التفاسير

< >
عرض

ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يَأْتُواْ بِٱلشَّهَادَةِ عَلَىٰ وَجْهِهَآ أَوْ يَخَافُوۤاْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَٱسْمَعُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْفَاسِقِينَ
١٠٨
-المائدة

محاسن التأويل

ثم بيّن وجه الحكمة والمصلحة المتقدم تفصيله بقوله: { ذَلِكَ } أي: الحكم المذكور: { أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا } أي: أقرب إلى أن يؤدي الشهود - أو الأوصياء - الشهادة في نحو تلك الحادثة على حقيقتها من غير تغيير لها، خوفاً من العذاب الأخروي. فـ ( الوجه ) بمعنى الذات والحقيقة.
قال أبو السعود: وهذه - كما ترى - حكمةُ شرعيةِ التحليف بالتغليظ المذكور !
وقوله تعالى: { أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } بيان لحكمة شرعية ردّ اليمين على الورثة، معطوف على مقدرٍ ينبئ عنه المقام؛ كأنه قيل: ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها، ويخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة. أو يخافوا أن ترد اليمين على المدعين بعد أيمانهم، فيفتضحوا بظهور الخيانة واليمين الكاذبة، ويغرموا فيمتنعوا من ذلك { وَاتَّقُوا اللَّهَ } أي: في مخالفة أحكامه التي منها هذا الحكم، وهو ترك الخيانة والكذب: { وَاسْمَعُوا } أي: ما تؤمرون به سماعَ قبولٍ: { وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } أي: الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته، أي: إلى طريق الجنة أو إلى ما فيه نفعهم.
وقد استفيد من الآية أحكام:
الأول - لزوم الوصية حال الخوف من الموت وحضور قرائنه. لأنه تعالى قال: { حِينَ الْوَصِيَّةِ } أي: وقت أن تحق الوصية وتلزم.
الثاني - قال بعضهم: دلّ قوله تعالى: { اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } على أن الحكم شرطه أن يشهد فيه اثنان عدلان. وهذا إطلاق لم يفصل فيه بين حق الله وحق غيره، ولا بين الحدود وغيرها، إلاّ شهادة الزنى. فلقوله تعالى في النور: { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } [النور: 4]، وهذا مجمع عليه.
قال ابن القيم في " أعلام الموقعين ": إنه سبحانه ذكر ما يحفظ به الحقوق من الشهود ولم يذكر أن الحكام لا يحكمون إلاّ بذلك. فليس في القرآن نفي الحكم بشاهد ويمين، ولا بالنكول، ولا باليمين المردودة، ولا بأيمان القسامة، ولا بأيمان اللعان وغير ذلك مما يبين الحق ويظهره يدل عليه. والشارع - في جميع المواضع - يقصد ظهور الحقّ بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له.
ولا يرد حقّاً قد ظهر بدليله أبداً. فيضيع حقوق الله وحقوق عباده ويعطلها. ولا يقف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في تخصيصه به مع مساواة غير في ظهور الحق أو رجحانه عليه ترجيحاً لا يمكن جحده ودفعه. وقد أطال في ذلك بما لا يُستغنى عن مراجعته.
الثالث - في قوله تعالى: { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } دلالة على صحة شهادة الذميّ على المسلم عموماً. لكن خرج جوازها فيما عدا وصية المسلم في السفر بالإجماع.
قال بعض المفسّرين: ذهب الأكثر إلى أن شهادة الذميين قد نسخت. وعن الحسن وابن أبي ليلى والأوزاعي وشريح والراضي بالله وجدّه الإمام عبد الله بن الحسين: أنها صحيحة ثابتة. وكذا ذهب الأكثر إلى أن تحليف الشهود منسوخ. وقال طاوس والحسن والهادي: إنه ثابت. انتهى.
أقول: لم يأت من ادعى النسخ بحجة تصلح لذكرها وتستدعي التعرض لدفعها.
قال الإمام ابن القيم في " أعلام الموقّعين ":
أمر تعالى في الشهادة على الوصية في السفر باستشهاد عدلين من المسلمين أو آخريْن من غيرهم. وغير المؤمنين هم الكفار، الآية صريحة في قبول شهادة الكافرين على وصية في السفر عند عدم الشاهدين المسلميْن. وقد حكم به النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده، ولم يجئ بعدها ما ينسخها، فإن المائدة من آخر القرآن نزولاً وليس فيها منسوخ، وليس لهذه الآية معارض البتة. ولا يصح أن يكون المراد بقوله: { مِنْ غَيْرِكُمْ } من غير قبيلتكم؛ فإن الله سبحانه خاطب بها المؤمنين كافة بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } الآية. ولم يخاطب بذلك قبيلة معينة حتى يكون قوله: { مِنْ غَيْرِكُمْ } أيتها القبيلة، والنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يفهم هذا من الآية. بل إنما فهم منها ما هي صريحة فيه، وكذلك أصحابه من بعده.
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح ": واستدلّ بالآية على جواز شهادة الكفار بناءً على بال غير الكفار. وخصّ جماعةٌ القبولَ بأهل الكتاب وبالوصية وبفقد المسلم حينئذٍ. منهم: ابن عباس وأبو موسى الأشعري، وسعيد بن المسيّب، وابن سيرين، والأوزاعي، والثوري، وأبو عبيد، وأحمد - وهؤلاء أخذوا بظاهر الآية - وقوّى ذلك حديث الباب - يعني حديث ابن عباس المتقدم - فإن سياقه مطابق لظاهر الآية. وقيل: المراد بال ( غير ) العشيرة. والمعنى ( منكم ) أي: من عشيرتكم: { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي: من غير عشيرتكم، وهو في قول الحسن واحتجّ له النحاس بأن لفظ ( آخر ) لابدّ أن يشارك الذي قبله في الصفة، حتى لا يسوغ أن تقول: مررت برجل كريم ولئيم آخر. فعلى هذا فقد وصف الاثنان بالعدالة. فيتعيّن أن يكون الآخران كذلك. وتعقب بأن هذا - وإن ساغ في الآية الكريمة - لكن الحديث دلّ على خلاف ذلك. والصحابي إذا حكى سبب النزول كان ذلك في حكم الحديث المرفوع اتفاقاً. وأيضاً، ففي ما قال ردّ المختلف فيه بالمختلف فيه. لأن اتّصاف الكافر بالعدالة مختلف فيه. وهو فرع قبول شهادته، فمن قبلها وصفه بها، ومن لا، فلا. واعترض أبو حيّان على المثال الذي ذكره النحاس بأنه غير مطابق. فلو قلت: جاءني رجل مسلم وآخر كافر، صحّ. بخلاف ما لو قلت: جاءني رجل مسلم وكافر آخر. والآية من قَبيل الأول لا الثاني. لأن قوله: { أَوْ آخَرَانِ } من جنس قوله: اثنان، لأن كلاَّهما منهما صفة ( رجلان )، فكأنه قال: فرجلان اثنان ورجلان آخران. وذهب جماعة من الأئمة إلى أن هذه الآية منسوخة. وأن ناسخها قوله تعالى:
{ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء } [البقرة: 282] واحتجوا بالإجماع على ردّ شهادة الفاسق. والكافرُ شرّ من الفاسق. وأجاب الأولون: بأن النسخ لا يثبت بالاجتمال، وأن الجمع بين الدليلين أولى من إلغاء أحدهما. وبأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن. حتى صحّ عن ابن عباس وعائشة وعمرو بن شرحبيل وجَمْعٍ من السلف، أن سورة المائدة محكمة. وعن ابن عباس؛ أن الآية نزلت فيمن مات مسافراً وليس عنده أحد من المسلمين، فإن اتّهما استحلفا. أخرجه الطبري بإسناد رجاله ثقات.
وأنكر أحمد على من قال: إن هذه الآية منسوخة.
وصحّ عن أبي موسى الأشعري أن عمل بذلك بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم كما تقدّم.
ورجّح الفخر الرازي - وسبقه الطبريّ - لذلك. أن قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ } خطاب للمؤمنين. فلما قال: { أَوْ آخَرَانِ } وضح أنه أراد غير المخاطبين. فتعيَّن أنهما من غير المؤمنين. وأيضاً: فجواز استشهاد المسلم ليس مشروطاً بالسفر. وأن موسى حكم بذلك فلم ينكره أحد من الصحابة. فكان حجةً. انتهى كلام الحافظ.
وفي " فتح البيان ": الحق أن الآية محكمة لعدم وجود دليل صحيح يدل على النسخ. وأما قوله تعالى: { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء } وقوله: { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } فهما عامَّان في الأشخاص والأزمان والأحوال. وهذه الآية خاصة بخالة الضرب في الأرض وبالوصية وبحالة عدم الشهود المسلمين. ولا تعارض بين خاصٍّ وعامٍّ. انتهى.
وقد أطنب الرازي في " تفسيره " في الاحتجاج على عدم نسخها بوجوه عديدة، وجوّد الكلام - في أن المراد من: { غَيْرِكُمْ } أي: من غير ملّتكم -تجويداً فائقاً.
الرابع: قال الحافظ ابن حجر في " الفتح ":
ذهب الكرابيسيّ ثم الطبري وآخرون إلى أنّ المراد بالشهادة في الآية اليمين. قال:
وقد سمى الله اليمين شهادة في آية اللعان. وأيدوا ذلك بالإجماع على أن الشاهد لا يلزمه أن يقول: أشهد بالله. وأن الشاهد لا يمين عليه أنه شهد بالحق. قالوا: فالمراد بالشهادة اليمين لقوله: { فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ } أي: يحلفان. فإن عرف أنهما حلفا على الإثم رجعت اليمين على الأولياء. وتعقب بأن اليمين لا يشترط فيها عدد ولا عدالة، بخلاف الشهادة. وقد اشترطا في هذه القصة، فقوي حملها على أنها شهادة. وأما اعتلال من اعتل في ردّها بأنها تخالف القياس والأصول - لما فيها من قبول شهادة الكافر وحبس الشاهد وتحليفه وشهادة المدعي لنفسه واستحقاقه بمجرد اليمين - فقد أجاب من قال به بأنه حكم بنفسه مستغنٍ عن نظيره. وقد قبلت شهادة الكافر في بعض المواضع، كما في الطبّ. وليس المراد بالحبس السجن. وإنما المراد: الإمساك لليمين ليحلف بعد الصلاة. وأما تحليف الشاهد فهو مخصوص بهذه الصورة عند قيام الريبة. وأما شهادة المدعي لنفسه واستحقاقه بمجرّد اليمين، فإن الآية تضمنت نقل الأيمان إليهم عند ظهور اللوث بخيانة الوصّيين. فيشرع لهما أن يحلفا ويستحقا، كما يشرع لمدعي الدم في القسامة أن يحلف ويستحق فليس هو من شهادة المدعي لنفسه، بل من باب الحكم له بيمينه القائمة مقام الشهادة لقوة جانبه. وأيّ فرق بين ظهور اللوث في صحة الدعوى بالدم، وظهوره في صحة الدعوى بالمال؟ وحكى الطبري: أنّ بعضهم قال: المراد بقوله: { اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ } الوصيان. قال: والمراد بقوله: { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } معنى الحضور لما يوصيهما به الموصي. ثم زيف ذلك. انتهى كلام " الفتح ".
ولا يخفاك أن الآية بنفسها - مع ما ورد في نزولها - غنيّة عن تكلف إدخالها تحت القياس والقواعد والتمحّل لتأويلها.
الخامس: في قوله تعالى: { مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ } دلالة على تغليظ اليمين.
قال الحافظ ابن حجر في " الفتح " وبعض المفسّرين:
ذهب الجمهور إلى وجوب التغليظ بالزمان والمكان. فأما في الزمان فبعد العصر. وأما في المكان: ففي المدينة عند المنبر، وبمكة بين الركن والمقام، وفي بيت المقدس عند الصخرة، وبغيرهما بالمسجد الجامع. واتفقوا على أن ذلك في الدماء والمال الكثير، لا في القليل. انتهى.
وذهب الزيدية والحنفية والحنابلة إلى أن اليمين لا تغلظ بزمان ولا بمكان. وأخذوا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم:
" البيّنة على المدّعي واليمين على من أنكر " ، ولم يفصل. قالوا: وقوله تعالى في هذه الآية: { مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ } يحتمل أن ذكره لأنهم كانوا لا يعتادون الحكم إلا في ذلك الوقت.
قال بعض الزيدية: وهل التغليظ في المكان والزمان على سبيل الوجوب أو الاستحباب؟ قال الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة: المختار، التغليظ في الأيمان لفساد أهل الزمان. وذلك مرويّ عن أمير المؤمنين المرتضى وأبي بكر وعمر وعثمان وابن عباس ومالك والشافعيّ. قال: والمختار أنه مستحبّ غير واجب. انتهى.
وفي كتاب " الشهادات " من " صحيح البخاري " بابان في هذه المسألة. فليرجع مع شروحه.
السادس: قال ابن أبي الفرس: في قوله تعالى: { فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ } دليل على أن أقسم بالله يمين، لا أقسم فقط.
السابع: في قوله تعالى: { وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ } الآية دليل على تحريم كتمان الشهادة. وذلك لا إشكال فيه. الثامن: قال السيوطي: تخصيص الحلف في الآية باثنين من أقرب الورثة [يعني على قراءة الأوليان] لخصوص الواقعة التي نزلت لها. ثم ساق رواية البخاري السابقة. أي: وللإشارة إلى الاكتفاء باثنين من أقرب الورثة أيضاً وإن كان فيهم كثرة.
غريبة
قال مكي في كتابه المسمى بـ " الكشف ": هذه الآيات الثلاث - عند أهل المعاني - من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنىً وحكماً وتفسيراً. ولم يزل العلماء يستشكلونها ويكفّون عنها.
قال: ويحتمل أن يبسط ما فيها من العلوم في ثلاثين ورقة أو أكثر. وقد ذكرناها مشروحة في كتاب مفرد. قال ابن عطية: هذا كلام من لم يقع له الناتج في تفسيرها، وذلك بين من كتابهرحمه الله تعالى - يعني من كتاب مكيّ -.
قال القرطبي: ما ذكره مكيّ، ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضاً.
قال السعد في " حاشيته على الكشاف ": واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعراباً ونظماً وحكماً.. انتهى.
أقول: هذه الآية الكريمة غنية بنفسها - مع ما ورد في سبب نزولها، وما قاله حبر الأمة وترجمان القرآن في معناها - عن التشكيك فيها، والتكلّف لإدخالها تحت القواعد، والتمحّل لتأويلها. فخُذْ ما نقلناه من محاسن تأويلها وكن من الشاكرين.