضع له وخفض جناح. وتنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم. وكأن الله عزّ وعلا ألهمهم ذلك، وعلم موسى - صلوات الله عليه - اختيار إلقائهم، أوّلاً، مع ما فيه من مقابلة أدب بأدب، حتى يبرزوا ما معهم من مكايد السحر، ويستنفدوا أقصى طرقهم ومجهودهم. فإذا فعلوا أظهر الله سلطانه، وقذف بالحق على الباطل فدمغه، وسلط المعجزة على السحر فمحقته، وكانت آية نيرة للناظرين. وعبرة بينة للمعتبرين. وقبل ذلك تأدبوا معه بقولهم: { فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ } ففوضوا ضرب الموعد إليه، وكما ألهم الله عزَّ وجلَّ موسى ها هنا، أن يجعلهم مبتدئين بما معهم، ليكون إلقاؤه العصا، بعدُ، قذفاً بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، كذلك ألهمه من الأول، أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم، ليكون الحق أبلج على رؤوس الأشهاد، فيكون أفضح لكيدهم وأهتك لستر حرمهم. الثانية: جوز في إِيثار قوله تعالى: { مَا فِي يَميِنِكِِ } على: { عَصَاكَ } وجهان: أحدها: أن يكون تعظيماً لها. أي: لا تحتفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة. فإِن في يمينك شيئاً أعظم منها كلها. وهذه على كثرتها أقل شيء وأنزره عنده. فألقه يتلقفها بإذن الله ويمحقها. وثانيهما: أن يكون تصغيراً لها أي: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم. وألق العُوَيْد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك. فإِنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها، وصغره وعظمها. وإِنما المقصود بتحقيرها في جنب القدرة، تحقير كيد السحرة بطريق الأوْلى. لأنها إذا كانت أعظمُ مُنَّةً وهي حقيرة في جانب قدرة الله تعالى، فما الظن بكيدهم وقد تلقفته هذه الحقيرة الضئيلة؟ ولأصحاب البلاغة طريق في علوّ المدح بتعظيم جيش عدوّ الممدوح، ليلزم من ذلك تعظيم جيش الممدوح وقد قهره واستولى عليه. فصغر الله أمر العصا، ليلزم منه كيد السحرة الداحض بها في طرفة عين. واعلم أنه لا بد من نكتة تناسب الأمرين - التعظيم والتحقير - وتلك، والله أعلم، هي إرادة المذكور مبهماً، لأن: { مَا فِي يَميِنِكِِ } أبهم مِنْ: { عَصَاكَ } وللعرب مذهب في التنكير والإبهام، والإجمال، تسلكه مرة لتحقير شأن ما أبهمته، وأنه عند الناطق به أهون من أن يخصه ويوضحه. ومره لتعظيم شأنه، وليؤذن أنه من عناية المتكلم والسامع بمكان، يغني في الرمز والإِشارة. فهذا هو الوجه في إِسعاده بهما جميعاً. ثم قال الناصر: وعندي في الآية وجه سوى قصد التعظيم والتحقير. والله أعلم. وهو؛ أن موسى عليه السلام، أول ما علم أن العصا آية من الله تعالى، عندما سأله عنها بقوله تعالى: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى } ثم أظهر له تعالى آيتها، فلما دخل وقت الحاجة إلى ظهور الآية منها، قال تعالى: { وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ } ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له: { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ } وقد أظهر له آيتها، فيكون ذلك تنبيهاً له وتأنيساً، حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت ظهور آيتها. وذلك مقام يناسب التأنيس والتثبيت. ألا ترى إلى قوله تعالى: { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى }؟ انتهى. ولأبي حيان نكتة أخرى. وهي ما في اليمين من الإشعار باليمن والبركة. ولا يقال جاء في سورة الأعراف: { أَلْقِ عَصَاكَ } والقصة واحدة. لأنه يجاب بأنه مانع من رعاية هذه النكتة فيما وقع هنا، وحكاية ما جاء بالمعنى. هذا وقال الشهاب الخفاجي: فيما ذكروه نظر لأنه إنما يتم إذا كان الخطاب بلفظ عربي أو مرادفٍ له، يجري فيه ما يجري فيه. والأول خلاف الواقع. والثاني دونه خرط القتاد، فتأمل. أقول: إِنما استبعد الثاني، لتوهم أن لا بلاغة ولا نكات إلا في اللغة العربية. مع أن الأمر ليس كذلك. وحينئذ فيتعين الثاني. وهو ظاهر. وبه تستعاد تلك اللطائف. ثم أشار تعالى إلى عنايته بموسى وقومه، من إِنجائهم وإِهلاك عدوهم، وقد طوى هنا ما فصل في آيات أخر: بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخَافُ دَرَكاً وَلا تَخْشَى } [77]. { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي } أي: سر بهم من مصر ليلاً: { فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً } أي: يابساً. فضرب موسى بعصاه البحر فانفلق وجاوزه إلى ساحله: { لا تَخَافُ دَرَكاً } أي: لا تخاف من فرعون وجنوده أن يدركوك من ورائك { وَلا تَخْشَى } أي: غرقاً من بين يديك , ووحلاً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى } [78 - 79]. { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ } لأنه ندم على الإِذن بتسريحهم من مصر، وأنهم قهروه على قلتهم كما قال: { إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ } [الشعراء: 54 - 55]، فتبعهم ومعه جنوده حتى لحقوهم، ونزلوا في الطريق الذي سلكوه. ففاجأهم الموج كما قال تعالى: { فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ } أي: علاهم منه وغمرهم، ما لا يحاط بهوله: { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى } أي: أوردهم الهلاك، بعتوّه وعناده في الدنيا والآخرة. وما هداهم سبيل الرشاد. ثم ذكر تعالى نعمه على بني إِسرائيل ومننه الكبرى، وما وصاهم من المحافظة على شكرها، وحذرهم من التعرض لغضبه بكفرها، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَا بَنِي إِسْرائيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } [80 - 81]. { يَا بَنِي إِسْرائيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ } وهو فرعون وقومه. فقد كانوا يسومونكم سوء العذاب. يذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم. وذلك بأن أقر أعينكم منهم، بإِغراقهم، وأنتم تنظرون: { وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ } أي: بمناجاة موسى وإنزال التوراة عليه. واليهود السامرية تزعم أن هذا الجبل في نابلس ويسمونه جبل الطور ويذكر في الجغرافيا بلفظ عيبال ولهم عيد سنوي فيه يصعدون إليه، ويقربون فيه القرابين. والله أعلم. قال الزمخشري: وإِنما عدَّى المواعدة إليهم، لأنها لابستهم واتصلت بهم، حيث كانت لنبيهم ونقبائهم. وإِليهم رجعت منافعها التي قام بها دينهم وشرعهم، وفيما أفاض عليهم من سائر نعمه وأرزاقه. وجانب مفعول فيه، أو مفعول به على الاتساع. أو بتقدير مضاف. أي: إِتيان جانب { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أي: من لذائذه. فإِن المن كالعسل. والسلوى من الطيور الجيد لحمها: { وَلا تَطْغَوْا فِيهِ } أي: فيما رزقناكم، بأن يتعدى فيه حدود الله، ويخالف ما أمر به: { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى } أي: هلك. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } [82]. { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى } أي: تاب عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق، وعمل صالحاً بجوارحه، ثم اهتدى، أي: استقام وثبت على الهدى المذكور. وهو التوبة والإِيمان والعمل الصالح. ونحوه قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا } [فصلت: 30] و [الأحقاف: 13]، وفي الآية ترغيب لمن وقع في وهدة الطغيان، ببيان المخرج له منه، كي لا ييأس. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى } [83]. { وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى } أي: أي: شيء عجّل بك عنهم، على سبيل الإنكار، وكان قد مضى معه النقباء الذين اختارهم من قومه إلى الطور، على الموعد المضروب، ثم تقدمهم شوقاً إلى كلام ربه ورضاه. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } [84]. { قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي } أي: قادمون ينزلون بالطور، وإِنما سبقتهم بما ظننت أنه خير. ولذا قال: { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } أي: عني، بمسارعتي إلى الامتثال بأمرك. واعتنائي بالوفاء بعهدك. وزيادة رَبِّ لمزيد الضراعة والابتهال، رغبةً في قبول العذر. أفاده أبو السعود. فإِن قيل: كان مقتضى جواب السؤال من موسى أن يقول: طلب زيادة رضاك أو الشوقُ إلى كلامك , فالجوابُ. أن هذا من الغفلة عن سرِّ الإنكار. وذلك لأن الإنكار بالذات إنما هو للبعد والانفصال عنهم. فهو منصبّ على القيد. كما عرف في أمثاله. فالسؤال في المعنى عن الانفصال الذي يتضمنه أعجلك المتعدي بمن. وإنكار العجلة لأنها وسيلة له. فالجواب: { هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي }. وقوله: { وَعَجِلْتُ } الخ تتميم. وقيل الجواب إنما هو قوله: { وَعَجِلْتُ } الخ، وما قبله تمهيد له. وقال الناصر: إنما أراد الله بسؤاله عن سبب العجلة، وهو أعلم، أن يعلم موسى أدب السفر. وهو أنه ينبغي تأخُّرُ رئيس القوم عنهم في المسير، ليكون نظره محيطاً بطائفته، ونافذاً فيهم، ومهيمناً عليهم. وهذا المعنى لا يحصل في تقدمه عليهم، ألا ترى الله عزّ وجلّ كيف علم هذا الأدب، لوطا، فقال: { وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ } [الحجر: 65]، فأمره أن يكون أخيرهم. على أن موسى عليه السلام إنما أغفل هذا الأمر مبادرة إلى رضاء الله عزَّ وجلَّ، ومسارعة إلى الميعاد. وذلك شأن الموعود بما يسره، يود لو ركب إليه أجنحة الطير. ولا أسَرَّ من مواعدة الله تعالى له صلى الله عليه وسلم. انتهى. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } [85]. { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ } أي: ابتليناهم بعد ذهابك للمناجاة: { وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ } يعني اليهوديّ الذي وسوس لهم أن يعبدوا عجلاً يتخذوه إلهاً، لما طالت عليهم غيبة موسى ويئسوا من رجوعه. والسامري في لغة العرب، بمعني اليهودي. وقد قال بالظن، من ادعى تسميته أو حاول تعيينه. وأما الطائفة السامرية الآن فهم فئة من اليهود في نابلس قليلة العدد تخالف بقية اليهود في جلّ عاداتها. وقد تضمنت هذه الجملة - أعني إخباره تعالى لموسى بالفتنة - الأمر - برجوعه لقومه، وإصلاحه ما فسد من حالهم، كما قال تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي } [86]. { فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } أي: حزيناً: { قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } أي: بإنزال التوراة عليَّ، ورجوعي بها إليكم: { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ } أي: زمان الإنجاز، أو مجيئي: { أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي } أي: وعدكم إياي بالثبات على ما أمرتكم به إلى أن أرجع من الميقات. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } [87 - 88]. { قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } قرئ بالحركات الثلاث على الميم. قال الزمخشري: أي: ما أخلفنا موعدك، بأن ملكنا أمرنا. أي: لو ملكنا أمرنا، وخلينا وراءنا، لما أخلفناه. ولكن غلبنا من جهة السامريّ وكيده: { وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا } بفتح الحاء مخففاً، وبضمها وكسر الميم مشدداً: { أَوْزَاراً } أي: أثقالاً وأحمالاً: { مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ } أي: من حلي القبط، قوم فرعون، وهو حليُّ نسائهم: { فَقَذَفْنَاهَا } أي: في النار لسكبها: { فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ } أي: كان إلقاؤه: { فَأَخْرَجَ لَهُمْ } أي: من تلك الحليّ المذابة: { عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ } أي: صوت عجل. وقد قيل: إنه صار حيّاً، وخار كما يخور العجل. وقيل: لم تحلّه الحياة وإنما جعل فيه منافذ ومخارق، بحيث تدخل فيها الرياح فيخرج صوت يشبه صوت العجل. أفاده الرازي. وقوله: { فَقَالُوا } أي: السامريُّ ومن افتتنوا به: { هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } أي: غفل عنه وذهب يطلبه في الطور. ثم أنكر تعالى على من ضل بهذا العجل وأضل. مسفهاً لهم فيما أقدموا عليه، مما لا يشتبه بطلانه على أحد، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً } [89]. { أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ } أي: العجل: { إِلَيْهِمْ قَوْلاً } أي: لا يردد لهم جواباً: { وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً } أي: دفع ضرّ ولا جلب نفع، أي: فكيف يتخذ إلهاً؟. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي } [90]. { وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ } أي: قبل رجوع موسى إليهم: { يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ } أي: ضللتم بعبادته: { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي } في عبادته سبحانه، ونبذ العجل. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } [91 - 93]. { قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى قَالَ } أي: موسى: { يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ } أي: في الغضب لله، وشدة الزجر عن الكفر. و لا مزيدة. أو المعنى ما حملك على أن لا تتبعني، بحمل النقيض على النقيض. فإن المنع عن الشيء مستلزم للحمل على مقابله. أو ما منعك أن تلحقني وتخبرني بضلالهم، فتكون مفارقتك مزجرة لهم: { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } وهو ما أمره به من أن يخلفه في قومه، ويصلح ما يراه فاسداً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [94]. { قَالَ } أي: هارون: { يَا ابْنَ أُمَّ } بكسر الميم وفتحها. أراد أمي وذكرُها أعطف لقلبه: { لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي } أي: بشعره. وكان قبض عليهما يجره إليه من شدة غضبه: { إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ } أي: بتركهم لا راعي لهم: { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } أي: لم تراعه في الاستخلاف والوجود بين ظهرانيهم. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ } [95]. { قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ } أي: ثم أقبل على السامري وقال له منكراً: ما شأنك فيما صنعت؟ وما دعاك إليه؟. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً } [96 - 97]. { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ } أي: فطنت لما لم يفطنوا له: { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا } أي: في الحلي المذاب حتى حَيَّ: { وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } أي: حسّنته وزينته: { قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ } أي: لعذابك: { مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً } أي: لنطيّرنّه رماداً في البحر، بحيث لا يبقى منه عين ولا أثر. تنبيهات: الأول: اعلم أن هارون عليه السلام، سلك في هذا الوعظ أحسن الوجوه. لأنه زجرهم عن الباطل، أوّلاً بقوله: { إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ } ثم دعاهم لمعرفة الله تعالى ثانياً بقوله: { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ } ثم دعاهم ثالثاً إلى معرفة النبوة بقوله تعالى:: { فَاتَّبِعُونِي } ثم دعاهم إلى الشرائع رابعاً بقوله: { وَأَطِيعُوا أَمْرِي } وهذا هو الترتيب الجيّد. لأنه لا بد قبل كل شيء في إماطة الأذى عن الطريق، وهو إزالة الشبهات. ثم معرفة الله تعالى، فإنها هي الأصل. ثم النبوة ثم الشريعة. فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه. أفاده الرازي. وقد برأ الله تعالى بهذه الآيات البينات، هارون عليه السلام مما افتراه عليه كتبة التوراة من أنه هو السامري الذي اتخذ العجل وأمر بعبادته، كما هو موجود عندهم. وهو من أعظم الفرى، بلا امترا. الثاني: عامة المفسرين قالوا: المراد بالرسول في قوله تعالى: { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ } هو جبريل عليه السلام. وأراد بأثره، التراب الذي أخذه من موضع حافر دابته. ثم اختلفوا: أن السامري متى رآه؟ فقيل: إنما رآه يوم فلق البحر. وقيل: وقت ذهابه بموسى إلى الطور. واختلفوا أيضاً في: أن السامري كيف اختص برؤية جبريل عليه السلام، ومعرفته من بين سائر الناس؟ فقيل إنما عرفه لأنه رآه في صغره، وحفظه من قتل آل فرعون له، وكان ممن رباه. وكل هذا ليس عليه أثارة من علم ولا يدل عليه التنزيل الكريم. ولذا قال أبو مسلم الأصفهاني: ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون. فههنا وجه آخر وهو: أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام. وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به، فقد يقول الرجل: فلان يقفو أثر ويقبض أثره، إذا كان يمتثل رسمه. والتقدير، أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم، والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل، فقال: { بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ } أي: عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول، أي: شيئاً من سنّتك ودينك. فقذفته، أي: طرحته. فعند ذلك أعلمه موسى عليه السلام بما له من العذاب في الدنيا والآخرة. وإنما أورد بلفظ الإخبار عن غائب، كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له: ما يقول الأمير في كذا؟ وبماذا يأمر الأمير؟. وأما دعاؤه موسى عليه السلام رسولاً، مع جحده وكفره، فعلى مثل مذهب من حكى الله تعالى عنه قوله: { وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [الحجر: 6]، وإن لم يؤمنوا بالإنزال. انتهى. قال الرازي: ما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق مما ذكره المفسرون، لوجوه: أحدها: أن جبريل عليه السلام ليس بمشهور باسم الرسول. ولم يجر له فيما تقدم ذكر، حتى تجعل لام التعريف إشارة إليه. فإطلاق لفظ الرسول لإرادة جبريل عليه السلام، كأنه تكليف بعلم الغيب. وثانيها: أنه لا بد فيه من الإضمار. وهو قبضة من أثر حافر فرس الرسول , والإضمار خلاف الأصل. وثالثها: أنه لا بد من التعسف في بيان أن السامري كيف اختص من بين جميع الناس برؤية جبريل عليه السلام ومعرفته؟ ثم كيف عرف أن لِتُرَابِ حافر فرسه هذا الأثر؟ والذي ذكروه من أن جبريل عليه السلام هو الذي رباه، فبعيد. لأن السامري، إن عرف جبريل حال كمال عقله، عرف قطعاً أن موسى عليه السلام نبيّ صادق. فكيف يحاول الإضلال؟ وإن كان ما عرفه حال بلوغ، فأي منفعة لكون جبريل عليه السلام مربياً له حال الطفولية، في حصول تلك المعرفة؟ انتهى. التنبيه الثالث: في قوله: { لاَ مسَاسَ } وجوه: أحدها: إني لا أَمَسُّ ولا أُمَسُّ. وثانيها: المراد المنع من أن يخالط أحداً أو يخالطه أحد، عقوبة له. ثالثها: ما ذكره أبو مسلم من أنه يجوز في حمله: ما أريد مسي النساءَ , فيكون من تعذيب الله إياه انقطاع نسله. فلا يكون له ولد يؤنسه، فيخليه الله تعالى من زينتي الدنيا اللتين ذكرهما بقوله: { الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } [الكهف: 46]، أي: لأن المسّ يكنى به عن النكاح كما في آية: { مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } [البقرة: 237]، والله أعلم. ولما فرغ موسى عليه السلام من إبطال ما دعا إليه السامري، عاد إلى بيان الدين الحق، فقال: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [98]. { إِنَّمَا إِلَهُكُمُ } أي: المستحق للعبادة والتعظيم: { اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } أي: أحاط علمه كل شيء. ثم أشار تعالى إلى فضله، فيما قصه على خاتم رسله صلوات الله عليه، من أنباء الأنبياء، تنويهاً بشأنه، وزيادة في معجزاته، وتكثيراً للاعتبار والاستبصار في آياته، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً } [99]. { كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً } أي: كتاباً عظيماً جامعاً لكل كمال، وسمي القرآن: { ذِكْراً } لما فيه من ذكر ما يحتاج إلى الناس من أمر دينهم ودنياهم، ومن ذكر آلاء الله ونعمائه. ففيه التذكير والمواعظ، ولما فيه من الذكر والشرف له صلوات الله عليه ولقومه. قال الرازي: وقد سمى تعالى كل كتبه ذكراً فقال: { فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ } [النحل: 43]، ثم، كما بيّن تعالى نعمته بذلك، بيّن شدة الوعيد لمن أعرض عنه ولم يؤمن به، بقوله: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً } [100 - 101]. { مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً } أي: إثماً. يعني عقوبة ثقيلة. شبهت بالحمل الثقيل لثقلها على المعاقَب وصعوبة احتمالها: { خَالِدِينَ فِيهِ } أي: في احتماله المستمر: { وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً }. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً } [102 - 103]. { يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ } بدل من يوم القيامة أو منصوب بمحذوف. والنفخ في الصور تمثيل لبعث الله للناس يوم القيامة بسرعة لا يمثلها إلا نفخة في بوق: { فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } [الزمر: 68]، وعلينا أن يؤمن بما ورد من النفخ في الصور. وليس علينا أن نعلم ما هي حقيقة ذلك الصور. والبحث وراء هذا، عبث لا يسوغ للمسلم. أفاده بعض المحققين. { وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ } أي: نسوقهم إلى جهنم: { يَوْمَئِذٍ زُرْقاً } أي: زرق الوجوه. الزرقة تقرب من السواد. فهو بمعنى آية: { وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [آل عِمْرَان: 106]. وقال أبو مسلم: المراد بهذه الزرقة شخوص أبصارهم. والأزرق شاخص، لأنه لضعف بصره، يكون محدقاً نحو الشيء يريد أن يتبينه. وهذه حال الخائف المتوقع لما يكره. وهو كقوله تعالى: { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ } [إبراهيم: 42]، نقله الرازي. والأول أظهر { يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ } أي: يتسارّون من الرعب والهول، أو من الضعف، قائلين: { إِنْ لَبِثْتُمْ } أي: في الدنيا: { إِلَّا عَشْراً } أي: عشر ليال. قال الزمخشري: يستقصرون مدة لبثهم [في المطبوع: لبثم] في الدنيا، إما لما يعاينون من الشدائد التي تذكرهم أيام النعمة والسرور، فيتأسّفون عليها ويصفونها بالقصر. لأن أيام السرور قصار. وإما لأنها ذهبت عنهم وتَقَضَّتْ. والذاهب، وإن طالت مدته، قصير بالانتهاء. ومنه توقيع عبد الله بن المعتز تحت: أطال الله بقاءك كفى بالانتهاء قصراً. وإما لاستطالتهم الآخرة، وأنها أبد سرمد، يستقصر إليها عمر الدنيا، ويتقالّ لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة. وقد استرجح الله قول من يكون أشد تقالاً منهم، في قوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً } [104]. { نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً } أي: أعدلهم رأياً: { إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً } ونحوه قوله تعالى: { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ } [المؤمنون: 112 - 113]، انتهى. قال أبو السعود: ونسبة هذا القول إلى أمثلهم، استرجاع منه تعالى له، لكن لا لكونه أقرب إلى الصدق، بل لكونه أدلّ على شدة الهول. أي: ولكونه منتهى الأعداد القليلة. وكذلك لبثهم بالنسبة إلى الخلود السرمديّ، وإلى تقضي الغائب الذي كأن لم يكن. ولا ينافي هذا ما جاء في آية: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ } [الروم: 55]، لأن المراد بالساعة الحصة من الزمان القليل، فتصدق باليوم. كما أن المراد باليوم مطلق الوقت. ولذلك نكر، تقليلاً له وتحقيراً. قال الشهاب: ليس المراد بحكاية قول من قال عَشْراً أو يَوْمَاً أو سَاعَةً حقيقة اختلافهم في مدة اللبث، ولا الشك في تعيينه. بل المراد أنه لسرعة زواله، عبّر عن قلّته بما ذكر. فتفنن في الحكاية، وأتى في كل مقام بما يليق به. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } [105 - 107]. { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ } أي: هل تبقى يوم القيامة أو تزول: { فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } أي: يزيلها عن مقارّها. فيسيّرها مقذوفة في الفضاء. وقد تمرّ على الرؤوس مرّ السحاب. حتى تتساوى مع سطح الأرض. كما قال: { فَيَذَرُهَا } أي: فيذر مقارّها ومراكزها. أو الأرض المدلول عليها بقرينة الحال: { قَاعاً } أي: سهلاً مستوياً: { صَفْصَفاً } أي: أملس: { لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً } أي: نتوءاً يسيراً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً } [108]. { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ } أي: يُجيبون الداعي إلى المحشر، فينقلبون من كل صوب إليه: { لا عِوَجَ لَهُ } أي: لا يعوج له مدعوّ، ولا ينحرف عنه. بل يستوون إليه. متبعين لصوته، سائرين بسيره. في شروح " الكشاف ": هذا كما يقال: لا عصيان له , أي: لا يعصى. ولا ظلم له أي: لا يظلم. وضمير له: للداعي. وقيل: للمصدر. أي: لا عوج لذلك الاتباع: { وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ } أي: انخفضت لهيبه ولهول الفزع: { فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً } أي: صوتاً خفيّاً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } [109]. { يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } أي: قبل قوله. والمعنى: يومئذ لا يستطيع أحد أن يشفع لأحد، إلا إذا أذن الله له. ولا يأذن إلا لمن علم أنه سيجاب. قال بعض المحققين: وإنما يكون الكلام ضرباً من التكريم، لمن يأذن الله له به، يختص به من يشاء. ولا أثر فيما أراد الله البتة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [110]. { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } أي: بمعلوماته، أو بذاته العلية. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } [111]. { وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ } أي: ذلت وخضعت خضوع العناة، أي: الأسارى. لأنها في أسر مملكته وذلّ قهره وقدرته. لا تحيا ولا تقوم إلا به. ولما كانت الوجوه يومئذ، منها الظالمة لنفسها ومنها الصالحة، أشار إلى ما يجزي به الكل، بقوله سبحانه: { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } أي: خسر. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً } [112] { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً } أي: نقص ثواب: { وَلا هَضْماً } أي: ولا كسراً منه، بعدم توفيته. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } [113]. { وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ } أي: بعبارات شتى، تصريحاً وتلويحاً، وضروب أمثال، وإقامة براهين: { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي: الكفر والمعاصي بالفعل: { أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } أي: اتعاظاً واعتباراً، يؤول بهم إلى التقوى. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً } [114]. { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } أي: تناهى في العلوّ والعظمة، بحيث لا يقدر قدره، ولا يغدر أمره في ملكه الذي يعلو كل شيء، ويصرفه بمقتضى إرادته وقدرته. وفي عدله الذي يوفي كل أحد حقه بموجب حكمته: { وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } أي: بل أنصت. فإذا فرغ المَلَك من قراءته فاقرأه بعده. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقَّنه جبريل الوحيَ، يتبعه عند تلفظ كل حرف وكل كلمة، لكمال اعتنائه بالتلقي والحفظ. فأرشد إلى أن لا يساوقه في قراءته، وأن يتأنَّى عليه ريثما يسمعه ويفهمه. ثم ليقبل عليه بالحفظ بعد ذلك. ونحوه قوله تعالى: { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [القيامة: 16 - 19]، ثم أمره تعالى باستفاضة العلم واستزادته منه بقوله: { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً } أي: سله زيادة العلم. فإن مدده غير متناه. وهذا - كما قال الزمخشري - متضمن للتواضع لله تعالى والشكر له، عندما علم من ترتيب التعلم. أي: علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم، وأدباً جميلاً ما كان عندي، فزدني علماً إلى علم. فإن لك في كل شيء حكمة وعلماً. قيل: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم. ثم أشار تعالى إلى أخذه العهد على بني آدم، من اتّباعهم كل هدى يأتيهم منه سبحانه، وترتب الفوز عليه. وإلى أن الإعراض عنه من وسوسة الشيطان، العدوّ لهم ولأبيهم قبلهم. وترتب الشقاء عليه، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } [115]. { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ } أي: من قبل هذا الزمان، أن لا يقرب من الشجرة: { فَنَسِيَ } أي: العهد: { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } أي: تصميماً في حفظه. إذ لو كان كذلك، لما أزلّه الشيطان ولما استطاع أن يغرّه. كما بيّنه الله تعالى بقوله: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } [116 - 117]. { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } أي: بالابتلاء. وإسناد الشقاء إليه خاصة، لأصالته في الأمور، واستلزام شقائه بشقائها. فاختصر الكلام لذلك ,مع المحافظة على الفاصلة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى } [118 - 119]. { إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى } أي: لا تتصوّن من حرّ الشمس. قال أبو السعود: هذا تعليل لما يُوجبه النهي. فإن اجتماع أسباب الراحة فيها. مما يوجب المبالغة في الاهتمام بتحصيل مبادئ البقاء فيها. والجدِّ في الانتهاء عما يؤدي إلى الخروج عنها. والعدولُ عن التصريح بأن له عليه السلام فيها تنعماً بفنون النعم. من المآكل والمشارب، وتمتعَاً بأصناف الملابس البهية والمساكن المرضية، مع أن فيه من الترغيب في البقاء فيها، ما لا يخفى. إلا ما ذكر من نفي نقائضها التي هي الجوع والعطش والعري والضحو، لتذكير تلك الأمور المنكرة والتنبيه على ما فيها من أنواع الشقوة التي حذره عنها، ليبالغ في التحامي عن السبب المؤدي إليها. انتهى. لطيفة: قال الناصر: في الآية سر بديع من البلاغة، يسمى قطع النظير عن النظير. وذلك أنه قطع الظمأ عن الجوع، والضحو عن الكسوة، مع ما بينهما من التناسب. والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها , ولو قرن كلَّاً بشكله لتوهم المعدودات نعمة واحدة. وقد رمق أهل البلاغة سماء هذا المعنى قديماً وحديثاً، فقال الكندي الأول: ~كَأَنِّي لَم أَرْكَبْ جَوَاداً لِلذَّةٍ ولم أَتَبَطَّن كَاعِباً ذاتَ خِلخَالِ ~ولم أسبأ الزِّقَّ الرويّ ولم أقُل لخيليَ: كُرِّي كَرَّةً بعدَ إِجفَالِ فقطع ركوب الجواد عن قوله: لخيلي كري كرة , وقطع تبطن الكاعب عن ترشف الكاس، مع التناسب. وغرضه أن يعدّد ملاذَّه ومفاخره ويكثرها. على أن هذه الآية سرّاً لذلك، زائداً على ما ذكر، وهو قصد تناسب الفواصل. ولو قرن الظمأ بالجوع فقيل: إن لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ, لانتثر سلك رؤوس الآي. وأحسنْ به منتظماً. انتهى. وهذا السرّ الذي سمّاه: قطع النظير عن النظير يسمى بالوصل الخفي. ومما قيل في وجه القطع: أن فيه التنبيه على أن الأوليْن، أعني الشبع والكسوة أصلان. وأن الأخيرين متممان. فالامتنان على هذا أظهر. ولذا فرّق بين القرينتين. فقيل إنَّ لَكَ وأنَّك وأيضاً روعي مناسبة الشبع والكسوة. لأن الأول يكسو العظام لحماً. وأما الظمأ والضحى فمن وادٍ واحد. وقيل: إن الغرض تعديد هذه النعم. ولو قرن كل بما يشاكله، لتوهم المقرونان نعمة واحدة. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } [120 - 121]. { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ } أي: من أكل منها خلد ولم يمت: { وَمُلْكٍ لا يَبْلَى فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا } أي: يلزقان: { مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ } أي: لهما هذا الخزي، بدل عزّ الملك المخلد. وهذه الأوراق الفانية، بدل نفائس الملابس الخالدة: { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ } أي: بارتكاب النهي، وترك العزم في حفظ العهد: { فَغَوَى } أي: عن المأمور به. حيث اعتز بقول العدوّ. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } [122 - 123]. { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ } أي: اصطفاه ووفقّه للإنابة: { فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى قَالَ } أي: بعد قبول توبته: { اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً } أي: انزلا من الجنة إلى الأرض: { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } أي: متعادين. قال المهايمي: فالمرأة عدوّة الزوج، في إلجائه إلى تحصيل الحرام. والزوج عدوّها في إنفاقه عليها. وإبليس يوقع الفتنة بينهما , ويدعوهما إلى أنواع المفاسد التي لا ترتفع إلا باتباع الأمر السماويّ { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً } أي: من كتاب ورسول { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } أي: لا في الدنيا ولا الآخرة. قال أبو السعود: ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: هُدَايَ مع الإضافة إلى ضميره تعالى، لتشريفه والمبالغة في إيجاب اتباعه. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } [124 - 127]. { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى } اعلم أنه لما أخبر سبحانه عن حال من اتبع هداه في معاشه ومعاده، أخبر عن حال من أعرض عنه ولم يتبعه، من شقائه في الدنيا والآخرة. وهذا الشقاء بقسميه، هو نوع من أفانين العذاب اللاحقة لمن تولى عن هدى الله الذي بعث به خاتم أنبيائه، ولم يقبله ولم يستجب له، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمرَ ربه. وفي الآية مسائل: الأولى: قال الرازي في قوله تعالى: { عَن ذِكْرِي }: الذكر يقع على القرآن وعلى سائر كتب الله تعالى. ويحتمل أن يراد به الأدلة. وقال ابن القيّم في " مفتاح دار السعادة ": أي: عن الذكر الذي أنزلته. والذكر هنا مصدر مضاف إلى الفاعل. كقيامي وقراءتي لا إلى المفعول. وليس المعنى: ومن أعرض عن أن يذكرني. بل هذا لازم المعنى ومقتضاه من وجه آخر. وأحسن من هذا الوجه أن يقال: الذكر هنا مضاف إضافة الأسماء، لا إضافة المصادر إلى معمولاتها. والمعنى: ومن أعرض عن كتابي ولم يتبعه، فإن القرآن يسمى ذكراً. قال تعالى: { وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ } [الأنبياء: 50]، وقال تعالى: { ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ } [آل عِمْرَان: 58]. وقال تعالى: { وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } [القلم: 52]. وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ } [فصلت: 41]. وقال تعالى: { إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ } [يس: 11]، وعلى هذا فإضافته كإضافة الأسماء الجوامد التي لا يقصد بها إضافة العامل إلى معموله. ونظيره في إضافة اسم الفاعل: { غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } [غافر: 3]، فإن هذه الإضافات لم يقصد بها قصد الفعل المتجدد، وإنما قصد الوصف الثابت اللازم. ولذلك جرت أوصافاً على أعرف المعارف، وهو اسم الله تعالى في قوله تعالى: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غَافِرِ الذَّنْبِ } [غافر: 2 - 3]. الثانية: قرئ ضَنكاً بالتنوين على أنه مصدر وصف به، ولذا لم يؤنث لاستوائه في القبيلين. كما قال ابن مالك: ~وَنَعَتُوا بمصدرٍ كثيراً فالتَزَمُوا الإِفرادَ والتذكِيرَا وفي القاموس: الضنك الضيق في كل شيء، للذكر والأنثى. يقال: ضَنُكَ ككرم، ضنكاً وضناكة وضنوكة، ضاق. وقال السمين: ضنكاً صفة معيشة. وأصله المصدر فلذلك لم يؤنث. ويقع للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد. وقرأ الجمهور ضنكاً بالتنوين وصلاً وإبداله ألفاً وقفاً كسائر المعربات. وقرأت فرقة ضنكي بألف كسكري. وفي هذه الألف احتمالان: فإما أن تكون بدلاً من التنوين، وإنما أجرى الوصل مجرى الوقف، وإما أن تكون ألف التأنيث بني المصدر على فعلى نحو دعوى. الثالثة: ذكروا في هذه المعيشة الضنك التي للكافر أقوالاً: إنها في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة أو في الدين. والأظهر الأول لمقابلته بالوعيد الأخروي. قال ابن كثير: أي: ضنكاً في الدنيا فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره. بل صدره ضيّق حرج لضلاله، وإن تنعم ظاهره، ولبس ما شاء، وأكل ما شاء. وسكن حيث شاء، فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى، فهو في قلق وحيرة وشك. فلا يزال في ريبه يتردد: فهذا من ضنك المعيشة. انتهى. وذلك لأن الاعتقاد بالدين الحق واليقين الصحيح لراحة الضمائر والأنفس، فوق كل الأهواء والذات والمآرب. فالضنك المعنيّ بها، إذن هو الضنك الحيويّ والقلق الدنيوي، من اضطراب القلب وعدم سكون النفس إلى الاعتقاد الحق والإيمان بالدين القيّم الذي هو دين الإسلام. فكل من لم يؤمن به فهو في ضيق صدر وهموم ومحابس، لا يجد منها مخارج إلا به ولا يرتاب في ذلك من كابر حسه وناقض وجدانه. فإن دين الإسلام هو دين الفطرة. دين اليسر. دين العقل. دين النور الذي تنشرح به الصدور وتطمئن به القلوب وتشفى به الأنفس من أدوائها، وتهتدي به من ضلالها وحيرتها، وتستنير به من ظلماتها. ولذلك سمي هدىً ونوراً وشفاءً ورحمةً. ألق نظرك على الأديان كلها، وقابل بينها وبينه، لتدرك ذلك. هذه اليهودية، يرى في اشتراعها في الآصار والأغلال والتكاليف الشاقة في المعيشة الحيوية ما لا يطاق. قيود في المأكل والمشرب. وحجر في المنكح والمبيت والمعاشرة. وضغط على الأنفس بتقسيمها إلى طاهرين يحضرون الاحتفالات، ونجسين مبعدين لا يَلْمسون ولا يُلْمسون. دع عنك خرافات الاعتقادات والافتراء بالأهواء في التشريعات وتشعبها في الأهواء إلى شعب تتباين في العبادات. وهذه النصرانية، الذي أساسها تعديل الشرعة الموسوية قام رهبانها بعد رفع المسيح، ومضي عصر الحواريين. فأطلقوا لأتباعهم كل قيد في اليهودية. وأمروهم بنبذ أحكام التوراة نكاية لليهود. وأخذوا يشرعون للناس ما لا ينطبق على أصل التوراة ولا بعثة عيسى. فإنه عليه السلام قال: ما جئت لأهدم الناموس - التوراة - بل لأتممه. فترى ما أحدث من طقوس الكنيسة وتعاليمها، اعتقاداً وعبادة وسلطة وسيطرة جائرة على العقل والفكر، وربط الأمور بأيدي الكهنة حلاَّ وإبراماً، تبعاً لرغائب الأنفس والشهوات، مما يتضجر منه كل مسيحيّ ذاق جوهر الدين المسيحي حقّاً. إذ جوهره مع ابتداعهم على طرفي نقيض، فأنَّى لا يضيق ذرعه ولا تضنك معيشته! لذلك لما استقر سلطان الإسلام بالأندلس، واحتك النصارى بالمسلمين في الحروب الصليبية، واستمدوا من معارف الإسلام وعلومه ما قلد جيدهم منناً لا تنكر؛ أخذوا يقاومون الكنيسة في حظرها على المعارف والفنون، ومعاداتها للعلوم. وجرى بإغراء الكهنة، من الدماء المسفوكة ما اسودت به صحف التاريخ. ثم كان الفوز لدعاة الإصلاح. وتفرقوا أحزاباً. ولا يزالون يتقربون إلى الإسلام، بنبذهم سخائف ما ورثوه. ولذا تراهم في عيشة ضنك يسعون لأرقى مما هم عليه، علماً بأن الدخائل والبدع في دينهم، أفسدت عليهم ما أفسدت. ولن يتسنى لهم الرقي إلا بالرجوع إلى دين الفطرة. وهم يسعون إليه، وإن كانوا لا يشعرون، أو يشعرون ويتجاهلون. هذه رشحات من المعيشة الضنك لأمتين عظيمتين، وهما تنتميان إلى كتابين منزلين.. فما ظنك بالمجوس والوثنيين وفرقهم التي لا تحصى. ولا يزال عقلاؤهم يطلبون التملص منها، لكثرة خرافاتها وضررها، نفساً ومالاً وعرضاً. فأهلها في شقاء وعذاب لا يشاكله عذاب. ومن نجا من ويلاتها بالإسلام، لا يعد ولا يحصى. وقس على هؤلاء، الطائفة المسماة بالماديين. وهم الدهريون والطبيعيون. فإنهم بلا ريب أضيق صدراً وأضنك معيشةً وأشد اضطراباً وأعظم فرقة. فلا يمكن أن يوجد اثنان على رأي واحد. بل يتصور كل منهم إلهه كما يهوى وكما تخيِّلُهُ له رغائبه وشهواته. قال بعضهم: هؤلاء الذين يحصرون دينهم في أن يعرف الإنسان الله، ويكون مستقيماً في أعماله، إذا سئلوا: ما هو الدين الطبيعي الذي تعترفون به؟ فيجيبون إنما هو الذي يرشد إليه العقل عريّاً عن الوحي. فيقال لهم: العقل، من حيث هو، ضعيف متغيّر قاصر. يرى اليوم صوباً ما يراه في الغد خطأً. ويحكم اليوم على أمر أنه حلال مباح، ويرى غداً أنه حرام لا يجوز إتيانه. تحمله أغراضه على استحلال ما يلذّ له وتجعله مستنفراً مما يضادّ أهواءه، فكيف يكون صاحبه مستقيماً في أعماله؟ وما هي القاعدة المطردة الثابتة للاستقامة عند هؤلاء؟ وكل يرى نفسه ويخيّل له أنه مستقيم!! فالصيني مثلاً يرى نفسه مستقيماً ولو باع أو قتل أولاده. والهندي يرى هذه الاستقامة في نفسه، ولو أحرق المرأة على جثة رجلها. والوثني يرى نفسه مستقيماً، ولو ارتكب الفحشاء تكرمة للزهرة. هذا، وإن أكبر الفلاسفة ضلّوا في موادّ ما يشرعون. ولم يهتدوا لجادّة الاستقامة الحقة. فأنَّى يمكن لعامة الناس أن يكون لكل منهم دين طبيعي يقبله كيف شاء، ويجعله كشيء مرن، يمده إلى ما طاب له، ويقصره عن كل ما عافه. فيختلف هذا الدين باختلاف العقول والأهواء فيهم. وكيف نسمي شريعة ثابتة عامة، ما كان وقفاً على إرادة كل فرد وأهوائه؟ وإذا سلمنا، مجاراة، أنه يوجد من كان ميّالاً طبعاً إلى الاستقامة والعدل والعفة، فيحمله طبعه على ذلك، فماذا نقول فيمن كان بالطبع محبّاً للانتقام والاعتداء والشهوات. لا سيما والعقل ضعيف والنفس أمّارة بالسوء، فأنَّى يكون العقل وحده وازعاً عن ارتكاب المعاصي والجرائم. فما قضى سبحانه بشريعته لمخلوقاته رحمة منه بهم، إلا لضعفهم وميلهم إلى الشر. وضعف الإنسان وانحرافه يقضي بإلزامه شريعة يخضع لها. فهي ضرورية له ضرورة نظام الأجرام الفلكية لها. وملازمة له ملازمة النطق والإدراك والحرية، ولزوم الامتداد والثقل والجذب والدفع للأجرام الجامدة. وأول بينة على ملازمة الشريعة طبعَ الإنسان، ما يجده في نفسه ووجدانه من انغراسها فيه انغراساً نظريّاً. حتى لا يمكنه أن يجرّد نفسه. مثلاً، كيف يمكن للإنسان، ولو مهما تعامى في الشر، أن يجرّد نفسه عن تصور أنه خاضع لشريعة تنهاه عن القتل واختلاس مال غيره والاعتداء عليه بأيّ نوع كان؟ فالشريعة مكتوبة على قلوبنا في ألواح لحمية. ومن بحث عن عموم سكان البسيطة، وجد إجماع القبائل والشعوب قاطبة على شرائع، وإن اختلفت في بعض موادها. والحرية التي منحت للإنسان إنما قيدت محاسنها بالشرائع والخضوع لها. وإلا فهي دمار لنظام العالم، وجائحة للأدب، وآفة لما غرس البارئ في عقول الناس أجمعين، من عهد آدم إلى يومنا هذا. وذلك لاستلزامها إفساد الطبع الإنساني، والإجحاف بالشرائع الأدبية. لأن الإنسان متى علم أن ليس له إله يثيب على الخير ويعاقب على الشر، أطلق لنفسه عنان الفاسد، واطّرح العذار في مضمار الشهوات وإحراز الرغائب، قضاء لما يحسبه من سعادته، واعتقاد أن نفسه ليست خالدة. وليس لسعادته موضوع خارج عن هذه العاجلة. ولاستلزامها أيضاً هدم الاجتماع الإنسانيّ والذهاب بشأفته. إذ لا ترعى بعد الله ذمة بين الملأ, ولا حرمة للسنن والشرائع, ولا برٌّ بالملوك، ولا عدل بالرعية، ولا محبة ولا صدق ولا وفاء ولا نحو ذلك مما هو ضروريّ بالذات لقيام الألفة البشرية ونظام العمران. وبالجملة، فلا يظنن أحد أن العالم يدوم أو يبقى فيه شيء من النظام أو الهيئة الاجتماعية، إذا لم يكن الناس مقيّدين بشريعة إلهية، تصدّ الفاجر عن الفجور. فكما أن الهواء ضروريّ للحياة الطبيعية، فكذا الشريعة ضرورية للحياة الأدبية. فلا حياة للموجودات الحية دون هواء، فكذا لا انتظام ولا هيئة في العالم دون الشريعة. انتهى. وقال إمام مدقق، في بحث تصحيح الاعتقاد وضرورته لطمأنينة النفس وسعادتها، ما مثاله: إنا نرى أمام أعيننا بعضاً من الناس قد رزقوا صحة عظيمة وثروة جسيمة وتهذبوا بأنواع العلوم والمعارف، ولكنهم كثيرو الضجر شديدو الحيرة. لا يكادون يشعرون بالراحة ولا يتلذذون بملذة. كأن لهم في لذة ألماً، وبإزاء كل فرح ترحاً، يحسّون بكآبة قد رانت على صدورهم: فلا يعلمون سببها ولا يعرفون موجبها. كآبة لا تزايلهم إلا بزوال عقولهم عنهم، بكأس من الرحيق. فلذلك تراهم شديدي الكلف به كثيري التحرق لفقدانه، لأنه دواؤهم الوحيد. ما سر هذا الأرق والضجر، مع هذه الصحة الجسمية وتلك الثروة المالية، وهما الأمران اللذان عليهما، كما يزعمون، مدار السعادة الإنسانية؟ ما هذه الحيرة الوجدانية والوحشة الضميرية، مع تهذبهم بأنواع العلم، وهو كما يزعمون، الشافي للناس من نزعات الوسواس؟. أما يدلنا هذا الضجر السري على أن النفس تائقة لأمر ما، إن غاب على الإنسان علمه، فقد دله عليه أثره. وإن ذلك الأمر ليس هو صحة البدن ولا وفرة المال ولا كثرة البنين، ولا سكنى القصور، ولا أكل الصنوف، ولا سماع العيدان، ولا مغازلة الغيد. بل هو أمر آخر لا تعد هذه الملاذ بالنسبة له إلا هباء، ولا الأكوان بجانبه إلا فناءً.. ما هو هذا الأمر السامي الذي لو حصلت عليه النفس اطمأنت وسكنت، وهامت به وسكرت، ورضيت به وقنعت. هو لا شك صحة المعتقد، وإليك الدليل: ليست النفس من طبيعة هذه الأجسام الصماء. ولا من طينة هذه المادة العمياء، حتى تأنس إلى شيء من أشياء هذه الأرض الحقيرة، أو تهتم بملاذها مهما كانت كبيرة. بل هي من طبيعة نورانية محضة. فلا تأنس إلا لنور يجلي عنها ظلمات الأشياء الأرضية الكثيفة، لتشرف على حضرة القدس المنيفة، وتطل على حظائرها الشريفة. النفس أجلّ من أن تقنع بالمشتهيات الجسمانية، وأكبر من أن ترضى بملاذها المموهة الفانية. فمهما غالط الإنسان نفسه، بجمع المال ورفاهة الحال، ليرتاح سره ويسكن اضطرابه، فإن النفس لا تفتأ تقيم عليه الحجة بعد الحجة، ليهتدي إلى وَضَحِ المحجة. فإن تبصر في أمره، واكتنه حقيقة سره، وأنال نفسه بغيتها من إبلاغها نورها المرجوّ لها، سكن فؤاده وآب إليه رشاده. ولو كان جسمه بين القنا والقنابل. وحاله من الفقر في أخس المنازل. فما هو السبيل إلى إبلاغ هذه النفس الهائمة أمنيتها، وإمتاعها بطلبتها، من صحة العقيدة؟ السبيل لذلك هو العقل السليم. العقل في النوع الإنسانيّ خصيصة من أجلّ خصائصه، ومنحة من أفضل منح الله عليه، لو استعمل فيما وضع له، واعتنى بصحته واعتداله. بالعقل يسبر الإنسان غور هذا الوجود العظيم، على ضخامة أجزائه وعظم أبعاده، ويستكنه سير النواميس السائدة عليه، فيستدل بها على وجود الخالق عزَّ وجلَّ، وعلى تنزه أفعاله عن العبث، وصنائعه عن اللهو. كما يستدل به على علمه وتدبيره ورحمته وحكمته، استدلالاً محسوساً لا يقبل شبهة ولا يداخله ريبة. بالعقل يدرس الإنسان أحوال الجمعيات البشرية. في نواميس رقيّها وهبوطها، وأسباب رفعتها وضعتها. ويتصبر في أحوال الأنبياء الذين أرسلهم الله إلى خلقه هادين مرشدين. فيستدل بالتدقيق فيما جاؤوا به، وفي الآثار التي تركوها، على معنى النبوّة وضرورتها للبشر. وحكمة الله تعالى في اختلاف المدارك والإحساسات، وفي تباين الملل والديانات. بالعقل يميز الإنسان بين أحوال الماضي والحال. فيفرق تبعاً لذلك بين الديانات الخاصة وبين الديانات العامة. ويعثر بتعضيد العلم والبدائة، على الديانة التي يجب أن تكون خاتمة الأديان كلها، وباقية بقاء النوع الإنسانيّ، وهي شريعة خاتم النبيين صلوات الله عليه وسلامه. الرابعة: رأيت للإمام ابن القيّم،رحمه الله ، كلاماً على هذه الآية في كتابيه: " الجواب الكافي " و " مفتاح دار السعادة " فأحببت نقله هنا لفوائده وللعناية بهذه الآية، فإنها جديرة بذلك. قال في " الجواب الكافي " في فصل أَبَان فيه العقوبات المترتبة على المعاصي: ومنها المعيشة الضنك في الدنيا وفي البرزخ والعذاب في الآخرة. قال: وفسرت المعيشة الضنك بعذاب القبر. ولا ريب أنه من المعيشة الضنك. والآية تتناول ما هو أعمّ منه، وإن كانت نكرة في سياق الإثبات، فإن عمومها من حيث المعنى. فإنه سبحانه رتّب المعيشة الضنك على الإعراض عن ذكره. فالمعرض عنه له من ضنك المعيشة بحسب إعراضه، وإن تنعم في الدنيا بأوصاف النعم، ففي قلبه من الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب، والأماني الباطلة والعذاب الحاضر ما فيه، وإنما تواريه عنه سكرات الشهوات والعشق وحب الدنيا والرياسة، إن لم ينضم إلى ذلك سكر الخمر. فسكر هذه الأمور أعظم من سكر الخمر. فإنه يفيق صاحبه، ويصحو. وسكر الهوى وحب الدنيا لا يصحو صاحبه إلا إذا سكر في عسكر الأموات. فالمعيشة الضنك لازمة لمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والبرزخ ويوم المعاد. ولا تقرّ العين ولا يهدأ القلب ولا تطمئن النفس إلا بإلهها ومعبودها الذي هو حق، وكل معبود سواه باطل، فمن قرت عينه بالله، قرت به كل عين. ومن لم تقر عينه بالله , تقطعت نفسه على الدنيا حسرات. والله تعالى إنما جعل الحياة الطيبة لمن آمن بالله وعمل صالحاً، كما قال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 97]، فضمن لأهل الإيمان والعمل الصالح، الجزاء في الدنيا بالحياة الطيبة، والحسنى يوم القيامة. فلهم أطيب الحياتين وهم أحياء في الدارين. ونظير هذا قوله تعالى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ } [النحل: 30]، ونظيرها قوله تعالى: { وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } [هود: 3]، ففاز المتقون المحسنون بنعيم الدنيا والآخرة، وحصلوا على الحياة الطيبة في الدارين، فإن طيب النفس وسرور القلب وفرحه ولذته وابتهاجه وطمأنينته وانشراحه ونوره وسعته وعافيته، من ترك الشهوات المحرمة والشبهات الباطلة، هو النعيم على الحقيقة. ولا نسبة لنعيم البدن إليه، فقد كان بعض من ذاق هذه اللذة يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه، لجالدونا عليه بالسيوف. وقال آخر: إنه يمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، إنهم لفي عيش طيّب. وقال آخر: إن في الدنيا جنة، هي في الدنيا كالجنة في الآخرة. من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. وقد أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هذه الجنة بقوله: < إذا="" مررتم="" برياض="" الجنة="" فارتعوا.="" قالوا:="" وما="" رياض="" الجنة؟="" قال:="" حلق="" الذكر="">. وقال: < ما="" بين="" بيتي="" ومنبري="" روضة="" من="" رياض="" الجنة=""> ولا تظن أن قوله تعالى: { إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [الانفطار: 13 - 14]، يختص بيوم المعاد فقط، بل هؤلاء في نعيم في دورهم الثلاثة. وهؤلاء في جحيم في دورهم الثلاثة. وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من بر القلب وسلامة الصدر ومعرفة الرب تعالى ومحبته والعمل على موافقته؟ وهل عيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم؟ وقد أثنى الله تعالى على خليله عليه السلام بسلامة قلبه فقال: { وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الصافات: 83 - 84]، وقال حاكياً عنه أنه قال: { يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } [الشعراء: 88 - 89]، والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة. فسلم من كل آفة تبعده من الله، وسلم من كل شبهة تعارض خبره، ومن كل شهوة تعارض أمره. وسلم من كل إرادة تزاحم مراده. وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله. فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ وفي جنة يوم المعاد انتهى ملخصاً. وقالرحمه الله في " مفتاح دار السعادة ": فَسَّرَ غير واحد من السلف قوله تعالى: { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً } بعذاب القبر. وجعلوا هذه الآية أحد الأدلة الدالة على عذاب القبر. ولهذا قال: { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } أي: تترك في العذاب كما تركت العمل بآياتنا. فذكر عذاب البرزخ وعذاب دار البوار، ونظيره قوله تعالى في حق آل فرعون: { النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [غافر: 46]، فهذا في البرزخ: { وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } فهذا في القيامة الكبرى. ونظيره قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } فقول الملائكة: { الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } المراد به عذاب البرزخ الذي أوله يوم القبض والموت. ونظيره قوله تعالى: { وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ } [لأنفال: 50]، فهذه الإذاقة في البرزخ. وأولها حين الوفاة، فإنه معطوف على قوله: { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } وهو من القول المحذوف لدلالة الكلام عليه كنظائره. وكلاهما واقع وقت الوفاة. وفي الصحيح، عن البراء بن عازب في قوله: { يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ } [إبراهيم: 27]، قال: نزلت في عذاب القبر. والأحاديث في عذاب القبر تكاد تبلغ حد التواتر. والمقصود أن الله سبحانه أخبر أن من أعرض عن ذكره هو الهدى الذي من اتبعه لا يضل ولا يشقى، بأن له معيشة ضنكاً، وتكفل لمن حفظ عهده أن يحيه حياة طيبة ويجزيه أجره في الآخرة فقال تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل: 97]، فأخبر سبحانه عن فلاح من تمسك بعده علماً وعملاً في العاجلة بالحياة الطيبة، وفي الآخرة بأحسن الجزاء. وهذا بعكس من له المعيشة الضنك في الدنيا والبرزخ، ونسيانه في العذاب في الآخرة. وقال سبحانه: { وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [الزخرف: 36 - 37]، فأخبر سبحانه أن ابتلاءه بقرينه من الشياطين وضلاله به، إنما كان لسبب إعراضه وعشوّه عن ذكره الذي أنزله على رسوله. فكان عقوبة هذا الإعراض، أن قيض له شيطاناً يقارنه فيصده عن سبيل ربه وطريق فلاحه. وهو يحسب أنه مهتد. حتى إذا وافى ربه يوم القيامة من قرينه، وعاين هلاكه وإفلاسه قال: { يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ } [الزخرف: 38]، وكل من أعرض عن الاهتداء بالوحي الذي هو ذكر الله، فلا بد أن يقول هذا يوم القيامة. فإن قيل: فهل لهذا عذر في ضلاله، إذا كان يحسب أنه على هدى كما قال تعالى: { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } [الزخرف: 37]؟ قيل: لا عذر لهذا وأمثاله في الضلال، الذين منشأ ضلالهم الإعراض عن الوحي الذي جاء به الرسول. ولو ظن أنه مهتد، فإنه مفرط بإعراضه عن اتباع داعي الهدى. فإذا ضل فإنما أُتَي من تفريطه وإعراضه. وهذا بخلاف من كان ضلاله لعدم بلوغ الرسالة، وعجزه عن الوصول إليها، فذاك له حكم آخر. والوعيد في القرآن إنما يتناول الأول. وأما الثاني فإن الله لا يعذب أحداً إلا بعد إقامة الحجة عليه كما قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15]، وقال تعالى: { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ } [النساء: 165]، وقال تعالى في أهل النار: { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ } [الزخرف: 76]، وقال تعالى: { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [الزمر: 56 - 59]، وهذا كثير في القرآن. الخامسة: قال ابن القيم: اختلف في قوله تعالى: { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [124]: { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى } [125] هل هو من عمى البصيرة أو من عمى البصر؟ والذين قالوا هو من عمى البصيرة، إنما حملهم على ذلك قوله تعالى: { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [38]، وقوله: { لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ } [قّ: 22]، وقوله: { يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ } [الفرقان: 22]، وقوله: { لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ } [التكاثر: 6 - 7]، ونظائر هذا مما يثبت لهم الرؤية في الآخرة لقوله: { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ } [الشورى: 45]، وقوله: { يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعّاً هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ } [الطور: 13 - 15]، وقوله: { وَرَأى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا } [الكهف: 53]. والذين رجحوا أنه من عمى البصر، قالوا: السياق يدل عليه لقوله: { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً } وهو لم يكن بصيراً في كفره قط، بل قد تبين له حينئذ أنه كان في الدنيا في عمى عن الحق. فكيف يقول: { وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً } وكيف يجاب بقوله: { كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا }؟ بل هذا الجواب فيه تنبيه على أنه من عمي البصر وأنه جوزي من جنس عمله. فإنه لما أعرض عن الذكر الذي بعث الله به رسوله وعميت عنه بصيرته، أعمى الله به بصره يوم القيامة، وتركه في العذاب، كما ترك الذكر في الدنيا، فجازاه على عمى بصيرته عمى بصره في الآخرة. وعلى تركه ذكره، تركه في العذاب. وقال تعالى: { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } [الإسراء: 97]، وقد قيل في هذه الآي أيضاً: إنهم عمي وبكم وصم عن الهدى. كما قيل في هذه الآية قوله: { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } [124]، قالوا لأنهم يتكلمون يومئذٍ ويسمعون ويبصرون. ومن نَصَرَ أنه العمى والبكم والصمم، المضادّ للبصر والسمع والنطق، قال: هو عمي وصمم وبكم مقيد لا مطلق. فهو عمي عن رؤية ما يسرهم وسماعه. وهذا قد روي عن ابن عباس قال: لا يرون شيئاً يسرهم. وقال آخرون: هذا الحشر حين تتوفاهم الملائكة، يخرجون من الدنيا كذلك. فإذا قاموا من قبورهم إلى الموقف قاموا كذلك. ثم إنهم يسمعون ويبصرون فيما بعد. وهذا مروي عن الحسن. وقال آخرون: هذا إنما يكون إذا دخلوا النار واستقروا فيها، سلبوا الأسماع والأبصار والنطق، حين يقول لهم الرب تبارك وتعالى: { اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } [المؤمنون: 108]، فحينئذ ينقطع الرجاء وتبكم عقولهم فَيُبْصَرُونَ بأجمعهم، عمياً بكماً صمّاً، لا يبصرون ولا يسمعون ولا ينطقون. ولا يسمع فيها بعدها إلا الزفير والشهيق. وهذا منقول عن مقاتل. والذين قالوا: المراد به العمي عن الحجة، إنما مرادهم أنهم لا حجة لهم، ولم يريدوا أن لهم حُجَّةً، هم عُمْيٌ عنها، بل هم عُمْيٌ عن الهدى كما كانوا في الدنيا. فإن العبد يموت على ما عاش عليه. ويبعث على ما مات عليه. وبهذا يظهر أن الصواب هو القول الآخر، وأنه عمي البصر. وأن الكافر يعلم الحق يوم القيامة عياناً، ويقرّ بما كان يجحد في الدنيا. فليس هو أعمى عن الحق يومئذ. وفصل الخطاب؛ أن الحشر هو الضم والجمع. ويراد به تارة الحشر إلى موقف القيامة، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم < إنكم="" محشورون="" إليّ="" حفاة="" عُراة=""> وكقوله تعالى: { وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ } [التكوير: 5]، وكقوله تعالى: { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [الكهف: 47]، ويراد به الضم والجمع إلى دار المستقر. فحشر المتقين جمعهم وضمهم إلى الجنة. وحشر الكافرين جمعهم وضمهم إلى النار. لأنه قد أخبر عنهم أنهم قالوا: { يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [الصافات: 20 - 21]، ثم قال تعالى: { احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ } [الصافات: 22]، الآية وهذا الحشر الثاني، وعلى هذا فهم ما بين الحشر الأول من القبور إلى الموقف والحشر الثاني. يسمعون ويبصرون ويجادلون ويتكلمون، وعند الحشر الثاني يحشرون على وجوههم عمياً وبكماً وصماً. ولكل موقف حال يليق به، ويقتضيه عدل الرب تعالى وحكمته. فالقرآن يصدق بعضه بعضاً: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء: 82]. انتهى. السادسة: قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى } أي: لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك، تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها. كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك: { فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } [الأعراف: 51]، فإن الجزاء من جنس العمل. فالنسيان مجاز عن الترك. قال ابن كثير: فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه، والقيام بمقتضاه، فليس دخلاً في هذا الوعيد الخاص. وإن كان متوعداً عليه من جهة أخرى. فإنه قد وردت السنة بالنهي الأكيد والوعيد الشديد في ذلك. روى الإمام أحمد عن سعد بن عُبَاْدَة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: < ما="" من="" رجل="" قرأ="" القرآن="" فنسيه،="" إلا="" لقي="" الله="" يوم="" يلقاه،="" وهو="" أجذم="">؛. السابعة: قوله تعالى: { وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ } الآية، أي: وهكذا نجزي المسرفين المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة. وعذاب الآخرة أشد وأبقى، من ضنك العيش في الدنيا. لكونه دائماً. ثم أشار تعالى إلى تقرير ما تقدم من لحوق العذاب، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى } [128]. { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } أي: لهؤلاء المكذبين: { كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ } أي: الأمم المكذبة للرسل: { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } يريد قريشاً، أي: يتقلّبون في بلاد عاد وثمود ولوط ويعاينون آثار هلاكهم، وأن ليس لهم باقية ولا عين ولا أثر: { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى } أي: العقول السليمة. كما قال تعالى: { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [الحج: 46]، وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً } [129]. { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً } بيان لحكمة تأخير عذابهم مع إشعار قوله: { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } الآية، بإهلاكهم مثل هلاك أولئك والكلمة السابقة، قال القاشانيّ: هو القضاء السابق أن لا يستأصل هذه الأمة بالدمار والعذاب في الدنيا، لكون نبيّهم نبيّ الرحمة. وقوله سبحانه: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ } [الأنفال: 33]. وقال الزمخشري: الكلمة السابقة هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة. يقول: لولا هذه العدة لكان مثل إهلاكنا عاداً وثموداً لازماً لهؤلاء الكفرة. واللزام إما مصدر لازم كالخصام، وصف به مبالغة. أو اسم آلة لأنها تبنى عليه كحزام وركاب، واسمُ الآلة يوصف به مبالغة أيضاً، كقولهم: مِسْعَرُ حَرْبٍ، ولِزَاز خَصْمٍ بمعنى مُلَحّ علَى خَصمه. من لَزَّ بمعنى ضيق عليه. وجوز أبو البقاء فيه كونه جمع لازم. كقيام جمع قائم. وقوله تعالى: { وَأَجَلٌ مُسَمّىً } عطف على كلمة , أي: ولولا أجل مسمى لأعمارهم أو لعذابهم، وهو يوم القيامة أو يوم بدر، لما تأخر عذابهم أصلاً. قال أبو السعود: وفصله عما عطف عليه، للإشعار باستقلال كل منهما، بنفي لزوم العذاب ومراعاة فواصل الآية الكريمة. وقد جوز عطفه على المستكن في كان العائد إلى الأخذ العاجل، المفهوم من السياق، تنزيلاً للفصل بالخبر منزلة التأكيد. لكان الأخذ العاجل، وأجل مسمى لازمين لهم، كدأب عاد وثمود وأضرابهم. ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى } [130]. { فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى } أي: إذا كان تأخير عذابهم ليس بإهمال بل إمهاْل، فاصبر على ما يقولون من كلمات الكفر، فالفاء سببية. والمراد بالصبر عدم الاضطراب لما صدر منهم، لا ترك القتال حتى تكون الآية منسوخة. وفي التسبيح المأمور به وجهان: الأول: أنه التنزيه. والمعنى: ونزه ربك عن الشرك وسائر ما يضيفون إليه من النقائض، حامداً على ما ميّزَك بالهدى، معترفاً بأنه المولى للنعم كلها. ومن صيغه المأثورة: سبحان الله وبحمده. وعليه فسرُّ تخصيص هذه الأوقات الإشارة إلى الدوام، مع أن لبعض الأوقات مزية يفضل بها غيرها. الثاني: أنه الصلاة وهو الأقرب لآية: { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ } [البقرة: 45]، والآيات يفسر بعضها بعضاً. والمعنى: صلَّ وأنت حامد لربك على هدايته وتوفيقه، قبل طلوع الشمس، يعني صلاة الفجر. وقبل غروبها، يعني صلاة الظهر والعصر، لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار، بين زوال الشمس وغروبها: { وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ } أي: من ساعاته، يعني المغرب والعشاء. وإنما قدم الوقت فيهما، لاختصاصهما بمزيد الفضل. وذلك لأن أفضل الذكر ما كان بالليل لاجتماع القلب وهدوءِ الرَّجْلِ والخلوِّ بالرب تعالى. ولأن الليل وقت السكون والراحة، فإذا صرف إلى العبادة كانت على النفس أشد وأشق، وللبدن أتعب وأنصب، فكانت أفضل عند الله وأقرب. قوله تعالى: { وَأَطْرَافَ النَّهَارِ } تكرير لصلاة الفجر والمغرب، إيذاناً باختصاصهما بمزيد مزية. ومجيئه بلفظ الجمع لأمن الإلباس، والمرجح مشاكلته لـ: { آنَاءِ اللَّيْلِ } أو أمر بصلاة الظهر. فإنه نهاية النصف الأول من النهار، وبداية النصف الأخير. وجمعه باعتبار النصفين. أو لأن النهار جنس فيشمل كل نهار، أو أمر بالتطوع في أجزاء النهار. وقال الرازي: إنما أمر، عقيب الصبر، بالتسبيح، لأن ذكر الله تعالى يفيد السلوة والراحة. إذ لا راحة للمؤمنين دون لقاء الله تعالى. قلت: وقد أشير إلى حكمة الأمر بالصبر والتسبيح بقوله تعالى: { لَعَلَّكَ تَرْضَى } أي: رجاء أن تنال ما به ترضى نفسك، من رفع ذكرك. ونقهرك على عدوك وبلوغ أمنيتك من ظهور توحيد ربك وهذا كقوله تعالى: { عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً } [الإسراء: 79]، وقوله تعالى: { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى } [الضحى: 5]. ثم أشار تعالى إلى أن ما متع به الكفار من الزخارف، إنما هو فتنة لهم فلا ينبغي الرغبة فيه، وإن ما أويته أجلّ وأسمى، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [131]. { وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ } أي: أصنافاً من الكفرة: { زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي زينتها. منصوب على البدلية من: { أَزْوَاجاً } أو بـ: { مَتّعْنَا } على تضمينه معنى: أعطينا وخولنا: { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي: لنختبرهم فيما متعناهم به من ذلك ونبتليهم. فإن ذلك فانٍ وزائل وغرور وخدع تضمحل. قال أبو السعود: { لِنَفْتِنَهُمْ } متعلق بـ: { مَتَّعْنَا } جيء به للتنفير عنه ببيان سوء عاقبته مآلاً، إثر إظهار بهجته حالاً. أي: لنعاملهم معاملة من يبتليهم ويختبرهم فيه. أو لنعذبهم في الآخرة بسببه: { وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } أي: ثوابه الأخرويّ خير في نفسه مما متعوا به وأدوم، كقوله تعالى: { ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } [القصص: 80]، أو المعنى ما أوتيت من النبوة والهدى، خير مما فتنوا به وأبقى، لأنه لا مناسبة بين الهدى الذي تتبعه السعادة في الدارين، وبين زهرة يتمتع بها مدة ثم تذبل وتفنى. وفي التعبير بالزهرة إشارة لسرعة الاضمحلال، فإن أجلها قريب. ومن لطائف الآية ما قاله الزمخشريرحمه الله ، ونصه: مد النظر تطويله وأن لا يكاد يرده استحساناً للمنظور إليه، وإعجاباً به وتمنياً أن يكون له. كما فعل نظارة قارون حين قالوا: { يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [القصص: 79]، حتى واجههم أولوا العلم و الإيمان بـ: { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } [القصص: 80]. وفيه: أن النظر غير الممدود معفوّ عنه. وذلك مثل نظر من باده الشيء بالنظر ثم غض الطرف. ولما كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع، وإن من أبصر منها شيئاً أحب أن يمد إليه نظره ويملأ منه عينيه، قيل: ولا تمدّن عينيك. أي: لا تفعل ما أنت معتاد له وضارٍ به. ولقد شدد العلماء من أهل التقوى في وجب غض النظر عن أبنية الظلمة، وعدد الفسقة في اللباس و المراكب وغير ذلك، لأنهم إنما اتخذوا هذه الأشياء لعيون النظارة، فالناظر إليها محصل لغرضهم، وكالمغري لهم على اتخاذها. وقوله تعالى: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } [132]. { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ } يعني بأهله: أهل بيته أو التابعين له. أي: مرهم بإقامتها لتجذب قلوبهم إلى خشية الله: { وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا } أي: على أدائها، لترسخ بالصبر عليها ملكة الثبات على العبادة، والخشوع والمراقبة، التي ينتج عنها كل خير. ثم أشار تعالى إلى أن الأمر بها، إنما هو لفلاح المأمور ومنفعته، ولا يعود على الآمر بها نفع ما, لتعاليه وتنزهه بقوله: { لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ } أي: لا نسألك مالاً. بل نكلفك عملاً ببدنك نؤتيك عليه أجراً عظيماً وثواباً جزيلاً. ومعنى نحن نرزقك: أي: نحن نعطيك المال ونكسبك ولا نسألكه. قاله ابن جرير. وقال أبو مسلم: المعنى أنه تعالى إنما يريد منه ومنهم العبادة. ولا يريد منه أن يرزقه كما تريد السادة من العبيد الخراج. وهو كقوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ } [الذاريات: 56 - 57]، وقال بعض المفسرين: معنى الآية. أقبل مع أهلك على الصلاة واستعينوا بها على خصاصتكم. ولا تهتموا بأمر الرزق والمعيشة، فإن رزقك مكفي من عندنا، ونحن رازقوك. وهذا المعنى لا تدل عليه الآية منطوقاً ولا مفهوماً. وفيه حض على القعود عن الكسب، ومستند للكسالى القانعين بسكنى المساجد عن السعي المأمور به. وقد قال تعالى في وصف المتقين: { رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ } [النور: 37]، إشارة إلى جمعهم بين الفضيلتين { رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً } [البقرة: 201]. وقوله تعالى: { وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } أي: والعاقبة الحسنة من عمل كل عامل، لأهل التقوى والخشية من الله، دون من لا يخاف له عقاباً ولا يرجو له ثواباً. (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى } [133] { وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ } يعنون ما تعنتوا في اقتراحه مما تقدم، في سورة بني إسرائيل، من قوله تعالى: { وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ } [الإسراء: 90 - 91]. وقوله تعالى: { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى } أي: أو لم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب، من أنباء الأمم من قبلهم، التي أهلكناهم لما سألوا الآيات، فكفروا بها لما أتتهم، كيف عجلنا لهم العذاب، وأنزلنا بهم بأسنا بكفرهم بها. يقول: فماذا يؤمنهم إن أتتهم الآية، أن يكون حالهم حال أولئك. هذا ما قاله ابن جرير. وذهب غيره إلى أن المعنى: أو لم يأتهم آية هي أم الآيات وأعظمها، وهي معجزة القرآن المبينة لما في الكتب الأولى من التوراة والإنجيل والزبور. مع أن الآتي بها أّمّيُّ لم يرها ولم يعلم ممن علمها. فنقب منها على الصحيح من أنبائها فصدقه، وعلى الباطل المحرف فَفَنَّدَهُ. وفيه إشعار بكفاية التنزيل في الإعجاز والبرهان كما قال تعالى في سورة العنكبوت: { وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [العنكبوت: 50 - 51]، ولذلك قال أحد حكماء الإسلام: إن الخارق للعادة الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته إلى التصديق برسالة النبيّ صلى الله عليه وسلم هو الخارق الذي تواتر خبره ولم ينقطع أثره. وهو الدليل وحده. وما عداه مما ورد في الأخبار، سواء صح سندها أو اشتهر أو ضعف أو وهي، فليس مما يوجب القطع عند المسلمين. فإذا أورد في مقام الاستدلال، فهو على سبيل التقوية للعقد لمن حصل أصله، وفضلٌ من التأكيد لمن سلمه من أهله. ذلك الخارق المتواتر المعول عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين، هو القرآن وحده. والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة، تدل على أن موحيه هو الله وحده وليس من اختراع البشر، هو أنه جاء على لسان أميّ لم يتعلم الكتاب ولم يمارس العلوم، وقد نزل على وتيرة واحدة هادياً للضال مقوماً للمعوج كافلاً بنظام عام لحياة من يهتدي به من الأمم، منقذاً لهم من خسران كانوا فيه. وهلاك كانوا أشرفوا عليه. وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه، حتى لقد دعي الفصحاء والبلغاء، أن يعارضوه بشيء من مثل، فعجزوا ولجأوا إلى المجالدة بالسيوف، وسفك الدماء واضطهاد المؤمنين به، إلى أن ألجاؤهم إلى الدفاع عن حقهم، وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد عالمها بأضوائها، وتنشر أنوارها في جوائها. وهذا الخارق قد دعا الناس إلى النظر فيه بعقولهم. وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم، فإما وجدوا طريقاً لإبطال إعجازه أو كونه لا يصلح دليلاً على المدعي، فعليهم أن يأتوا به، قال تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ } [البقرة: 23]، وقال: { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً } [النساء: 82]، وقال غير ذلك، مما هو مطالبة بمقاومة الحجة بالحجة. ولم يطالبهم بمجرد التسليم على رَغْمٍ من العقل. معجزة القرآن جامع من القول والعلم. وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم. فهي معجزة عرضت على العقل وعرفته القاضي فيها، وأطلقت له حق النظر في أنحائها [في المطبوع: أحنائها]. ونشر ما انطوى في أثنائها. وله منها حظه الذي لا ينتقص. فهي معجزة أعجزت كل طوق أن يأتي بمثلها. ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها. أما معجزة موت حيّ بلا سبب معروف للموت، أو حياة ميت أو إخراج شيطان من جسم، أو شفاء علة من بدن، فهي مما ينقطع عنده العقل ويجمد لديه الفهم. وإنما يأتي بها الله على يد رسله لإسكات أقوام غلبهم الوهم ولم تضئ عقولهم بنور العلم. وهكذا يقيم الله بقدرته من الآيات للأمم على حسب الاستعدادات. وقال فاضل آخر: قضت مراحم الله جلّ شانه أن يكوّن الأكوان في الطبيعة على ترتيب محكم. ينطلق بلسان الصمت للمتبصر، ويظهر بلباس الوضوح للمتفكر، ويحبب إليه الانتقال منه إلى غيره بدون أن يشعر بملل ولا سآمة، ولا يؤوب من استبصاره بندامة، بدون هذا الاعتبار بالعقل، لا يأتي للنفس أن تصح عقيدتها، ولا يتأتى لها تبعاً لذلك أن تسكن من اضطرابها. هذا، ولا ننكر أنه قد مضى على النوع الإنساني زمن كان فيه العقل في دور الطفولية. وكان يكفيه في الإيمان أن يندهش لأمر خارق للطبيعة، يعطل من سير نواميسها وقتاً مّاً. وكان الله سبحانه وتعالى يرأف بعباده فيرسل إليهم رسلاً يمتعهم بخصائص تعجز عن اكتناه سرها عقولهم. وتندهش لها ألبابهم، فيستدلون بهذه المعجزات على صدق الرسول وضرورة اتباعه، وأما الآن، حيث بلغ العقل أشده، والنوع الإنسانيّ رشده، فلا تجدي فيه معجزة، ولا تنفع فيه غريبة. لأن الشكوك قد كثرت مع كثرة الموادّ العلمية. فإن حدث حادث من هذا القبيل رموا فاعله بالتدليس أوّلاً، ثم إذا ظهر لهم براءته منه أخذوا يعللون معجزته بكل أنواع التعليلات. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإن طائفة الاسبيريت الروحيين في أوربا تعمل الآن من الأعمال المدهشة الخارقة لنواميس الطبيعة، ما لو رآه الجهلاء لظنوا به أنه من أكبر المعجزات، من أن القوم لا يدَّعون النبوة، ولا يزعمون الرسالة. نعم، لا ننكر أن أعمال هذه الطائفة ليست من نوع معجزات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولكنه بدون شك، يقلل من أهميتها في نظر الذين يقفون مع ظواهر الأشياء. ومما يدل على أن هذه القرون الأخيرة لا تروج فيها مسائل المعجزات، تكذيب علماء أوربا بكل المعجزات السابقة. وهو، وإن كان تهوراً منهم، إلا أنهم مصيبون في قولهم إننا في زمان لا يجدي فيه الاعتقاد إلا النور العقلي والدليل العلمي. لهذه الأسباب جاءت الشريعة الإسلامية تدعو إلى السبيل الحق، ببدائه العقل، وقواعد العلم. صارفة النظر عن المعجزات وإظهار المدهشات. لعلم الله سبحانه وتعالى بأنه سيأتي زمان تؤثر فيه المقررات العلمية على القوة العقلية، ما لا تؤثر عليها الخوارق للنواميس الطبيعية. انتهى. ثم أشار تعالى إلى منته في إرسال الرسول صلوات الله عليه، والإعذار ببعثته، بقوله سبحانه: (/) القول في تأويل قوله تعالى: { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى } [134 - 135]. { وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ } أي: من قبل إتيان البينة، أو محمد عليه السلام: { لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ } أي: بالعذاب الدنيويّ: { وَنَخْزَى } أي: بالعذاب الأخرويّ. أي: ولكنا لم نهلكهم قبل إتيانها. فانقطعت معذرتهم. فعند ذلك، قالوا: بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا: ما نزل الله من شيء: { قُلْ } أي: لأولئك الكفرة المتمردين: { كُلٌّ } أي: منا ومنكم: { مُتَرَبِّصٌ } أي: منتظر لما يؤول إليه أمرنا وأمركم: { فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ } أي: عن قرب: { مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ } أي: المستقيم: { وَمَنِ اهْتَدَى } أي: من الزيغ والضلالة. أي: هل هو النبي وأتباعه، أم هم وأتباعهم. وقد حقّق الله وعده. ونصر عبده. وأعز جنده. وهزم الأحزاب وحده. فله الحمد في الأولى والآخرة.