التفاسير

< >
عرض

إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
١٢٠
-آل عمران

محاسن التأويل

{ إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ } بظهوركم على العدو، ونيلكم الغنيمة، وخصب معاشكم، وتتابع الناس في دينكم: { تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ } بإصابة العدو منكم، أو اختلاف بينكم، أو جدب أو بلية: { يَفْرَحُواْ بِهَا } ولا يعلمون ما لله تعالى في ذلك من الحكمة.
لطيفة
المس أصله باليد، ثم يسمى كل ما يصل إلى الشيء مسّا. والتعبير به في جانب الحسنة، وبالإصابة في جانب السيئة للتفنن. وقد سوى بينهما في غير هذا الموضع كقوله:
{ { إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ } [التوبة: 50] وقوله: { { مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } [النساء: 79]. وقال: { { إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً } [المعارج 20 - 21].
قال ناصر الدين في " الانتصاف ": يمكن أن يقال: المس أقل تمكناً من الإصابة، وكأنه أقل درجاتها، فكأن الكلام - والله أعلم - إن تصبكم الحسنة أدنى إصابة تسؤهم ويحسدوكم عليها. وإن تمكنت الإصابة منكم وانتهى الأمر فيها إلى الحد الذي يرثي الشامت عنده منها، فهم لا يرثون لكم ولا ينفكّون عن حسدهم، ولا في هذه الحال، بل يفرحون ويسرون. والله أعلم - انتهى -.
وهذا من أسرار بلاغة التنزيل. فدل التعبير على إفراطهم في السرور والحزن. فإذا ساءهم أقل خيرنا، فغيره أولى، وإذا فرحوا بأعظم المصائب مما يرثي له الشامت فهم لا يرجى موالاتهم أصلاً. فكيف تتخذونهم بطانة؟. قال البقاعي: ولما كان هذا الأمر منكياً غائظاً مؤلماً داواهم بالإشارة إلى النصر بشرط التقوى والصبر فقال: { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } أي: تصبروا على ما يبتليكم الله به من الشدائد والمحن والمصائب، وتثبتوا على الطاعة وتنفوا الاستعانة بهم في أموركم، والالتجاء إلى ولايتهم: { لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } لأن المتوكل على الله الصابر على بلائه، المستعين به لا بغيره: ظافر في طلبته، غالب على خصمه، محفوظ بحسن كلاءة ربه. والمستعين بغيره: مخذول موكول إلى نفسه، محروم عن نصرة ربه، أفاده القاشاني.
وقيل: المراد بنفي الضرر عدم المبالاة به، لأن المتدرب بالاتقاء والصبر يكون قليل الانفعال، جريئاً على الخصم. الكيد: الاحتيال على إيقاع الغير في مكروه: { إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } قرئ بياء الغيبة، على معنى أنه عالم بما يعملون في معاداتكم من الكيد فيعاقبهم عليه. وبتاء الخطاب، أي: بما تعملون من الصبر والتقوى فيجازيكم بما أنتم أهله.
تنبيه مهم
قال الرازي: إطلاق لفظ المحيط على الله مجاز، لأن المحيط بالشيء هو الذي يحيط به من كل جوانبه، وذلك من صفات الأجسام، لكنه تعالى لما كان عالماً بكل الأشياء، قادراً على كل الممكنات، جاز في مجاز اللغة أنه محيط بها، ومنه قوله:
{ { وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ } [البروج: 20]. انتهى.
أقول: ما ذكره شبهة جهمية مبناها قياس صفة القديم على الحوادث، وأخذ خاصتها به، وهو قياس مع الفارق. والسمعيات تتلقى من عرف المتكلم بالخطاب، لا من الوضع المحدث. فليس لأحد أن يجعل الألفاظ التي جاءت في القرآن موضوعة لمعاني، ثم يريد أن يفسر مراد الله تعالى بتلك المعاني، وتتمة هذا البحث تقدمت في تفسير " الرحمن الرحيم " من البسملة أول التنزيل الجليل. فارجع إليها.