{ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ } [الباء] سببيّة و ( ما ) مزيدة لتأكيد الكلام وتمكينه في النفس. أي: بسبب نقضهم ميثاقهم. أونكرة. أي: بشيء عظيم صدر منهم من نقضهم ميثاقهم المؤكد، الموعود عليه النصر والمغفرة والأجر العظيم { لَعَنَّاهُمْ } أي: أبعدناهم عن رحمتنا { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } بحيث لا تلين لرؤية الآيات والنذر، ولا تتعظ بموعظةٍ، لغلظها وقساوتها لغضب الله عليهم، وبقيت تلك القساوة واللعنة في ذريتهم: { يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ } أي: كلم الله في التوراة، بصرف ألفاظه أو معانيه { عَنْ مَوَاضِعِهِ } التي أنزلت.
قال ابن كثير: أي: فسدت فُهومُهم، وساء تصرّفهم في آيات الله، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله، وحملوه على غير مراده، وقالوا عليه ما لم يقل. عياذاً بالله من ذلك. قال أبو السعود: والجملة استئناف لبيان مرتبة قساوة قلوبهم. فإنه لا مرتبة أعظ مما يصحح الاجتراء على تغيير كلام الله عز وجل، والافتراء عليه. وقيل: حال من مفعول ( لعناهم ).
{ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } أي: تركوا نصيباً وافراً مما أُمروا به في التوراة، تَرْكَ الناسي للشيء لقلة مبالاته بحيث لم يكن لهم رجوع عليه. أو من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم { وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ } أي: خيانة. على أنها مصدر كـ ( لاغيةٍ وكاذبة ). أو طائفة خائنة. يعني: أن الغدر والخيانة عادة مستمرة لهم ولأسلافهم، بحيث لا يكادون يتركونها أو يكتمونها. فلا تزال ترى ذلك منهم.
قال مجاهد. وغيره بذلك تمالُؤَهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ } وهم المؤمنون منهم { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } أي: لا تعاقبهم.
قال ابن كثير: هذا موجب النصر والظفر. كما قال عمر: ما عاملتَ مَنْ عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه. وبهذا، يحصل لهم تأليف وجمع على الحقّ. ولعلّ الله يهديهم.
ولهذا قال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } يعني به الصفح عمّن أساء، فإنه من باب الإحسان.
تنبيه
قال بعض المفسِّرين: في هذا دلالة على جواز التحليف على الأمور المستقبلة. وأخذ الكفيل على الحق الذي يفعل في المستقبل. وفي قوله تعالى: { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ... } الخ، دليل على تأكيد الميثاق، وقبح نقضه، وأنه قد يسلب اللطف المُبْعد من المعاصي. ويورث النسيان، ولهذا قال تعالى: { وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ } وعن ابن مسعود: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية. انتهى.