التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ ٱلصَّلَٰوةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِنَّ ٱلْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً
١٠١
-النساء

محاسن التأويل

وقوله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ } أي: سافرتم: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ } أي: إثم { أَن تَقْصُرُواْ } أي: تنقصواً شيئاً: { مِنَ الصّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ } أي: يقاتلكم { الّذِينَ كَفَرُواْ } في الصلاة: { إِنّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّا مّبِيناً } ظاهر العداوة، فلا يراعون حرمة الصلاة لعدواتهم.
تنبيه: في مسائل تتعلق بالآية
الأولى: ذهب الجمهور إلى أن الآية عني بها تشريع صلاة السفر، وإن معنى قوله تعالى: { أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ } هو قصر الكمية، وذلك بأن تجعل الرباعية ثنائية، قالوا: وحكمها لمسافر في حال الأمن كحكمها في حال الخوف لتظاهر السنن على مشروعيتها مطلقاً.
روى الترمذيّ والنسائي وابن أبي شيبة عَنْ اِبْن عَبَّاس أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة لَا يَخَاف إِلَّا رَبّ الْعَالَمِينَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
وروى البخاريّ وبقية الجماعة عن حارثة بن وهب قال: صَلَّى بِنَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمَن مَا كَانَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ.
وروى البخاريّ والبقية عن أنس قال: خرجنا مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قلت: أقمتم بمكة شيئاً؟ قال: أقمنا بها عشراً.
وحينئذ فقوله تعالى: { إِنْ خِفْتُمْ } خرج مخرج الغالب، حال نزول الآية إذ كانت أسفارهم بعد الهجرة في مبدئها مخوفة، بل ما كانوا ينهضون لا إلى غزو عام، أو سرية خاصة، وسائر الأحياء حرب للإسلام وأهله، والمنطوق، إذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له كقوله:
{ { وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصّناً } [النور: 33] وكقوله تعالى: { { وَرَبَائِبُكُمُ اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ } [النساء: 23] الآية.
قالوا: ويدل على أن المراد بالآية صلاة السفر ما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن يعلى بن أمية قال: سألت عُمَر بن الخطاب، قلت له: قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ } وقد أمن الناس؟ فقال لي عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ -: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ، فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ:
" صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ " .
وروى أبو بكر بن أبي شيبة عن أَبِي حَنْظَلَة الْحَذَّاء قال: سَأَلْت اِبْن عُمَر عَنْ صَلَاة السَّفَر فَقَالَ: رَكْعَتَانِ، فقلت: أَيْنَ قَوْله: { إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا } وَنَحْنُ آمِنُونَ فَقَالَ: سُنَّة رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وروى اِبْن مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي الْوَدَّاك قَالَ: سَأَلْت اِبْن عُمَر عَنْ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَر؟ فَقَالَ: هِيَ رُخْصَة نَزَلَتْ مِنْ السَّمَاء فَإِنْ شِئْتُمْ فَرُدُّوهَا.
قالوا: فهذا يدل على أن القصر المذكور في الآية هو القصر في عدد الركعات، وإن ذلك كان مفهوماً عندهم عن معنى الآية، قالوا: ومما يدل على أن لفظ ( القصر ) كان مخصوصاً في عرفهم بنقص عدد الركعات، ولهذا المعنى، لما صلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم الظهر ركعتين، قال له ذو اليدين: " أقصرت الصلاة أم نسيت؟ " هذا، وذهب كثير من السلف، منهم مجاهد والضحاك والسديّ، إلى أن هذه الآية نزلت في صلاة الخوف، وأن المعنيّ بالقصر هو قصر الكيفية لا الكمية، لأن عندهم كمية صلاة المسافر ركعتان، فهي تمام غير قصر، كما قاله عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم، قالوا: ولهذا قال تعالى: { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ } وقال تعالى بعدها: { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصّلاَةَ } الآية، فبين المقصود من القصر ههنا، وذكر صفته وكيفيته، ولهذا لما عقد البخاريّ ( كتاب صلاة الخوف ) صدره بقوله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ } إلى قوله: { أَعَدّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مّهِيناً } وهكذا قال جويبر عن الضحاك في قوله: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ } قال: ذاك عند القتال، يصلي الراجل الراكب تكبيرتين حيث كان وجهه.
وقال أسباط عن السدي، في هذه الآية: إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهي تمام التقصير، لا يحل إلا أن يخاف من الذين كفروا أن يفتنوه عن الصلاة فالتقصير ركعة.
وقال ابن أبي نَجِيْح عن مجاهد: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ } يوم كان النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأصحابه بعسفان، والمشركون بضجنان فتوافقوا، فصلى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات، بركوعهم وسجودهم وقيامهم معاً جميعاً، فهمّ بهم المشركون أن يُغيروا على أمتعتهم وأثقالهم، روى ذلك أبن أبي حاتم.
ورواه ابن جرير عن مجاهد والسدي، وعن جابر وابن عمر، واختار ذلك أيضاً، فإنه قال، بعد ما حكاه من الأقوال في ذلك: وهو الصواب، ثم روي عن أمية أنه قال لعبد الله بن عُمَر: إنا نجد في كتاب الله قصر صلاة الخوف ولا نجد قصر صلاة المسافر: فقال عبد الله: إنا وجدنا نبينا صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يعمل عملاً عملنا به، فقد سمى صلاة الخوف مقصورة، وحمل الآية عليها، لا على قصر صلاة المسافر، وأقره ابن عمر على ذلك، واحتج على قصر الصلاة في السفر بفعل الشارع، لا بنص القرآن، وأصرح من هذا ما رواه أيضاً عن سِمَاك الحنفي قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر؟ فقال: ركعتان تمام غير قصر، إنما القصر في صلاة المخافة، فقلت: وما صلاة المخافة؟ فقال: يصلي الإمام بطائفة ركعة، ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء، ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء، فيصلي بهم ركعة، فيكون للإمام ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة.
هذا ما نقله ابن كثير، وهو موافق لما نقله بعض مفسري الزيدية عن الهادوية والقاسمة؛ أن الآية واردة في صلاة الخوف، وأن المراد بالقصر في الآية قصر الصفة، بمعنى أن المأموم يقصر ائتمامه فيأتم بركعة، ويصلي منفرداً في ركعة. انتهى.
قال العلامة أبو السعود: إن هذه الآية الكريمة مجملة في حق مقدار القصر وكيفيته، وفي حق ما يتعلق به من الصلوات، وفي مقدار مدة الضرب الذي نيط به القصر، فكل ما ورد عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من القصر في حال الأمن، وتخصيصه بالرباعيات على وجه التنصيف، وبالضرب في المدة المعينة - بيان لإجمال الكتاب.
المسألة الثانية: إذا حمل القصر على قصر العدد، وأن الرباعية تكون ركعتين، فما حكم هذا القصر؟ قلنا: في هذا مذاهب أربعة:
الأول: أن القصر رخصة والإتمام أفضل.
الثاني: أنه حَتْمٌ.
الثالثة: أنه سنة غير حتم.
الرابع: أنه مخير كما يخير في الكفارات، وأنهما، أعني القصر والإتمام واجبان.
وهناك بيان متعلق هذه المذاهب:
تعلق أهل القوم الأول بقوله تعالى: { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصّلاَةِ } وهذه الكلمة تستعمل فيما هو مباح جائز، لا فيما هو فرض، نحو:
{ { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا } [البقرة: من الآية 230] و: { { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلّقْتُمُ النّسَاء } [البقرة: من الآية 236]: { { فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ } [البقرة: 229]، إن قيل: قد يستعمل ذلك في الواجب مثل: { { فَمَنْ حَجّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطّوّفَ بِهِمَا } [البقرة: 158]، أجابوا بأن ذلك على سبيل المجاز.
ومن جهة السنة، ما روي عَنْ عَائِشَةَ قالت:
" [ أَنَّهَا ] اعْتَمَرَتْ مَعَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ حَتَّى إِذَا قَدِمَتْ مَكَّةَ، قَلَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ! قَصَرْتَ وَأَتْمَمْتُ وَصُمْتُ وَأَفْطَرْتَ. فَقَالَ: أَحْسَنْتِ يَا عَائِشَةُ . وَمَا عَابَ عَلَيَّ" .
وكان عثمان يقصر ويتم.
ومن جهة المعنى، أو المعقول والمفهوم من لفظ ( القصر ) إنما هو الرخصة لأجل مشقة المسافر، كما خص له في الإفطار، وفي الحديث:
" تلك صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ " .
تعلق أهل المذهب الثاني بأن قالوا: حملنا لفظ الجناح على الفرض، وإن كان مجازاً، لما روي عن ابن عباس قال: فرضت الصلاة في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين.
وعن عمر: صلاة الجمعة ركعتان وصلاة السفر ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم، وكانت صلاة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في أسفاره ركعتين، وأقام بمكة ثمانية عشر يوماً يقصر ويقول:
" أَتِمُّوا، يا أَهْلُ مَكَّةَ ! فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ " . وعن الشعبي: من أتم في السفر فقد رغب عن ملة إبراهيم.
وروي أن عثمان أتم الصلاة بمنى، فأنكر عليه عبد الله بن مسعود، وقال: صليتُ خلف رسول لله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ركعتين، وخلف أبا بكر ركعتين، منفصلتين، فاعتذر عثمان بضروب من الأعذار، منها أنه قد تأهل، وقيل: أتم لأن مذهبه أن القصر لمن لم يكن له زاد ولا راحلة، وهو مذهب سعد بن أبي وقاص، فيكون قولنا: قصرت الصلاة، مجازاً، لأنها تامة إذا نقص من الأربع، ويقولون: هذه الأخبار تعرض ما يفهم من معقولية التسهيل، ومتعلق أهل القول الثالث والرابع بالجمع بين الروايات، وسائر الوجوه التي تعلق بها أهل القولين الأولين، فكان واجباً مخيراً، ومن قال: إنه سنة فلأن المشهور عنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في القصر في الأسفار، كذا في تفسير بعض الزيدية.
أقول: حديث عائشة المذكور، رواه النسائي والدارقطني والبيهقيّ، واختلف قول الدارقطني فيه، فقال في " السنن ": إسناده حسن، وقال في " العلل ": المرسل أشبه، وقال ابن حزم: هذا حديث لا خير فيه، وطعن فيه، وقال ابن النحوي " في البدر المنير ": في متن هذا الحديث نكارة، وهو كون عائشة خرجت مع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في عَمْرة رمضان، والمشهور أن عمره كلهن في ذي القعدة، وأطال في ذلك.
وقال الإمام ابن القيم في " زاد المعاد ": وكان صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقصر الرباعية، فيصليها ركعتين من حين خرج مسافراً إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة، وأما حديث عائشة أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان يقصر في السفر ويتم، ويفطر ويصوم فلا يصح، وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم. انتهى. وقد روي ( كان يقصر وتتم ) الأول بالياء آخر الحروف، والثاني بالتاء المثناة من فوق، وكذلك ( يفطر وتصوم ) أي: تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين.
قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل: ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وجميع أصحابه، فتصلي خلاف صلاتهم، كيف؟ والصحيح عنها؛ أن الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إلى المدينة زيدت في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر، فكيف يظن بها، مع ذلك، أن تصلي بخلاف صلاة النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم والمسلمين معه؟
ثم قال ابن القيم: قلت: وقد أتمت عائشة بعد موت النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، قال ابن عباس وغيره: إنها تأولت كما تأول عثمان، وإن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان يقصر دائماً، فركب بعض الرواة من الحديثين حديثاً وقال: فكان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقصر وتتم هي، فغلط في بعض الرواة فقال: كان يقصر ويتم، أي: هو، والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه، فقيل: ظننت أن القصر مشروط بالخوف والسفر، فإذا زال سبب الخوف زال سبب القصر، وهذا التأويل غير صحيح، فإن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم سافر آمناً، وكان يقصر الصلاة، والآية قد أشكلت على عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - وغيره، فسأل عنها رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فأجابه بالشفاء، وأن هذا صدقة من الله وشرع شرعه للأمة، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف، وغايته أنه نوع تخصيص للمفهوم، أو رفع له، وقد يقال: إن الآية اقتضت قصراً يتناول الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنقصان ركعتين، وقيد ذلك بأمرين: الضرب في الأرض والخوف، فإذا وجد الأمران، أبيح القصر، فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده، فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفي العدد، وهذا نوع من قصر وليس بالقصر المطلق، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة، باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامة، باعتبار إتمام أركانها، وأنها لم تدخل في قصر الآية، والأول اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني: يدل عليه كلام الصحابة، كعائشة وابن عباس وغيرهما.
قالت عائشة: فرضت الصلاة ركعتين، فلما هاجر رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر، فهذا يدل على أن صلاة السفر عدها غير مقصورة من أربع، وإنما هي مفروضة كذلك، وأن فرض المسلم ركعتان. وقال ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، متفق على حديث عائشة، وانفرد مسلم بحديث ابن عباس.
وقال عُمَر بن الخطاب: صلاة السفر ركعتان، والجمعة ركعتان، والعيد ركعتان، تمام غير قصر على لسان محمد صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، وقد خاب من افترى، وهذا ثابت عن عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ -، وهو الذي سأل النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: ما بالنا نقصر وقد أمنّا؟ فقال له رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم:
" صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته " ، ولا تناقض بين حديثيه، فإن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم، ودينه اليسر السمح، علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد، كما فهمه كثير من الناس، فقال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر، وعلى هذا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح، منفي عنه الجناح، فإن شاء المصلي فعله وإن شاء أتم، وكان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يواظب في سفره على ركعتين ركعتين ولم يربع قط إلا شيئاً فعله في بعض صلاة الخوف، كما سنذكره هناك، وتبين ما فيه إن شاء الله تعالى، وقال أنس: خرجت مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من المدينة إلى مكة، وكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، متفق عليه.
ولما بلغ عبد الله بن مسعود أن عثمان بن عفان صلى بمنى أربع ركعات، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، صليت مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بمنى ركعتين، وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر ركعتين، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان متفق عليه، ولم يكن ابن مسعود ليسترجع من فعل عثمان أحد الجائزين المخير بينهما، بلى الأولى على قول وإنما استرجع لما شاهداه من مداومة النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وخلفائه على ركعتين.
وفي صحيح البخاريّ عن ابن عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - قال: صحبت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، فكان في السفر لا يزيد على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان ( يعني في صدر خلافة عثمان )، وإلا فعثمان قد أتم في آخر خلافته، وكان ذلك أحد الأسباب التي نكرت عليه، وقد خرج لفعله تأويلات:
أحدها: أن الأعراب كانوا قد حجوا تلك السنة، فأراد أن يعلمهم أن فرض الصلاة أربع، لئلا يتوهموا أنها ركعتان في الحضر والسفر، ورد هذا التأويل بأنهم كانوا أحرى بذلك في حج النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، فكانوا حديثي عهد بالإسلام، والعهد بالصلاة قريب، ومع هذا فلم يربع بهم النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم.
الثاني: أنه كان إماماً للناس، والإمام حيث نزل فهو عمله ومحل ولايته.
فكأنه وطنه: ورد هذا التأويل بأن إمام الخلائق على الإطلاق رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، كان هو أولى بذلك، وكان هو الإمام المطلق ولم يربّع.
التأويل الثالث: أن منى كانت قد بنيت وصارة قرية كثر فيها المساكن في عهده، ولم يكن ذلك في عهد رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، بل كانت فضاء، ولهذا قيل له: يا رسول الله ! ألا تبني لك بمنى بيتاً يظلك من الحر؟ فقال: " لا، منى مناخ من سبق "، فتأول عثمان أن القصر إنما يكون في حال السفر، ورد هذا التأويل بأن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أقام بمكة عشراً يقصر الصلاة. التأويل الرابع: أنه أقام بها ثلاثاً، وقد قال النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم: " يقيم المهاجر بعد نسكه ثلاثاً "، فسماه مقيماً، والمقيم غير مسافر، ورد هذا التأويل بأن هذه إقامة مقيدة في أثناء السفر، ليست بالإقامة التي هي قسيم السفر، وقد أقام صَلّى اللهُ عليّه وسلّم بمكة عشراً يقصر الصلاة، وأقام بمنى بعد نسكه، أيام الجمار الثلاث، يقصر الصلاة.
التأويل الخامس: أنه كان قد عزم على الإقامة والاستيطان بمنى، واتخاذها دار الخلافة، فلهذا أتم، ثم بدا له أن يرجع إلى المدينة، وهذا التأويل أيضاً مما لا يقوى، فإن عثمان - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - من المهاجرين الأولين، وقد منع صَلّى اللهُ عليّه وسلّم المهاجر من الإقامة بمكة بعد نسكه، ورخص له ثلاثة أيام فقط، فلم يكن عثمان ليقيم بها وقد منع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من ذلك، وإنما رخص فيها ثلاثاً، وذلك لأنهم تركوها لله، وما ترك الله فإنه لا يعاد فيه ولا يسترجع، ولهذا منع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من شراء المتصدق لصدقته، وقال لعمر: لا تشترها ولا تعد في صدقتك، فجعله عائداً في صدقته مع أخذها بالثمن.
التأويل السادس: أنه كان قد تأهل بمنى، والمسافر إذا قام في موضع وتزوج فيه أو كان له به زوجة، أتم، ويروى في ذلك حديث مرفوع عن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، فروى عِكْرِمَة عن إبراهيم الأزديّ عن أبي ذياب عن أبيه قال: صلى عثمان بأهل منى أربعاً وقال: يا أيها الناس ! لما قدمت تأهلت بها وإني سمعت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يقول:
" إذا تأهل الرجل ببلدة فإنه يصلي بها صلاة مقيم " رواه الإمام أحمد في " مسنده " وعبد الله بن الزبير الحميدي في " مسنده " أيضا، وقد أعله البيهقيّ بانقطاعه وتضعيف عِكْرِمَة.
قال أبو البركات ابن تيمية: ويمكن المطالبة بسبب الضعف، فإن البخاريّ ذكره في تاريخه ولم يطعن فيه، وعادته ذكر الجرح والمجروحين، وقد نص أحمد، وابن عباس قبله، أن المسافر إذا تزوج لزمه الإتمام، وهذا قول أبي حنيفة ومالك وأصحابهما، وهذا أحسن من اعتذر به عن عثمان، وقد اعتذر عن عائشة أنها كانت أم المؤمنين، فحيث نزلت فكان وطنها، وهو أيضاً اعتذار ضعف، فإن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم أبو المؤمنين، وأمومة أزواجه فرع على أبوته، ولم يكن يتم لهذا السبب، وقد روى هشام بن عروة عن أبيه أنها كانت تصلي في السفر أربعاً، فقلت لها: لو صليت ركعتين؟ فقالت: يا ابن أختي ! لا يشق عليّ.
قال الشافعيّرحمه الله : لو كان فرض المسافر ركعتين، لما أتمها عثمان ولا عائشة ولا ابن مسعود، ولم يجز أن يتمها مسافر مع مقيم، وقد قالت عائشة: كل ذلك قد فعله رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، أتم وقصر، ثم روي عن إبراهيم عن محمد عن طلحة بن عُمَر عن عطاء بن أبي رَبَاح عن عائشة قالت: كل ذلك فعل النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، قصر الصلاة في السفر، وأتم. قال البيهقيّ: وكذلك رواه المغيرة عن زياد عن عطاء، وأصح إسناد فيه ما أخبرنا أبو بكر الحازمي عن الدارقطني عن المحامليّ: حدثنا سعيد بن محمد بن أيوب، حدثنا أبو عاصم، حدثنا عُمَر بن سعيد عن عطاء، عن عائشة، أن النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم كان يقصر الصلاة في السفر ويتم، ويفطر ويصوم، قال الدارقطني: وهذا إسناد صحيح، ثم ساق من طريق أبي بكر النيسابوري عن عباس الدوري: أنا أبو نعيم، حدثنا العلاء بن زهير، حدثني عبد الرحمن بن الأسود عن عائشة، أنها اعتمرت مع النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من المدينة إلى مكة، حتى إذا قدمت مكة قالت: يا رسول الله ! بأبي أنت وأمي ! قصرتَ وأتممتُ وصمتُ وأفطرتَ، قال: " أحسنت، يا عائشة ! ".
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا الحديث كذب على عائشة ولم تكن عائشة لتصلي بخلاف صلاة رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وسائر الصحابة، وهي تشاهدهم يقصرون ثم تتم وحدها بلا موجب، كيف وهي القائلة: فرضت الصلاة ركعتين، فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر، فكيف يظن أنها تزيد على ما فرض الله؟ وتخالف رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم وأصحابه؟
قال الزهريّ لعروة، ( لما حدثه عن أبيه عنها بذلك ): فما شأنها؟ كانت تتم الصلاة، فقالت: تأولت كما تأول عثمان، فإذا كان النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قد حسن فعلها وأقرها، فما للتأويل حينئذ وجه، ولا يصح أن يضاف إتمامها إلى التأويل على هذا التقدير، وقد أخبر ابن عمر أن رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم لم يكن يزيد في السفر على ركعتين ولا أبو بكر ولا عمر، أفيظن بعائشة أم المؤمنين مخالفتهم وهي تراهم يقصرون؟ وأما بعد موته صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فإنها أتمت، كما أتم عثمان، وكلاهما تأول تأويلاً، والحجة في روايتهم لا في تأويل الواحد منهم، مع مخالفة غيره له، والله أعلم.
وقد قال أمية بن خالد لعبد الله بن عُمَر: إنا نجد صلاة الحضر وصلاة الخوف في القرآن، ولا نجد صلاة السفر في القرآن، فقال له ابن عمر: يا أخي ! إن الله بعث محمداً صَلّى اللهُ عليّه وسلّم ولا نعلم شيئاً، فإنما نفعل كما رأينا محمداً صَلّى اللهُ عليّه وسلّم يفعل، وقد قال أنس: خرجنا مع رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين، حتى رجعنا إلى المدينة، وقال ابن عمر: صحبت رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، فكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وهذه كلها أحاديث صحيحة. انتهى كلام ابن القيم.
قال الإمام الشوكاني في " نيل الأوطار ": وقد استدل، بحديثي عائشة، القائلون بأن القصر رخصة، ويجاب عنهم بأن الحديث الثاني لا حجة لهم فيه، لما تقدم من أن لفظ ( تتم وتصوم ) بالفوقانية، لأن فعلها، على فرض عدم معارضته لقوله وفعله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم، لا حجة فيه، فكيف إذا كان معارضاً للثابت عنه من طريقها وطريق غيرها من الصحابة؟ وأما الحديث الأول، فلو كان صحيحاً، لكان حجة، لقوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم في الجواب عنها: " أحسنت "، ولكنه لا ينتهض لمعارضة ما في الصحيحين وغيرهما من طريق جماعة من الصحابة، وهذا بعد تسليم أنه حسن، كما قال الدارقطني، فكيف؟ وقد طعن فيه بتلك المطاعن المتقدمة، فإنها بمجردها توجب سقوط الاستدلال به عند عدم المعارض. انتهى.
المسألة الثالثة: استدل بعموم الآية من جوّز القصر في كل سفر طويلاً أو قصيراً، ووجهه أن قوله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ } يصدق على كل ضرب، ولكنه خرج الضرب أي: المشي لغير السفر، لما كان يقع منه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم من الخروج إلى بقيع الغرقد ونحوه، ولا يقصر، ولم يأت في تعيين قدر السفر الذي يقصر فيه المسافر شيء، فوجب الرجوع إلى ما يسمى سفراً لغة وشرعاً، ومن خرج من بلده قاصداً إلى محل، يعد في ميسره إليه مسافراً، قصر الصلاة، وإن كان ذلك المحل دون البريد، ولم يأت من اعتبر البريد واليوم واليومين والثلاث وما زاد على ذلك، بحجة نيرة، وغاية ما جاؤوا به حديث:
" لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم " .
وفي رواية: " يوماً وليلة ".
وفي رواية: " بريداً ".
وليس في هذا الحديث ذكر القصر ولا هو في سياقه، والاحتجاج به مجرد تخمين، وأحسن ما ورد في التقدير ما رواه شعبة عن يحيى بن زيد الهنائي قال: سألت أنساً عن قصر الصلاة؟ فقال: كان رسول الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ، صلى ركعتين، والشك من شعبة، أخرجه مسلم وغيره.
فإن قلت: محل الدليل في نهي المرأة عن السفر تلك المسافة بدون محرم، هو كونه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم سمى ذلك سفراً، قلت: تسميته سفراً لا تنافي تسميته ما دونه سفراً، فقد سمى النبي صَلّى اللهُ عليّه وسلّم مسافة الثلاث سفراً، كما سمى مسافة البريد سفراً، في ذلك الحديث باعتبار اختلاف الرواية.
وتسمية البريد سفراً لا ينافي تسمية ما دونه سفراً، فإن قلت: أخرج الدارقطني والبيهقيّ والطبراني من حديث ابن عباس أنه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قال: " يا أهل مكة ! لا تقصروا في أقل من أربعة برد "، من مكة إلى عسفان - قلت: هو ضعيف لا تقوم به الحجة، فإن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبر، وهو متروك، وفي المسألة مذاهب هذا أرجحها، والحاصل أن الواجب هو الرجوع إلى ما يصدق عليه اسم السفر شرعاً أو لغة، كذا في " الروضة الندية ".
وفي " المصباح ": سفر الرجل سفراً مثل طلب، خرج للارتحال.
وفي " القاموس ": قوم سفر وسافرة وأسفار وسفار: ذوو سفَر، لضدّ الحضر.
هذا وللقصر مباحث مقررة في شروح السنة.
ولما كان النص السابق الوارد في مشروعية القصر مجملاً بَيِّن كيفيته بصورة في مزيد الحاجة إليها، ويكتفي فيما عداها ببيان السنة، فقال تعالى:
{ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مّنْهُم مّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ ... }.