التفاسير

< >
عرض

وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي ٱللَّهُ ٱلشَّاكِرِينَ
١٤٤
-آل عمران

محاسن التأويل

{ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } والرسل منهم من مات، ومنهم من قتل، فلا منافاة بين الرسالة والقتل والموت، إذ: { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ } فسيخلو كما خلوا: { أَفَإِن مَّاتَ } أي: أتؤمنون به في حال حياته، فإن مات: { أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ } أي: ارتددتم: { عَلَى أَعْقَابِكُمْ } أي: بعد علمكم بخلو الرسل قبله، وبقاء دينهم، متمسكاً به: { وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً } وإنما يضر نفسه بتعريضها للسخط والعذاب: { وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ } بالنصر والغلبة في الدنيا، والثواب والرضوان في الآخرة، وهم الذين لم ينقلبوا، بل قاموا بطاعته، وقاتلوا على دينه، واتبعوا رسوله حياً وميتاً. وسماهم شاكرين لأنهم شكروا نعمة الإسلام الذي هو أجلّ نعمة وأعزّ معروف. والمعنى: أن من كان على يقين من دينه، وبصيرة من ربه، لا يرتد بموت الرسول وقتله، ولا يفتر عما كان عليه، لأنه يجاهد لربه لا للرسول، كأصحاب الأنبياء السالفين، كما قال أنس عم أنس بن مالك، يوم أحد حين أرجف بقتل رسول الله عليه السلام وشاع الخبر، وانهزم المسلمون، وبلغ إليه تفاؤل بعضهم: ليت فلاناً يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وقول المنافقين: لو كان نبياً ما قتل: يا قوم إن كان محمد قد قتل، فإن رب محمد حي لا يموت، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء هؤلاء، ثم شد بسيفه وقاتل حتى قتل - أفاده القاشاني -.
روى ابن أبي نَجِيْح عن أبيه أن رجلاً من المهاجرين مرّ على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه، فقال له: يا فلان أشعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل؟ فقال الأنصاري: إن كان محمد قد قتل، فقد بلّغ، فقاتلوا عن دينكم، فنزل: { وَمَا مُحَمَّدٌ } الآية. ورواه أبو بكر البيهقي في " دلائل النبوة ".
قال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد ":
ومنها: أي: من الغايات في هذه الغزوة أن وقعة أحد كانت مقدمة وإرهاصاً بين يدي موت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنبأهم ووبخهم على انقلابهم على أعقابهم إن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قتل. بل الواجب له عليهم أن يثبتوا على دينه وتوحيده، يموتوا عليه ويقتلوا، فإنهم إنما يعبدون رب محمد وهو حي لا يموت. فلو مات محمد أو قتل لا ينبغي لهم أن يصرفهم ذلك عن دينه، وما جاء به، فكل نفس ذائقة الموت، وما بعث محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ليخلد، لا هو ولا هم، بل ليموتوا على الإسلام والتوحيد، فإن الموت لا بد منه، فسواء مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بقي، ولهذا وبخهم على رجوع من رجع منهم عن دينه لما صرخ الشيطان بأن محمداً قد قتل، فقال: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ } الآية - والشاكرون هم الذين عرفوا قدر النعمة، فثبتوا عليها حتى ماتوا وقتلوا، فظهر أثر هذا العتاب، وحكم هذا الخطاب يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتد من ارتد على عقبيه، وثبت الشاكرون على دينهم، فنصرهم الله وأعزهم، وأظفرهم بأعدائهم وجعل العاقبة لهم - انتهى -.
وثبت في الصحيح أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه تلا هذه الآية يوم موت النبي صلى الله عليه وسلم. وتلاها منه الناس كلهم، والحديث مشهور. ثم أخبر تعالى أنه جعل لكل نفس أجلاً، لا بد أن تستوفيه وتلحق به، فيرد الناس كلهم حوض المنايا مورداً واحداً، وإن تنوعت أسبابه، ويصدرون عن موقف القيامة مصادر شتى، فريق في الجنة وفريق في السعير، بقوله:
{ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ... }.