التفاسير

< >
عرض

وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ
٢٠
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ
٢١
-الزخرف

محاسن التأويل

هذا بيان لضلال لهم آخر، في جدلهم و خصامهم و تعنتهم. و قد استدل المعتزلة بظاهر الآية في أنه تعالى لا يشاء الشرور و المعاصي. و أهل السنة تأوّلوا الآية بما يلاقي العقد الصحيح. وهو عموم مشيئته تعالى لكل شيء، الناطق به غير ما آية. و لما كانت هذه الآية و أخواتها من معارك الأنظار قديماً و حديثاً، آثرت أن أنقل هنا ما لمحققي المفسرين، جرياً على قاعدتنا في التقاط نفائس ما للمتقدم، وتحلية مصنفاتنا بها، فنقول: قال القاشاني: لما سمعوا من الأنبياء تعليق الأشياء بمشيئة الله تعالى،افترضوه و جعلوه ذريعة في الإنكار. و قالوا ذلك لا عن علم و إيقان، بل على سبيل العناد و الإفحام. و لهذا ردهم الله تعالى بقوله { مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } إذ لو علموا ذلك لكانوا موحدين، لا ينسبون التأثير إلا إلى الله. فلا يسعهم إلا عبادته دون غيره. إذ لا يرون حينئذٍ لغيره نفعاً ولا ضراً { إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ } لتكذيبهم أنفسهم في هذا القول بالفعل، حين عظموهم و خافوهم و خافوهم و خوّفوا أنبياءهم من بطشهم، كما قال قوم هود: { { إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ } [هود: 54] و لما خوفوا إبراهيم عليه السلام كيدهم، أجاب بقوله: { { وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا } [الأنعام: 80] إلى قوله: { { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ } [الأنعام: 81] انتهى.
و في البيضاوي و حواشيه: إن هذا القول استدلال منهم على امتناع النهي عن عبادة غيره تعالى أو على حسنها. يعنون أن عبادتهم الملائكة بمشيئته تعالى. فيكون مأموراً بها أو حسنة. و يمتنع كونها منهياً عنها أو قبيحة. و هذا الاستدلال باطل. لأن المشيئة لا تستلزم الأمر أو الحسن، لأنها ترجيح بعض الممكنات على بعض / حسناً كان أو قبيحاً. و لذلك جهلهم في استدلالهم هذا. و الحاصل أن الإنكار متوجه إلى جعلهم ذلك دليلاً على امتناع النهي عن عبادتهم، أو على حسنها: لا إلى هذا القول، فإنه كلمة حق أريد به باطل. انتهى.
و قال الناصر في (الانتصاف): نحن معاشر أهل السنة نقول: إن كل شيء بمشيئته تعالى، حتى الضلالة و الهدى، اتباعاً لدليل العقل، و تصديقاً لنص النقل. في أمثال قوله تعالى:
{ { يُضِلُّ مَن يَشآءُ و يَهْدي مَن يَشَآءُ } [النحل: 93] و [فاطر: 8] و آية الزخرف هذه لا تزيد هذا المعتقد الصحيح إلا تمهيداً، ولا تفيده إلا تصويباً و تسديداً. فنقول: إذا قال الكافر (لو شاء الله ما كفرتُ) فهذه كلمة حق أراد بها باطلاً، أما كونها كلمة حق، فلما مهّدناه. وأما كونها أراد بها باطلاً، فمراد الكافر بذلك أن يكون له الحجة على الله، توهماً أنه يلزم من مشيئة الله تعالى لضلالة من ضلّ، أن لا يعاقبه على ذلك. لأنه فعل مقتضى مشيئته.
ثمّ قال: فإذا وضح ما قلناه، فإنما رد الله عليهم مقالتهم هذه. لأنهم توهموا أنها حجة على الله. فدحض الله حجتهم، وأكذب أمنيتهم، و بين أن مقالتهم صادرة عن ظن كاذب و تخرص محض، فقال: { مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْم إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُون } و { إِنْ هُمْ إِلَّّا يَظُنُّو } و قد أفصحت أخت هذه الآية عن هذا التقدير. و ذلك قوله تعالى في سورة الأنعام:
{ { سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ } [الأنعام: 148] فبين تعالى أن الحامل لهؤلاء على التكذيب بالرسل، و الإشراك بالله، اغترارهم بأن لهم الحجة على الله بقولهم: { { لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا } [الأنعام: 148] فشبه تعالى حالهم في الاعتماد على هذا الخيال، بحال أوائلهم. ثم بين أنه معتقد نشأ عن ظن خلّب و خيال مكذب، فقال: { { إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُون } [الأنعام: 148] ثم لما أبطل أن يكون لهم في مقالتهم حجة على الله, أثبت تعالى الحجة له عليهم بقولهم: { { فلله الحجة البالغة } [الأنعام: 149] ثم أوضح أن الرد عليهم ليس إلاّ في احتجاجهم على الله بذلك. لا لأن المقالة في نفسها كذب. فقال: { { فلو شاء لهداكم أجمعين } [الأنعام: 149] وهو معنى قولهم: { { لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا } [الأنعام: 148] من حيث أن (لو) مقتضاها امتناع الهداية لامتناع المشيئة. فدلت الآية الأخيرة على أن الله تعالى لم يشأ هدايتهم، بل شاء ضلالتهم. ولو شاء هدايتهم لما ضلوا, فهذا هو الدين القويم، والصراط المستقيم، و النور اللائح و المنهج الواضح. والذي يدحض به حجة هؤلاء, مع اعتقاد أن الله تعالى شاء وقوع الضلالة منهم, هو أنه تعالى جعل للعبد تأتياً و تيسراً للهداية و غيرها، من الأفعال الكسبية, حتى صارت الأفعال الصادرة منه مناط التكليف لأنها اختيارية يفرق بالضرورة بينها وبين العوارض القسرية فهذه الآية أقامت الحجة ووضحت لمن اصطفاه الله للمعتقدات الصحيحة المحجة ولما كانت تفرقة دقيقة لم تنتظم في سلك الأفهام الكثيفة فلا جرم أن أفهامهم تبددت وأفكارهم تبدلت فغلت طائفة القدرية واعتقدت أن العبد فعال لما يريد على خلاف مشيئة ربه وجارت الجبرية فاعتقدت أن لا قدرة للعبد البتة ولا اختيار وأن جميع الأفعال صادرة منه على سبيل الاضطراب أما أهل الحق فمنحهم الله من هدايته قسطا وأرشدهم إلى الطريق الوسطى فانتهجوا سبل السلام وساروا ورائد التوفيق لهم إمام مستضيئين بأنوار العقول المرشدة إلى أن جميع الكائنات بقدرة الله تعالى ومشيئته ولم يغب عن أفهامهم أن يكون بعض الأفعال للعبد مقدورة لما وجدوه من التفرقة بين الاختيارية والقسرية بالضرورة لكنها قدرة تقارن بلا تأثير وتميز بين الضروري والاختياري في التصوير فهذا هو التحقيق والله ولي التوفيق. انتهى. وقد سبق في آية الأنعام نقول عن الأئمة في الآية مسهبة: فراجعها إن شئت. وقوله تعالى { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ } أي من قبل هذا القرآن { فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } أي يعملون به ويدينون بما فيه ويحتجون به عليك نظير قوله تعالى في الآية الأخرى: { { قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا } [الأنعام: 148] يعني بالعلم كتابا موحى في ذلك.