التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٥٢
-آل عمران

محاسن التأويل

{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ } في قوله: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ } { إِذْ تَحُسُّونَهُم } أي: تقتلونهم قتلاً كثيراً. من حسه إذا أبطل حسه: { بِإِذْنِهِ } أي: بتيسيره وتوفيقه: { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ } أي: ضعفتم وتراخيتم بالميل إلى الغنيمة: { وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ } أي: في الإقامة بالمركز، فقال أصحاب عبد الله: الغنيمة. أي: قوم ! الغنيمة. ظهر أصحابكم فما تنظرون؟ قال عبد الله بن جبير: أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إنا والله لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتوهم صرفت وجوههم، فأقبلوا منهزمين - رواه الإمام أحمد -.
والأمر إما بمعنى الشأن والقصة، وإما الذي يضاده النهي أي: فيهم أمرتم به من عدم البراح: { وَعَصَيْتُم } أي: أمر الرسول أن لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم، وإن رأيتموهم ظهروا علينا، فلا تعينونا - رواه البخاري -: { مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ } أي: من الظفر والغنيمة، وانهزام العدو. روى البخاري عن البراء قال: لقينا المشركين يومئذ، وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم جيشاً من الرماة، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير وقال: لا تبرحوا إن رأيتمونا ظهرنا عليهم - بلفظ ما تقدم - ثم قال البراء: فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، رفعن عن سوقهن، قد بدت خلاخلهن، فأخذوا يقولون: الغنيمة الغنيمة.. الحديث { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } أي: الغنيمة فترك المركز { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ } فثبت فيه، وهم الذين نالوا شرف الشهادة، ومنهم أنس بن النضر الأسد المقدام، القائل وقتئذ: اللهم ! إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني المسلمين، وأبرأ إليك مما جاء به المشركون، فتقدم بسيفه، فلقي سعد بن معاذ فقال: أين يا سعد؟ إني أجد ريح الجنة دون أُحُد ! فمضى فقتل، فما عرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه، وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم - هذا لفظ البخاري - وأخرجه مسلم بنحوه، فرضي الله عنه وأرضاه وقدس روحه الزكية: { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } أي: كفكم عنهم حتى حالت الحال، ودالت الدولة. وفيه من اللطف بالمسلمين ما لا يخفى: { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أي: ليجعل ذلك الصرف محنة عليكم لتتوبوا إلى الله، وترجعوا إليه، وتستغفروه فيما خالفتم فيه أمره، وملتم إلى الغنيمة. ثم أعملهم أنه تعالى قد عفا عنهم بقوله: { وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ } أي: تفضلاً عليكم لإيمانكم: { وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } أي: في الأحوال كلها، إما بالنصرة [ و ] إما بالابتلاء، فإن الابتلاء فضل ولطف خفي، ليتمرنوا بالصبر على الشدائد، والثبات في المواطن، ويتمكنوا في اليقين، ويجعلوه ملكة لهم، ويتحققوا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولا يميلوا إلى الدنيا وزخرفها، ولا يذهلوا على الحق، وليكون عقوبة عاجلة للبعض، فيتمحصوا عن ذنوبهم، وينالوا درجة الشهادة، فيلقوا الله ظاهرين - أفاده القاشاني -.
لطائف
الأولى: إذا في قوله تعالى: { حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ } إما شرط، أو لا. وعلى الأول فجوابها إما محذوف أو مذكور. فتقديره على كونه محذوفاً: حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون، منعكم الله نصره - لدلالة صدر الآية عليه - أو صرتم فريقين، لأن قوله تعالى: { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ } الخ يفيد فائدته ويؤدي معناه، وعلى كونه مذكوراً فهو إما: { وَعَصَيْتُمْ } والواو صلة، وحكي هذا عن الكوفيين والفراء. قالوا: ونظيره قوله تعالى:
{ { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ } [الصافات: 103 - 104]. والمعنى: ناديناه.
وبعض من نصر هذا الوجه زعم أن من مذهب العرب إدخال الواو في جواب حتى إذا بدليل قوله تعالى:
{ { حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } [الزمر: 73]. أي: فتحت. وأجابوا عما أورد عليهم من لزوم تعليل الشيء بنفسه - إذ الفشل والتنازع معصية فكيف يكونان علة لها - بأن المراد من العصيان خروجهم عن ذلك المكان. ولا شك أن الفشل والتنازع هو الذي أوجب خروجهم عنه، فلا لزوم. وإما قوله تعالى: { صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } وكلمة ثم صلة - قاله أبو مسلم -.
وعلى الثاني: أعني كونها ليست شرطاً فهي اسم و حتى حرف جر بمعنى إلى متعلقة بقوله تعالى: { صَدَقَكُمُ } باعتبار تضمنه لمعنى النصر، كأنه قيل: لقد نصركم الله إلى وقت فشلكم وتنازعكم.
الثانية: فائدة قوله تعالى: { مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ } التنبيه على عظم المعصية، لأنهم لما شاهدوا أن الله تعالى أكرمهم بإنجاز الوعد، كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية، فلما أقدموا عليها سلبوا ذلك الإكرام.
الثالثة: ظاهر قوله تعالى: { وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ }. أنه تعالى عفا عنهم من غير توبة, لأنها لم تذكر , فدل على أنه تعالى قد يعفو عن أصحاب الكبائر.
الرابعة: في قوله تعالى: { وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }. دليل على أن صاحب الكبيرة مؤمن, فإن الذنب في الآية كان كبيرة - والله أعلم -.
ثم ذكرهم تعالى بحالهم وقت الفرار بقوله:
{ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ ... }.