التفاسير

< >
عرض

ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٥
-الأحزاب

محاسن التأويل

{ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } أي: انسبوهم إليهم، وهو إفراد للمقصود من أقواله تعالى الحقة: { هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ } أي: أعدل وأحكم. قال ابن كثير: هذا الأمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام، من جواز ادعاء الأبناء الأجانب وهم الأدعياء، فأمر تبارك وتعالى بردّ نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة، وأن هذا هو العدل والقسط والبر. روى البخاري عن ابن عمر قال: إن زيد بن حارثة رضي الله عنه، مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ما كنا ندعوه إلا زيد بن محمد، حتى نزل القرآن: { ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ }. وأخرجه مسلم وغيره.
وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه، في الخلوة بالمحارم وغير ذلك، ولهذا
"قالت سهلة بنت سهيل، امرأة أبي حذيفة رضي الله عنها: يا رسول الله! إنا ندعوا سالماً ابناً، وإن الله قد أنزل ما أنزل، وإنه كان يدخل عليّ، وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئاً. فقال صلى الله عليه وسلم: أرضعيه تحرمي عليه... الحديث" . ولهذا لما نسخ هذا الحكم، أباح تبارك وتعالى زوجة الدعيّ، وتزوج رسول الله صلّى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش، مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه. وقال عز وجل: { لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً } [الأحزاب: 37] وقال تبارك وتعالى في آية التحريم: { { وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ } [النساء: 23]، احترازاً عن زوجة الدعيّ، فإنه ليس من الصلب. فأما الابن من الرضاعة، فمُنزّل منزلة ابن الصلب شرعاً، بقوله صلى الله عليه وسلم في "الصحيحين": "حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب" .
فأما دعوة الغير ابناً، على سبيل التكريم والتحبيب، فليس مما نهى عنه في هذه الآية، بدليل ما رواه الامام أحمد وأهل السنن، إلا الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: قال: "قدّمنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أغليمةَ بني عبد المطلب على جمرات لنا من جَمْع فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: أُبَيْنِيّ! لاترموا الجمرة حتى تطلع الشمس" . قال أبو عبيدة وغيره: أُبَيْنيّ، تصغير ابني. وهذا ظاهرالدلالة؛ فإن هذا في حجة الوداع سنة عشر.
وفي مسلم عن أنس قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلم:
"يابنيّ" . رواه أبو داود والترمذي. انتهى كلام ابن كثير.
وفي ذهابه إلى أن الأمر في الآية ناسخٌ نظرٌ؛ لأن الناسخ لابد أن يرفع خطاباً متقدماً، وأما ما لاخطاب فيه سابقاً، بل ورد حكماً مبتدأ رفع البراءة الأصلية، فلا يسمّى نسخاً اصطلاحاً. فاحفظه؛ فإنه مهم ومفيد في عدة مواضع.
ولما أمر تعالى بردّ أنساب الأدعياء إلى آبائهم، إن عرفوا، أشار إلى دعوتهم بالإخوة والمولوية إن لم يعرفوا، بقوله سبحانه: { فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ } أي: فتنسبوهم إليهم: { فَإِخْوَانُكُمْ } أي: فهم إخوانكم: { فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } أي: أولياؤكم فيه؛ أي: فقولوا: هذا أخي، وهذا مولاي، ويا أخي ويا مولاي: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي إثم: { فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ } أي: فيما فعلتموه من نسبة بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة، مخطئين بالسهو أو النسيان، أو سبق اللسان؛ لأن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ، ورفع إثمه: { وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } أي: ففيه الجناح؛ لأن من تعمد الباطل كان آثماً: { وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } أي: لعفوه عن المخطىء.