التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ ٱلنَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَـكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَٱدْخُلُواْ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَٱنْتَشِرُواْ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي ٱلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَٱللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ ٱلْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَٱسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ ٱللَّهِ وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذٰلِكُمْ كَانَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيماً
٥٣
-الأحزاب

محاسن التأويل

{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } هذا خطاب لبعض الصحب، وحظر عليهم أن يدخلوا منازله صلّى الله عليه وسلم بغير إذن , كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام. و: { إِلَى } متعلق بـ: { يُؤْذَنَ } بتضمين معنى الدعاء، للإشعار بأنه لا ينبغي أن يدخلوا على الطعام بغير دعوة، وإن تحقق إذن؛ كما يشعر به قوله تعالى: { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } أي: غير منتظرين وقته، وإدراكه.
قال ابن كثير: أي: لا ترقبوا الطعام إذا طبخ، حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول فإن هذا مما يكرهه الله ويذمه. وهذا دليل على تحريم التطفل؛ وهو الذي تسميه العرب الضيفن، وقد صنف الخطيب البغدادي في ذلك كتاباً في ذم الطفيليين، وذكر من أخبارهم أشياء يطول إيرادها. انتهى.
وأقول: قد يكون معنى قوله: { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } نهياً لهم أن يدخلوا - مع كونهم مأذوناً لهم ومدعوين - قبل الميعاد المضروب لهم حضورهم فيه، عجلة وانتظاراً لنضج الطعام. فإن ذلك مما يؤذي قلب صاحب الدعوة، لشغل هذه الحصة معهم بلا فائدة، إلا ضيق صدر الداعي وأهله، وشغل وقته وتوليد حديث، وتكلفاً لكلام لا ضرورة له، وإطاقة زمن الحجاب على نسائه، وما ذلك إلا من شؤم التعجيل قبل الوقت، ولذلك قال تعالى: { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا } أي: إذا دعيتم إلى الدخول، في وقته، فادخلوا فيه لا قبله ولا بعده. فـ: { لَكِنْ } استدراك من النهي عن الدخول، مع الإذن المطلق الذي هو الدعوة بتعليم أدب آخر، وإفادة شرط مهم، وهو الإشارة إلى أن للدعوة حيناً ووقتاً يجب أن يراعى زمنه، وهذا المنهي عنه لم يزل يرتكبه ثقلاء القرويين، ومن شاكلهم من غلظاء المدنيين الذين لم يتأدبوا بآداب الكتاب الكريم والسنة المطهرة؛ وهو أنهم إذا دعوا لتناول طعام يتعجلون المجيء قبل وقته بساعات، مما يغم نفس الداعي وأهله، ويذهب لهم جانباً من عزيز وقتهم عبثاً إلا في سماع حديثهم البارد، وخدمتهم المستكرهة كما قدمنا، فعلى ما ذكرناه يكون في الآية فائدة جميلة، وحكم مهم، وهو حظر المجيء قبل الوقت المقدّر، وحينئذ فكلمة: غير , حال ثانية من الفاعل مقيدة للدخول المأذون فيه، وهو أن يكون وقت الدعوة، لا قبله. والتقدير: إلا مأذونين في حال كونكم غير ناظرين إناه. ولذا قيل: إنها آية الثقلاء. إذا علمت هذا، فالأجدر استنباط حظر التطفل من صدر الآية، وهو: { لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } ومن قوله: { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا } لا من قوله: { غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } لأنه في معنى خاص، وهو ما ذكرناه , والله أعلم.
فائدة:
"الإني": مصدر. يقال أنى الشيء يأنى أنياً بالفتح. و "أنى": مفتوحاً مقصوراً.
و "إنى": بالكسر مقصوراً، أي: حان وأدرك. قال عَمْرو بن حسان:

تَمَخَّضَتِ الْمَنُوْنَ لَهُ بِيَوْمٍ أَنَىْ وَلِكُلِّ حَاْمِلَةٍ تَمَاْمُ

ثم أشار سبحانه إلى أدب آخر بقوله تعالى: { فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا } أي: تفرقوا ولا تمكثوا: { وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } أي: لحديث بعضكم بعضاً، أو لحديث أهل البيت بالتسمع له عطف على ناظرين، أو مقدر بفعل؛ أي: لا تمكثوا مستأنسين: { إِنَّ ذَلِكُمْ } أي: المنهي عنه في الآية: { كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ } أي: لتضييق المنزل عليه وعلى أهله وإشغاله بما لا يعنيه: { فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ } أي: من الإشارة إليكم بالانتشار: { وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ } يعني أن انتشاركم حق. فينبغي أن لا يترك حياء، كما لا يتركه الله ترك الحييّ، فأمركم به. ووضع الحق موضع الانتشار، لتعظيم جانبه. وقرئ: { لَا يَسْتَحِي } بحذف الياء الأولى وإلقاء حركتها على الحاء: { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ } الضمير لنساء النبي، المدلول عليهن بذكر بيوته عليه السلام: { مَتَاعاً } أي: شيئاً يتمتع به: { فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ } أي: ستر: { ذَلِكُمْ } أي: ما ذكر من عدم الدخول بغير إذن، وعدم الاستئناس للحديث عند الدخول، وسؤال المتاع من وراء حجاب: { أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } أي: من الخواطر الشيطانية، في الميل إليهن وإليكم؛ يعني ويجب التطهر عنه، لما فيه من إيذاء رسول الله صلّى الله عليه وسلم؛ ولذا قال: { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ } أي: أن تفعلوا فعلاً يتأذى به في حياته: { وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ } أي: من بعد وفاته لا إلى انقضاء العدة بل: { أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً } أي: أمراً عظيماً وخطباً هائلاً، لا يقادر قدره؛ لما فيه من هتك حرمة حبيبه صلّى الله عليه وسلم.
قال أبو السعود: وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله صلّى الله عليه وسلم، وإيجاب حرمته حياً وميتاً، ما لا يخفى؛ ولذلك بالغ تعالى في الوعيد حيث قال: { إِن تُبْدُوا شَيْئاً.... }.