التفاسير

< >
عرض

وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ ٱلْمُحْصَنَٰتِ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُم مِّن فَتَيَٰتِكُمُ ٱلْمُؤْمِنَٰتِ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَٰنِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ مُحْصَنَٰتٍ غَيْرَ مُسَٰفِحَٰتٍ وَلاَ مُتَّخِذَٰتِ أَخْدَانٍ فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ ٱلْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٢٥
-النساء

محاسن التأويل

{ وَمَن لم يَسْتَطِعْ } أي: لم يقدر { مِنكُمْ } أيها الأحرار، بخلاف العبيد، أن يحصل { طَوْلاً } أي: غنى يمكنه به: { أَن يَنكِحَ المحْصَنَاتِ } أي: الحرائر المتعففات، بخلاف الزواني إذ لا عبرة بهن. { المؤْمِنَاتِ } إذ لا عبرة بالكوافر. { فَمِن مّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم } أي: فله أن ينكح بعض ما يملكه أَيْمَان إخوانكم. { مّن فَتَيَاتِكُمُ } أي: إمائكم حال الرق. { المؤْمِنَاتِ } لا الكتابية، لأنه لا يحتمل مع عار الرق عار الكفر، وقد استفيد من سياق هذه الآية أن الله تعالى شرط في نكاح الإماء شرائط ثلاثة: اثنان منها في الناكح، والثالث في المنكوحة. أما اللذان في الناكح فأحدهما أن يكون غير واجد لما يتزوج به الحرة المؤمنة من الصداق، وهو معنى قوله: { وَمَن لم يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحْصَنَاتِ المؤْمِنَاتِ } فعدم استطاعة الطول عبارة عن عدم ما ينكح به الحرة، فإن قيل: الرجل إذا كان يستطيع التزوج بالأمة، يقدر على التزوج بالحرة الفقيرة، فمن أين هذا التفاوت؟ قلنا: كانت العادة في الإماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة السادات، وعلى هذا التقدير يظهر التفاوت. وأما الشرط الثاني: فهو المذكور في آخر الآية وهو قوله: { ذَلِكَ لمنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } أي: الزنى بأن بلغ الشدة في العزوبة. وأما الشرط الثالث: المعتبر في المنكوحة، فأن تكون الأمة مؤمنة لا كافرة، فإن الأمة إذا كانت كافرة كانت ناقصة من وجهين: الرق والكفر، ولا شك أن الولد تابع للأم في الحرية والرق، وحينئذ يعلق الولد رقيقاً على ملك الكافر، فيحصل فيه نقصان الرق ونقصان كونه ملكاً للكافر، وما ذكرناه هو المطابق لمعنى الآية، ولا يخلوا ما عداه عن تكلف لا يساعده نظم الآية.
قال الزمخشري: فإن قلت: لِمَ كان نكاح الأمة منحطاً عن نكاح الحرة؟ قلت: لما فيه من اتباع الولد الأم في الرق، ولثبوت حق المولى فيها وفي استخدامها، ولأنها ممتهنة مبتذلة خرّاجة ولاّجة، وذلك كله نقصان راجع إلى الناكح، ومهانة، والعزة من صفات المؤمنين، وسيأتي مزيد لهذا عند قوله تعالى: { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لّكُمْ }.
وقوله تعالى: { وَاللّهُ أَعْلم بِإِيمَانِكُمْ } إشارة إلى أنه لا يشترط الإطلاع على بواطنهن، بل يكتفي بظاهر إيمانهن، أي: فاكتفوا بظاهر الإيمان، فإنه تعالى العالم بالسرائر وبتفاضل ما بينكم في الإيمان، فرب أمة تفضل الحرة فيه.
وقوله تعالى: { بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ } اعتراض آخر جيء به لتأنيسهم بنكاح الإماء حالتئذ، أي: أنتم وأرقاؤكم متناسبون، نسبكم من آدم ودينكم الإسلام.
{ فَانكِحُوهُنّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنّ } أي: مواليهن لا استقلالاً، وذلك لأن منافعهن لهم لا يجوز لغيرهم أن ينتفع بشيء منها إلا بإذن من هي له.
{ وَآتُوهُنّ } أعطوهن: { أُجُورَهُنّ } أي: مهورهن: { بِالمعْرُوفِ } أي: بلا مطل وضرار وإلجاء إلى الاقتضاء.
واستدل الإمام مالك بهذا على أنهن أحق بمهورهن، وأنه لا حق فيه للسيد.
وذهب الجمهور إلى أن المهر للسيد، وإنما أضافها إليهن لأن التأدية إليهن، تأديةٌ إلى سيدهن لكونهن ماله.
{ مُحْصَنَاتٍ } حال من مفعول: { فَانكِحُوهُنّ } أي: حال كونهن عفائف عن الزنى.
{ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } حال مؤكدة: أي: غير زانيات بكل من دعاهن.
{ وَلاَ مُتّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } أي: أخلة يتخصصن بهم في الزنى.
قال أبو زيد: الأخدان الأصدقاء على الفاحشة، والواحد خدن وخدين.
وقال الراغب: أكثر ذلك يستعمل فيمن يصاحب بشهوة نفسانية، ومن لطائف وقوع قوله تعالى: { مُحْصَنَاتُ } الخ إثر قوله: { وَآتُوهُنّ أُجُورَهُنّ }: الإشعار بأنهن لو كن إحدى هاتين، فلكم المناقشة في أداء مهورهن ليفتدين نفوسهن.
{ فَإِذَا أُحْصِنّ } أي: بالتزويج، وقرئ على البناء للفاعل أي: أحصن فروجهن أو أزواجهن.
{ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ } أي: فعلن فاحشة وهي الزنا: { فَعَلَيْهِنّ } أي: فثابت عليهن شرعاً.
{ نِصْفُ مَا عَلَى المحْصَنَاتِ } أي: الحرائر: { مِنَ الْعَذَابِ } أي: من الحد الذي هو جلد مائة فنصفه خمسون جلدة، لا الرجم.
قال المهايميّ: لأنهن من أهل المهانة، فلا يفيد فيهن المبالغة في الزجر.
تنبيه
قال ابن كثير: مَذْهَب الْجُمْهُور إِنّ الْأَمَة إِذَا زَنَتْ فَعَلَيْهَا خَمْسُونَ جَلْدَة، سَوَاء كَانَتْ مُسْلِمَة أَوْ كَافِرَة، مُزَوّجَة أَوْ بِكْراً، مَعَ أَنّ مَفْهُوم الْآيَة يَقْتَضِي أَنّهُ لَا حَدّ عَلَى غَيْر الْمُحْصَنَة مِمّنْ زَنَى مِنْ الْإِمَاء، وَقَدْ اِخْتَلَفَتْ أَجْوِبَتهمْ عَنْ ذَلِكَ. فَأَمّا الْجُمْهُور فَقَالُوا: لَا شَكّ أَنّ الْمَنْطُوق مُقَدّم عَلَى الْمَفْهُوم، وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيث عَامّة فِي إِقَامَة الْحَدّ عَلَى الْإِمَاء، فَقَدّمْنَاهَا عَلَى مَفْهُوم الْآيَة.
فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مُسْلِم فِي صَحِيحه عَنْ عَلِيّ - رَضِي اللّهُ عَنْهُ - أَنّهُ خَطَبَ فَقَالَ " يَا أَيّهَا النّاسُ ! أَقِيمُوا عَلَى أَرِقّائِكُمُ الْحدّ، مَنْ أَحصَنَ مِنْهُن وَمَنْ لَمْ يُحصِنْ ". فَإِنّ أَمَةً لِرَسُولِ اللّهِ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم زَنَتْ. فَأَمَرَنِي أَنْ أَجْلِدَهَا. فَإِذَا هِيَ حدِيثُ عَهْدٍ بِنِفَاسٍ. فَخَشِيتُ إِنْ أَنَا جَلَدْتُهَا، أَنْ أَقْتُلَهَا. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنّبِيّ صَلّى اللهُ عليّه وسلّم فَقَالَ: " أَحسَنْتَ، اُتْرُكْهَا حَتّى تَمَاثَل ".
وَعِنْد عَبْد اللّه بْن أَحْمَد عَنْ غَيْر أَبِيهِ: " فَإِذَا تَعَافَتْ مِنْ نِفَاسهَا فَاجْلِدْهَا خَمْسِينَ ".
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَة قَالَ: سَمِعْت رَسُول اللّه صَلّى يَقُول:
" إِذَا زَنَتْ أَمَة أَحَدكُمْ فَتَبَيّنَ زِنَاهَا فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدّ وَلَا يُثَرّب عَلَيْهَا، ثُمّ إِنْ زَنَتْ الثّانِيَة فَلْيَجْلِدْهَا الْحَدّ وَلَا يُثَرّب عَلَيْهَا، ثُمّ إِنْ زَنَتْ الثّالِثَة فَتَبَيّنَ زِنَاهَا فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعْر " .
وَلِمُسْلِمٍ: " إِذَا زَنَتْ ثَلَاثاً، ثم لْيَبِعْهَا فِي الرّابِعَة " .
وَرَوَى مَالِك عَنْ عَبْد اللّه بْن عَيّاش الْمَخْزُومِيّ قَالَ: أَمَرَنِي عُمَر بْن الْخَطّاب فِي فِتْيَة مِنْ قُرَيْش فَجَلَدْنَا ولائد مِنْ وَلَائِد الْإِمَارَة خَمْسِينَ خَمْسِينَ، في الزّنَا.
الْجَوَاب الثّانِي: جَوَاب مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنّ الْأَمَة إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَن فَلَا حَدّ عَلَيْهَا وَإِنّمَا تُضْرَب تَأْدِيباً، وَهُوَ الْمَحْكِيّ عَنْ اِبْن عَبّاس - رَضِي اللّهُ عَنْهُ -، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ طَاوُس وَسَعِيد بْن جُبَيْر وَأَبُو عُبَيْد الْقَاسِم بْن سَلّام، وَدَاوُد بْن عليّ الظّاهِرِيّ ( فِي رِوَايَة عَنْهُ ) وَعُمْدَتهمْ مَفْهُوم الْآيَة، وَهُوَ مِنْ مَفَاهِيم الشّرْط، وَهُوَ حُجّة عِنْد أَكْثَرهمْ، فَقُدّمَ عَلَى الْعُمُوم عِنْدهمْ.
وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة وَزَيْد بْن خَالِد:
"أَنّ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم سُئِلَ عَنْ الْأَمَة إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَن؟ قَالَ: إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمّ إِنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ " .
قَالَ اِبْن شِهَاب: لَا أَدْرِي بَعْد الثّالِثَة أَوْ الرّابِعَة. أَخْرَجَاهُ فِي الصّحِيحَيْنِ.
وَعِنْد مُسْلِم قَالَ اِبْن شِهَاب: الضّفِير الْحَبْل. قَالُوا: فَلَمْ يُؤَقّت فِيهِ عَدَد كَمَا أُقّتَ فِي الْمُحْصَنَة، وَكَمَا وَقّتَ فِي الْقُرْآن بِنِصْفِ مَا عَلَى الْمُحْصَنَات، فَوَجَبَ الْجَمْع بَيْن الْآيَة وَالْحَدِيث بِذَلِكَ وَاَللّه أَعْلَم.
وَأَصْرَح مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ سَعِيد بْن مَنْصُور عَنْ اِبْن عَبّاس مَرْفُوعاً:
" لَيْسَ عَلَى أَمَةٍ حَدّ حَتّى تُحْصَن - يَعْنِي تُزَوّج - فَإِذَا أُحْصِنَتْ بِزَوْجٍ فَعَلَيْهَا نِصْف مَا عَلَى الْمُحْصَنَات " .
وَرَوَاهُ اِبْن خُزَيْمَة مَرْفُوعاً أيضاً وَقَالَ: رَفْعه خَطَأ، إِنّمَا هُوَ مِنْ قَوْل اِبْن عَبّاس.
وَكَذَا رَوَاهُ البيهقيّ وَقَالَ: مِثْل قول اِبْن خُزَيْمَة.
قَالُوا: وَحَدِيث عليّ وَعُمَر قَضَايَا أَعْيَان، وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة عَنْهُ أَجْوِبَة:
أَحَدهَا: إنّ ذَلِكَ مَحْمُول عَلَى الْأَمَة الْمُزَوّجَة، جَمْعاً بَيْنه وَبَيْن هَذَا الْحَدِيث.
الثّانِي: إنّ لَفْظَة الْحَدّ فِي قَوْله: " فَلْيُقِمْ عَلَيْهَا الْحَدّ " مُقْحَمَة مِنْ بَعْض الرّوَاة بِدَلِيلِ.
الْجَوَاب الثّالِث: وَهُوَ أَنّ هَذَا مِنْ حَدِيث صَحَابِيّيْنِ وَذَلِكَ مِنْ رِوَايَة أَبِي هُرَيْرَة فَقَطْ، وَمَا كَانَ عَنْ اِثْنَيْنِ فَهُوَ أَوْلَى بِالتّقْدِيمِ مِنْ رِوَايَة وَاحِد.
وَأَيْضاً فَقَدْ رَوَاهُ النّسَائِيّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْط مُسْلِم مِنْ حَدِيث عَبّاد بْن تَمِيم عَنْ عَمّه، وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَدْراً: إنّ رَسُول اللّه صَلّى اللهُ عليّه وسلّم قَالَ:
" إِذَا زَنَتْ الْأَمَة فَاجْلِدُوهَا، ثُمّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمّ إِنْ زَنَتْ فَبِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ " .
الرّابِع: أَنّهُ لَا يَبْعُد أَنّ بَعْض الرّوَاة أَطْلَقَ لَفْظ ( الْحَدّ ) فِي الْحَدِيث عَلَى ( الْجَلْد ) لِأَنّهُ لَمّا كَانَ الْجَلْد اِعْتَقَدَ أَنّهُ حَدّ، أَوْ أَنّهُ أَطْلَقَ لَفْظَة ( الْحَدّ ) عَلَى التّأْدِيب، كَمَا أَطْلَقَ ( الْحَدّ ) عَلَى ضَرْب مَنْ زَنَى مِنْ الْمَرْضَى بِعِثْكَال نَخْل فِيهِ مِائَة شِمْرَاخ، وَعَلَى جَلْد مَنْ زَنَى بِأَمَةِ اِمْرَأَته إِذَا أَذِنَتْ لَهُ فِيهَا مِائَة، وَإِنّمَا ذَلِكَ تَعْزِير وَتَأْدِيب عِنْد مَنْ يَرَاهُ، كَأَحْمَد وَغَيْره مِنْ السّلَف. وَإِنّمَا الْحَدّ الْحَقِيقِيّ هُوَ جَلْد الْبِكْر مِائَة، وَرَجْم الثّيّب. انتهى.
وله تتمة سابغة.
وقال الإمام ابن القيم في: " زاد المعاد ": وحكم في الأمة إذا زنت ولم تحصن بالحد، وأما قوله تعالى في الإماء: { فَإِذَا أُحْصِنّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنّ نِصْفُ مَا عَلَى المحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } فهو نص في أن حدها بعد التزويج نصف حد الحرة من الجلد، وأما قبل التزويج فأمر بجلدها، وفي هذا الحد قولان:
أحدهما: أنه الحد، ولكن يختلف الحال قبل التزويج وبعده، فإن للسيد إقامته قبله، وأما بعده فلا يقيمه إلا الإمام.
والقول الثاني: أن جلدها قبل الإحصان تعزير لا حد، ولا يُبطل هذا ما رواه مسلم فى: " صحيحه ": من حديث أبى هريرة رضيَ اللّهُ عنه يرفعُه:
" إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ، فَلْيَجْلِدْهَا وَلاَ يُعَيّرْها ثَلاَثَ مَرّاتٍ، فإِنْ عَادَتْ في الرّابِعَةِ فَلْيَجْلِدْهَا وَلْيَبِعْها وَلَوْ بِضَفِير " ، وفى لفظ: " فَلْيَضْرِبْها بكتاب الله " .
وفى " صحيحه " أيضاً: من حديث على كرم الله وجهه أنه قال: أَيّها الناسُ ! أقيمُوا على أرقائكم الحدّ، مَنْ أحصنَ مِنهن، ومن لم يُحصنْ، فإن أمةً ِرَسُولِ الله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم زَنَتْ، فأمرني أن أجلِدَهَا. الحديث.
فإن التعزير يدخلُ فيه لفظُ ( الحد ) في لسان الشارع، كما في قوله صَلّى اللهُ عليّه وسلّم:
" لا يُضرَبُ فوقَ عشرةِ أسواطٍ إلا في حدّ مِن حدُود الله تعالى " .
وقد ثبت التعزيرُ بالزيادة على العشرة جنساً وقدراً في مواضِع عديدة لم يَثْبُتْ نسخُها، ولم تُجْتمِع الأمةُ على خِلافها.
وعلى كل حال، فلا بد أن يُخالِفَ حالُها بعد الإحصان حالها قبله، وإلا لم يكن للتقييد فائدة.
فإما أن يُقال قبل الإحصان: لا حدّ عليها، والسنة الصحيحةُ تبطِلُ ذلك.
وإما أن يقال: حدّها قبل الإحصان حدّ الحرة، وبعده نصفه، وهذا باطل قطعاً مخالف لقواعد الشرع وأصوله.
وإما أن يُقال: حدها قبل الإحصان تعزير، وبعده حد، وهذا أقوى.
وإما أن يُقال: الافتراقُ بين الحالتين في إقامة الحدّ لا في قدرِه، وأنه في إحدى الحالتين للسيد، وفى الأخرى للإمام، وهذا أقربُ ما يُقال.
وقد يقال: إن تنصيصه على التنصيفِ بعد الإحصان لئلا يتوهّم متوهم أن بالإحصان يزولُ التنصيفٌ، ويصيرُ حدها حدّ الحرة، كما أن الجلد عن البِكر يزال بالإحصان، وانتقل إلى الرجم، فبقى على التنصيف في أكمل حالتيها، وهى الإحصان تنبيهاً على أنه إذا اكتُفِىَ به فيها، ففي ما قبل الإحصان أولى وأحرى، والله أعلم.
{ ذَلِكَ } أي: إباحة نكاح الإماء.
{ لمنْ خَشِيَ الْعَنَتَ } أي: المشقة في التحفظ من الزنى: { مِنْكُمْ } أيها الأحرار.
{ وَأَن تَصْبِرُواْ } على تحمل تلك المشقة متعففين عن نكاحهن.
{ خَيْرٌ لّكُمْ } من نكاحهن، وإن سبقت كلمة الرخصة، لما فيه من تعريض الولد للرق، قال عمر - رَضِي اللّهُ عَنْهُ -: أيما حرّ تزوج بأمة فقد أَرَقّ نصفه، ولأن حق المولى فيها أقوى فلا تخلص للزوج خلوص الحرائر، ولأن المولى يقدر على استخدامها كيفما يريد في السفر والحضر، وعلى بيعها للحاضر والبادي، وفيه من اختلال حال الزوج وأولاده ما لا مزيد عليه، ولأنها ممتهنة مبتذلة خرّاجة ولاّجة، وذلك كله ذل ومهانة سارية إلى الناكح، والعزة هي اللائقة بالمؤمنين، ولأن مهرها لمولاها، فلا تقدر على التمتع به ولا على هبته للزوج، فلا ينتظم أمر المنزل، كذا حرره أبو السعود، وقد قيل:

إذا لم يكن في منزل المرء حرة تدبره ضاعت مصالح داره

قال في: " الإكليل ": في الآية كراهة نكاح الأمة عند اجتماع الشروط، بقوله تعالى: { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لّكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رّحِيمٌ }.