التفاسير

< >
عرض

وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَٰغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
١٠٠
-النساء

محاسن التأويل

{ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ } في طاعته { يجدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً } أي: طريقاً يراغم فيه أنوف أعدائه القاصدين إدراكه { كَثِيراً وَسَعَةً } أي: في الرزق، أو في إظهار الدين، أو في الصدر، لتبدل الخوف بالأمن { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ } بمكة: { مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ } إلى طاعته، أو إلى مكان أمر الله { وَ } إلى: { رَسُولِهِ } بالمدينة: { ثُمّ يُدْرِكْهُ الموْتُ } أي: في الطريق قبل أن يصل إلى المقصد { فَقَدْ وَقَعَ } أي: ثبت: { أَجْرُهُ عَلى اللّهِ } أي: فلا يخاف فوات أجره الكامل، لأنه نوى مع الشروع في العمل، ولا تقصير منه في عدم إتمامه { وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رّحِيماً } فيغفر له ما فرط منه من الذنوب التي جملتها القعود عن الهجرة إلى وقت الخروج، ويرحمه بإكمال ثواب هجرته.
تنبيهات
الأول: فيما روي في نزول الآية، أخرج ابن أبي حاتم وأبو يعلى بسند جيد عن ابن عباس قال: خرج ضَمْرَة بن جُنْدب من بيته مهاجراً، فقال لأهله: احملوني فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، فنزل الوحي: { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ } الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن أبي ضَمْرَة الزرقيّ، الذي كان مصاب البصر، وكان بمكة، فلما نزلت:
{ { إِلاّ المسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرّجَالِ وَالنّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً } فقال: إني لغني وإني لذو حيلة، فتجهز يريد النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، فأدركه الموت بالتنعيم، فنزلت هذه الآية: { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ } إلى آخرها.
وأخرج ابن جرير نحو ذلك من طرق، عن سعيد بن جرير وعكرمة وقتادة والسدي والضحاك وغيرهم، وسمي في بعضها ضَمْرَة بن العيص، أو العيص بن ضَمْرَة، وفي بعضها جُنْدب بن ضَمْرَة الجندعي، وفي بعضها الضمري، وفي بعضها رجل من بني ضَمْرَة، وفي بعضها رجل من خزاعة، وفي بعضها رجل من بني ليث، وفي بعضها من بني كنانة، وفي بعضها من بني بكر.
وأخرج ابن سعد في الطبقات عن يزيد بن عبد الله بن قسيط؛ أن جندع بن ضَمْرَة الضمري كان بمكة، فمرض، فقال لبنيه: أخرجوني من مكة فقد قتلني غمها، فقالوا: إلى أين؟ فأومأ بيده نحو المدينة، يريد الهجرة، فخرجوا به، فلما بلغوا أضاة بني غفار، مات، فأنزل الله فيه: { وَمَن يَخْرُجْ } الآية.
وأخرج الأموي في " مغازيه " عن عبد الملك بن عمير قال: لما بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، أراد أن يأتيه، فأبى قومه أن يَدَعوه، قال: فليأت من يبلغه عني ويبلغني عنه، فانتدب له رجلان، فأتيا النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فقالا: نحن رسل أكثم بن صيفي وهو يسألك: من أنت؟ وما أنت؟ وبم جئت؟ قال: " أنا محمد بن عبد الله، وأنا عبد الله ورسوله، ثم تلا عليهم:
{ { إِنّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ } [النحل: 90] الآية "، فأتيا أكثم فقالا له ذلك، قال: أي: قوم ! إنه يأمر بمكارم الأخلاق، وينهى عن ملائمها، فكونوا في هذا الأمر رؤوساً ولا تكونوا فيه أذناباً، فركب بعيره متوجهاً إلى المدينة، فمات في الطريق، فنزلت فيه: { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ } الآية، قال السيوطيّ: مرسل، إسناده ضعيف.
وأخرج أبو حاتم في كتاب " المعمرين " من طريقين من ابن عباس، أنه سئل عن هذه الآية؟ فقال: نزلت في أكثم بن صيفي، قيل: فأين الليثي؟ قال: هذا قبل الليثي بزمان، وهي خاصة عامة.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن منده والباوردي في ( الصحابة ) عن هشام بن عروة، عن أبيه؛ أن الزبير بن العوام قال: هاجر خالد بن حرام إلى أرض الحبشة، فنهشته حية في الطريق فمات، فنزلت فيه: { وَمَن يَخْرُجْ } الآية.
قال الزبير: فكنت أتوقعه وأنظر قدومه وأنا بأرض الحبشة، فما أحزنني شيء حَزْن وفاته حين بلغتني، لأن قلَّ أحدٌ هاجر من قريش إلا ومعه بعض أهله، أو ذوي رحمه، ولم يكن معي أحد من بني أسد بن عبد العزى ولا أرجو غيره.
قال الحافظ ابن كثير: وهذا الأثر غريب جداً، فإن هذه القصة مكية، ونزول الآية مدني، فلعله أراد أنها تعم حكمه مع غيره، وإن لم يكن ذلك سبب النزول، والله أعلم.
الثاني: ثمرة الآية، أن من خرج للهجرة، ومات في الطريق فقد وجب أجره على الله، قال الحاكم: لكن اختلف العلماء، فقيل: أجر قصده، وقيل: أجر عمله دون أجر الهجرة، وقيل: بل له أجر المهاجرة، وهو ظاهر في سبب نزول الآية.
قال الحاكم: وقد استدل بعض العلماء أن الغازي يستحق السهم وإن مات في الطريق قال: وهو بعيد، لأن المراد بالآية أجر الثواب.
قال الزمخشريّ، حكاية عن المفسرين: إن كل هجرة لغرض ديني من طلب علم أو حج أو جهاد، أو فراراً إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة، أو زهداً في الدنيا، وابتغاء رزق طيب، فهي هجرة إلى الله ورسوله، وإن أدركه الموت في طريقه فأجره واقع على الله.
ووقع في كلام الزمخشريّ على الآية السابقة هذا الدعاء، وهو: اللهم ! إن كنت تعلم أن هجرتي إليك لم تكن إلا للفرار بديني، فاجعلها سبباً في خاتمة الخبر، ودرك المرجو من فضلك، والمبتغى من رحمتك، وصِلْ جواري لك بعكوفي عند بيتك، بجوارك في دار كرامتك، يا واسع المغفرة.
وكلامه، رحمة الله، بناه على أنه يستحب للإنسان أن يدعو الله بصالح عمله.
وقد ذكر البخاريّ ومسلم حديث الثلاثة الذين دخلوا الغار وانسد عليهم بصخرة، وصوبهم رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وقد دعا كل واحد منهم بصالح عمله، وانفرجت عنهم الصخرة.
وقد اقتضت الآية لزوم الهجرة ولو ببذل مال كالحج، وفيما سبق من حديث الذي حمل من مكة وقد قال: احملوني فإني لست من المستضعفين - إشارة إلى أنها تجب الهجرة إذا تمكن من الركوب ولو مضطجعاً في المحمل، لأنه حمل على سرير، وقد ذكر المتأخرون ( في الحج ) أن الصحيح الذي يلزمه أن يمكنه الثبات على المحمل، قاعداً لا مضطجعاً، لأن أحداً لا يعجز عن ذلك، فيحتمل أن يسوى بين المسألتين، وأنه يجب الحج ولو مضطجعاً، وأنهما لا يجبان مع الاضطجاع، وفعل ضَمْرَة على سبيل الشذوذ، ويحتمل أن يفرق بينهما وتجعل الهجرة أغلظ، لأن فعل المحظور، وهو الإقامة، أغلظ من ترك الواجب، وهذا يحتاج إلى تحقيق، كذا في تفسير بعض الزيدية.
الثالث: روي في معنى هذه الآية أحاديث وافرة، منها ما في الصحيحين والسنن والمسانيد: عن عُمَر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:
" إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ " .
قال ابن كثير: وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال.
وَمِنْهُ الْحَدِيث الثَّابِت فِي الصَّحِيحَيْنِ
"فِي الرَّجُل الَّذِي قَتَلَ تِسْعَة وَتِسْعِينَ نَفْساً، ثُمَّ أَكْمَلَ بِذَلِكَ الْعَابِد الْمِائَة، ثُمَّ سَأَلَ عَالِماً: هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَة؟ فَقَالَ لَهُ: وَمَنْ يَحُول بَيْنك وَبَيْن التَّوْبَة؟ ثُمَّ أَرْشَدَهُ إِلَى أَنْ يَتَحَوَّل مِنْ بَلَده إِلَى بَلَد أُخْرَى يَعْبُد اللَّه فِيهِ فَلَمَّا اِرْتَحَلَ مِنْ بَلَده مُهَاجِراً إِلَى الْبَلَد الْأُخْرَى أَدْرَكَهُ الْمَوْت فِي أَثْنَاء الطَّرِيق. فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلَائِكَة الرَّحْمَة وَمَلَائِكَة الْعَذَاب، فَقَالَ هَؤُلَاءِ: إِنَّهُ جَاءَ تَائِباً، وَقَالَ هَؤُلَاءِ: إِنَّهُ لَمْ يَصِلْ بَعْد، فَأُمِرُوا أَنْ يَقِيسُوا مَا بَيْن الْأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيّهمَا كَانَ أَقْرَب فَهُوَ مِنْهَا، فَأَمَرَ اللَّه هَذِهِ أَنْ تَقْتَرِب مِنْ هَذِهِ وَهَذِهِ أَنْ تَبْعُد، فَوَجَدُوهُ أَقْرَب إِلَى الْأَرْض الَّتِي هَاجَرَ إِلَيْهَا بِشِبْرٍ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَة الرَّحْمَة" .
وَفِي رِوَايَة: أَنَّهُ لَمَّا جَاءَهُ الْمَوْت نَأىَ بِصَدْرِهِ إِلَى الْأَرْض الَّتِي هَاجَرَ إِلَيْهَا.
وَرَوَى الْإِمَام أَحْمَد عَنْ عَبْد اللَّه بْن عَتِيك - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول:
" مَنْ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً فِي سَبِيلِ اللَّهِ [ عَزَّ وَجَلَّ ]، فَخَرَّ عَنْ دَابَّته فَمَاتَ، فَقَدْ وَقَعَ أَجْره عَلَى اللَّه، أَوْ مَاتَ حَتْف أَنْفه فَقَدْ وَقَعَ أَجْره عَلَى اللَّه" ". وقوله تعالى:
{ وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ ... }.