التفاسير

< >
عرض

هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً
٢٥
-الفتح

محاسن التأويل

{ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } أي: هؤلاء المشركون من قريش، هم الذين جحدوا توحيد الله: { وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ } أي: وصدوا الهدي أيضاً، وهو ما يهدى إلى مكة من النعم: { مَعْكُوفاً } أي: محبوساً. قال السمين: يقال: عكفت الرجل عن حاجته إذا حبسته عنها. وأنكر الفارسي تعدية عكف بنفسه، وأثبتها ابن سيده، والأزهري وغيرهما، وهو ظاهر القرآن، لبناء اسم المفعول منه. انتهى.
وقوله تعالى: { أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } قال ابن جرير: أي: محل نحره. وذلك دخول الحرم، والموضع الذي إذا صار إليه حلّ نحره، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ساق معه حين خرج إلى مكة في سفرته تلك، سبعين بدنة.
وفي الآية دليل على أن محل ذبح الهدي، الحرم.
{ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاء مُّؤْمِنَاتٌ } أي: موجودون بمكة مع الكفار: { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } أي: بصفة الإيمان وهم بمكة، حبسهم المشركون بها عنكم، فلا يستطيعون من أجل ذلك الخروج إليكم { أَن تَطَؤُوهُمْ } أي: تقتلوهم مع الكفار، لو أذن لكم في الفتح بدل الصلح. قال السمين: { أَن تَطَؤُوهُمْ } يجوز أن يكون بدلاً من رجال ونساء، غلب الذكور، وأن يكون بدلاً من مفعول: { تَعْلَمُوهُمْ }. فالتقدير على الأول: ولولا وطء رجال ونساء غير معلومين. وتقدير الثاني: لم تعلموا وطأهم، والخبر محذوف تقديره: ولولا رجال ونساء موجودون، أو بالحضرة. انتهى.
{ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ } أي: إثم وغرامة. من عرّه إذا عراه ما يكرهه. وقوله: { بِغَيْرِ عِلْمٍ } حال من الضمير المرفوع في: { تَطَؤَوهُمْ } أي: تطؤوهم غير عالمين بهم. وفي جواب: { لَوْلاَ } أقوال:
أحدها - أنه محذوف لدلالة الكلام عليه. والمعنى: ولولا كراهة أن تهلكوا ناساً مؤمنين بين ظهراني المشركين، وأنتم غير عارفين بهم، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة، لما كف أيديكم عنهم، ولأذن لكم في دخول مكة مقاتليهم.
والثاني - أنه مذكور، وهو: { لَعَذَّبْنَا } وجواب لو هو المحذوف. فحذف من الأول لدلالة الثاني، ومن الثاني لدلالة الأول.
والثالث -أن قوله: { لَعَذَّبْنَا } جوابهما معاً، وهو بعيد إن أريد حقيقة ذلك.
وذكر الزمخشري قريباً من هذا فإنه قال: ويجوز أن يكون: { لَوْ تَزَيَّلُوا } كالتكرير لـ: { وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ } لمرجعهما لمعنى واحد، ويكون: { لَعَذَّبْنَا } هو الجواب. ومنع الشيخ رجوعهما لمعنى واحد، قال: لأن ما تعلق به الأول غير ما تعلق به الثاني - أفاده السمين -.
وأجاب الناصر بقوله: وإنما كان مرجعهما ههنا واحدا، وإن كانت لولا تدل على امتناع لوجود، ولو تدل على امتناع لامتناع. وبين هذين تناف ظاهر؛ لأن لولا ههنا دخل على وجود، ولو دخلت على قوله: { تَزَيَّلُوا } وهو راجع إلى عدم وجودهم. وامتناع عدم الوجود وجود. فآلا إلى أمر واحد من هذا الوجه. قال: وكان جديرحمه الله يختار هذا الوجه الثاني، ويسميه تطرية. وأكثر ما تكون إذا تطاول الكلام، وبعد عهد أوله، واحتيج إلى رد الآخر على الأول، فمرة يطري بلفظه، ومرة بلفظ آخر يؤدي مؤادّه وقد تقدمت لهما أمثال.
تنبيه:
فسر ابن إسحاق المعرة بالدية، ذهاباً إلى أن دار الحرب لا تمنع من ذلك. وهو مذهب الشافعي. وذهب غيرهما إلى أنها تمنع من ذلك، ومنهم ابن جرير، حيث قال: المعرة هي كفارة قتل الخطأ، وذلك عتق رقبة مؤمنة لمن أطاق ذلك، ومن لم يطق فصيام شهرين. قال: وإنما اخترت هذا القول، دون القول الذي قاله ابن إسحاق، لأن الله إنما أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب - إذا لم يكن هاجر منها، ولم يكن قاتِله علم إيمانه - الكفارةَ دون الدية فقال: { فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ } لم يوجب على قاتله خطأ ديته، فلذلك قلنا: عنى بالمعرة في هذا الموضع الكفارة. انتهى.
{ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاء } متعلق بما يدل عليه الجواب المحذوف، كأنه قيل عقيبه: لكن كفها عنهم، ولم يأذن لكم في مقاتلتهم، ليدخلكم في رحمته الكاملة بحفظكم من المعرة. وقد جوّز أن يكون: { مَن يَشَاءُ } عبارة عمن رغب في الإسلام من المشركين، وعليه اقتصر ابن جرير، قال: أي: ليدخل الله في الإسلام من أهل مكة من يشاء، قبل أن تدخلوها. وناقش فيه أبو السعود بأن ما بعده من فرض التنزيل، وترتيب التعذيب عليه، يأباه.
{ لَوْ تَزَيَّلُواْ } أي: لو تميز مشركو مكة من الرجال المؤمنين، والنساء المؤمنات، الذين لم تعلموهم منهم: { لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أي: بالقتل، أو الأسر، أو نوع آخر من العذاب الآجل.
تنبيه:
قال إلكيا الهراسي: في الآية دليل على أنه لا يجوز حرق سفينة الكفار، إذا كان فيهم أسرى من المسلمين، وكذلك رمي الحصون إذا كانوا بها، والكفار إذا تترسوا بهم.