التفاسير

< >
عرض

لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا بِٱلْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً
٢٧
-الفتح

محاسن التأويل

{ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ }.
قال ابن جرير: أي: لقد صدق الله رسوله محمداً رؤياه التي أرها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين، لا يخافون أهل الشرك، مقصراً بعضهم رأسه، ومحلقاً بعضهم. ثم روي عن مجاهد أنه قال: أُري بالحديبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين، فقال أصحابه حين نحر بالحديبية: أين رؤيا محمد صلى الله عليه وسلم؟
وعن ابن زيد قال: قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:
"إني قد رأيت أنكم ستدخلون المسجد الحرام محلقين رؤوسكم مقصرين" ، فلما نزل بالحديبية، ولم يدخل ذلك العام، طعن المنافقون في ذلك فقالوا: أين رؤياه؟ فقال الله: { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ } الآية، إني لم أُره يدخلها هذا العام، وليكونن ذلك. و: { الرُّؤْيَا } منصوب بنزع الخافض، أي: صدقه في رؤياه. أي: حقق صدقها عنده، كما هو عادة الأنبياء عليهم السلام، ولم يجعلها أضغاث أحلام. أو منصوب على أنه مفعول ثان، وهو ما قاله الكرماني، وعبارته: كذب، يتعدى إلى مفعولين، يقال: كذبني الحديث، وكذا صدق، كما في الآية. وهو غريب لتعدي المثقل لواحد، والمخفف لمفعولين.
وقوله: { بِالْحَقِ } حال من الرؤيا؛ أي: متلبسة بالحق، ليست من قبيل أضغاث الأحلام.
وقوله: { لَتَدْخُلُنَّ } جواب قسم محذوف؛ أي: والله! لتدخلن.
وقوله: { إن شَاءَ اللَّهُ } تعليق للعدة بالمشيئة، لتعليم العباد، أو للإشعار بأن بعضهم لا يدخل، فهو في معنى: ليدخلنّه من شاء الله دخوله منكم. أو حكاية لما قاله ملك الرؤيا، أو النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه.
وقوله: { مُحَلّقِينَ } حال مقدرة، لأن الدخول في حال الإحرام، لا في حال الحلق والتقصير. وفي الكلام تقدير، أو هو من نسبة ما للجزء إلى الكل. والمعنى: محلقاً بعضكم، ومقصراً آخرون. والقرينة عليه: أنه لا يجتمع الحلق والتقصير، فلا بد من نسبة كل منهما لبعض منهم.
وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"رحم الله المحلقين! قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: رحم الله المحلقين؟ قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: رحم الله المحلقين! قالوا: والمقصرين يا رسول الله! قال: والمقصرين!" .
وقوله تعالى: { لاَ تَخَافُونَ } حال مؤكدة لقوله: { ءَامِنِينَ } أو مؤسسة، لأن اسم الفاعل للحال والمضارع للاستقبال، فيكون أثبت لهم الأمن حال الدخول. ونفى عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد، لا يخافون من أحد.
قال الحافظ ابن كثير: وهذا كان في عَمْرة القضاء، في ذي القعدة سنة سبع،
"فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية في ذي القعدة، رجع إلى المدينة، فأقام بها ذا الحجة ومحرم، وخرج في صفر إلى خيبر، ففتحها الله عليه، بعضها عنوة، وبعضها صلحاً، وهي إقليم عظيم، كثير النخل والزروع، فاستخدم من فيها من اليهود عليها، على الشطر، وقسمها بين أهل الحديبية وحدهم، ولم يشهدها أحد غيرهم، إلا الذين قدموا من الحبشة: جعفر بن أبي طالب، وأصحابه، وأبو موسى الأشعري، وأصحابه رضي الله عنهم، ولم يغب منهم أحد" .
قال ابن زيد: إلا أبا دجانة سِمَاك بن خرشة، كما هو مقرر في موضعه. "ثم رجع المدينة، فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع، خرج صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمراً، هو وأهل الحديبية، فأحرم من ذي الحليفة، ساق معه الهدي. قيل: كان ستين بدنة. فلبى، وسار وأصحابه يلبون، قريباً من مر الظهران، بعث محمد بن سلمة بالخيل والسلاح أمامه، فلما رآه المشركون رعبوا رعباً شديداً، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه، من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا فأخبروا أهل مكة. فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل بمر الظهران، حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، بعث السلاح من القسي، والنبل، والرماح إلى بطن يأجج، وسار بالسيوف إلى مكة مغمدة في قربها، كما شارطهم عليه. فلما كان في أثناء الطريق، بعثت قريش مكرز بن حفص فقال: يا محمد! ما عرفناك تنقض العهد! فقال صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ قال: دخلت علينا بالسلاح، القسي والرماح! فقال صلى الله عليه وسلم: لم يكن ذلك، وقد بعثنا به إلى يأجج؟ فقال: بهذا عرفناك، بالبر والوفاء. وخرجت رؤوس الكفار من مكة، لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى أصحابه رضي الله عنهم" [في المطبوع: عنه]، "غيظاً وحنقاً. وأما بقية أهل مكة من الرجال، والنساء، والولدان فجلسوا في الطرق، وعلى البيوت، ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه، فدخلها عليه الصلاة والسلام، وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى، وهو راكب ناقته القصواء، التي كان راكبها يوم الحديبية، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول"
:

بِاسْمِ الَّذِيْ لَاْ دِيْنَ إِلّاْ دِيْنُهُ بِاسْمِ الَّذِيْ مُحَمَّدٌ رَسُوْلُهُ
خَلُّوْا بَنِي الْكُفَّاْرِ عَنْ سَبِيْلِهِ الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَىْ تَأْوِيْلِهِ
كَمَاْ ضَرَبْنَاْكُمْ عَلَىْ تَنْزِيْلِهِ ضَرْباً يُزِيْلُ الْهَاْمَ عَنْ مَقِيْلِهِ
وَيُذْهِلُ الْخَلِيْلَ عَنْ خَلِيْلِهِ قَدْ أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ فِيْ تَنْزِيْلِهِ
فِيْ صُحُفٍ تُتْلَىْ عَلَىْ رَسُوْلِهِ بِأَنَّ خَيْرَ الْقَتْلِ فِيْ سَبِيْلِهِ
يَاْ رَبِّ! إِنِّيْ مُؤْمِنٌ بِقِيْلِهِ

وروى الإمام أحمد من طريق أبي الطفيل عن ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل مرّ الظهران في عمرته، بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قريشاً تقول: ما يتباعثون من العجف؟ فقال أصحابه: لو انتحرنا، من ظهرنا، فأكلنا من لحمه، وحسونا من مرقه، وأصبحنا غداً حين ندخل على القوم، وبنا جمامة. قال صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا، ولكن اجمعوا لي من أزوادكم فجمعوا له، وبسطوا الأنطاع، فأكلوا حتى تولوا، وحثا كل واحد منهم في جرابه. ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل المسجد، وقعدت قريش نحو الحِجر فاضطبع صلى الله عليه وسلم بردائه، ثم قال: لا يرى القوم فيكم غميزة فاستلم الركن، ثم دخل حتى إذا تغيب بالركن اليماني مشى إلى الركن الأسود، فقالت قريش: ما يرضون بالمشي إنهم لينقزون نقز الظباء؟ ففعل ذلك ثلاثة أطواف، فكانت سنّة" .
قال أبو الطفيل: فأخبرني ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في حجة الوداع. وروى أحمد من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها سوءاً، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب، ولقوا منها شراً، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحجر، فأطلع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُرملوا الأشواط الثلاثة، ليرى المشركون جلدهم. قال، فرملوا ثلاثة أشواط، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين، حيث لا يراهم المشركون. وفي رواية: ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا الإبقاء عليهم" .
وفي ابن كثير زيادة من الأحاديث في هذا الباب، فليراجعها من أحب الزيادة.
وقوله تعالى: { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا } أي: من الخيرة، والمصلحة في صرفكم عن مكة، ودخولكم إليها، عامكم ذلك.
قال ابن جرير: وذلك علمه تعالى ذكره بما بمكة من الرجال، والنساء المؤمنين لم يعلمهم المؤمنون، ولو دخلوها في ذلك العام لوطئوهم بالخيل والرجل، فأصابهم منهم معرة بغير علم، فردهم الله عن مكة من أجل ذلك. وليدخل في رحمته من يشاء ممن يريد أن يهديه { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ } أي: قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم: { فَتْحاً قَرِيباً } يعني الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش، أو فتح خيبر، لتستروح إليه قلوب المؤمنين، إلى أن يتيسر الفتح الموعود. وإلى الأول ذهب الزهري، قال: يعني صلح الحديبية. وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس. فلما كانت الهدنة، وضعت الحرب، وأمن الناس كلهم بعضهم بعضاً، فالتقوا، فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام، يعقل شيئاً، إلا دخل فيه. فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر. ووافقه مجاهد، وإلى الثاني ذهب ابن زيد.
قال ابن جرير: والصواب أن يعم فيقال: جعل الله من دون ذلك كليهما.