التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِي مَرَجَ ٱلْبَحْرَيْنِ هَـٰذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَـٰذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً
٥٣
-الفرقان

محاسن التأويل

{ وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ } أرسلهما متجاورين متلاصقين، بحيث لا يتمازجان: { هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ } أي: شديد العذوبة قامع للظمأ: { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي: بليغ الملوحة: { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } أي: حاجزاً لا يختلط أحدهما بالآخر: { وَحِجْراً مَحْجُوراً } أي: منعاً من وصول أثر أحدهما إلى الآخر، وامتزاجه به، حتى بعد دخول أحدهما في الآخر مسافة.
لطيفة:
تلطف هنا المهايميّ في تأويل الآية، بمعنى يصلها بالآية قبلها، في أسلوب غريب. قالرحمه الله في قوله تعالى: { وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً }: يؤثر في بواطنهم فيكون: { كَبِيراً } يفوق ما يؤثر في الظواهر وإن زعموا أنه كيف يجاهد بالدلائل من يورد شبهات تجاورها؟ قيل: غاية أمرها أن يكونا كالبحرين المختلفين المتجاورين. وقد رفع الله الالتباس بينهما بعد ما جاور بينهما وهما محسوسان، فكيف لا يرفع الالتباس بين البحرين المعقولين إذ: { هُوَ الَّذِي مَرَجَ } أي: جاور: { الْبَحْرَيْنِ } اللذين بينهما غاية الخلاف إذ: { هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ } أي: قاطع للعطش وهو مثل بحر الدلائل المفيدة للذوق، القاطعة عطش الطلب: { وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي: مبالغ في الملوحة. وهو مثل بحر الشبهات الموجبة للنفرة جدّاً لأهل الذوق وأما لأهل النظر فقد: { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً } أي: مانعاً من الخلط. وهو النظر في مواد المقدمات وصورها ليعلم بذلك صحة الدلائل وأما فساد الشبهات فيعلم بالاعتراضات التي لا جواب عنها، كما أنه جعل بينهما: { حِجْراً } أي: منعاً من وصول أثر أحدهما إلى الآخر: { مَحْجُوراً } أي: ممنوعاً أن يمنع. وإن زعموا أن كل فرقة ترى ممسكاته تفيده الذوق وتقطع عنه الطلب ويتنفر عن متمسكات صاحبه أشد من التنفر عن الملح الأجاج، قيل: ليس هذا بالنظر إلى نفس الدلائل، بل بواسطة التعصب من جهة الآباء والمشايخ والأصحاب. وقد أوجد الله لإزالة العذر عنه مثالاً، في قوله: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ ... }.