التفاسير

< >
عرض

كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ
٧٩
-المائدة

محاسن التأويل

{ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ } أي: لا ينهى بعضهم بعضاً عن ارتكاب المآثم والمحارم. ثم ذمَّهم على ذلك ليحذر من ارتكاب مثل الذي ارتكبوه فقال: { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } مؤكداً بلام القسم. تعجيباً من سوء فعلهم، كيف وقد أدّاهم إلى ما شرح من اللعن الكبير.
تنبيهات
الأول: دلت الآية على جواز لعنهم.
الثاني: دلت الآية أيضاً على المنع من الذرائع التي تبطل مقاصد الشرع. لم رواه أكثر المفسرين، أن الذين لعنهم داود عليه السلام أهل أيلة الذين اعتدوا في السبت واصطادوا الحيتان فيه. وستأتي قصتهم في ( الأعراف ).
الثالث: دلت أيضاً على وجوب النهي عن المنكر.
قال الحاكم: وتدل على أن ترك النهي من الكبائر.
الرابع: روى الإمام أحمد في معنى الآية عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لما وقعت بنوا إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا، فجالسوهم في مجالسهم، أو في أسواقهم، وواكلوهم وشاربوهم، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم { ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس فقال: لا، والذي نفسي بيده ! حتى تَأْطِرُوهم على الحق أطراً " . أي: تعطفوهم عليه. ورواه الترمذي وقال: حسن غريب.
وأخرجه أبو داود عنه فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا ! اتق اللهَ، ودَعْ ما تصنع، فإنه لا يحل لك ثم، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده. فلما فعلوا ذلك، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ثم قال: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } -إلى قوله -: { فَاسِقُونَ }. ثم قال: كلا والله ! لتأمرن بالمعروف. ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطِرنّه على الحق أطراً، أو تقصرنَّه على الحق قصراً " .
زاد في رواية: أو ليضربنّ الله قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنكم كما لعنهم.
وكذا رواه الترمذي وحسّنه. وابن ماجة.
والأحاديث في ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) كثيرة، ومما يناسب منها هذا المقام:
ما رواه الإمام أحمد والترمذيّ عن حذيفة بن اليمان: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:
" والذي نفسي بيده ! لتأمرنّ بالمعروف ولتنهوُنّ عن المنكر، أو ليُوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده، ثم لَتَدْعُنّه فلا يستجيب لكم " .
وفي " الصحيحين " عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من رأى منكم منكراً فليغيّرهُ بيده. فإن لم يستطع فبلسانه. فإن لم يستطع فبقلبه. وذلك أضعف الإيمان " .
وروى الإمام أحمد عن عديّ بن عَميرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إنَّ الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم. وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه. فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة " .
وروى ابن ماجة عن أبي سعيد الخدريّ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله لَيَسْأَل العبد يوم القيامة حتى يقول: ما منعك إذْ رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله عبداً حجته قال: يا ربّ ! رجوتك وفرقت الناس " .
قال الحافظ ابن كثير: تفرّد به ابن ماجة. وإسناده لا بأس به.
وروى الإمام أحمد والترمذيّ عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه. قيل: وكيف يذل نفسه؟ قال: يتعرض من البلاء ما لا يطيق " .
قال الترمذيّ: حسن غريب.
وروى ابن ماجة عن أنس بن مالك قال: قيل: يا رسول الله ! متى نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال:
" إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم. قلنا: يا رسول الله ! وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال: الملك في صغاركم، الفاحشة في كباركم، والعلم في رُذالتكم " .
قال زيد بن يحيى الخزاعيّ، أحد رواته: معنى قول النبيّ صلى الله عليه وسلم ( والعلم في رذالتكم ) إذا كان العلم في الفساق.
تفرد به ابن ماجة. وله شاهد في حديث أبي ثعلبة يأتي إن شاء الله عند قوله تعالى: { لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ } - أفاده ابن كثير.
أقول: هذه الأحاديث إنما يتروّح بها الضعفة، من نحو العلماء والقادة. وأما من كان لهم الكلمة النافذة والوجاهة التامة فهيهات أن تغني عنهم، وهذه المواعيد الهائلة تخفق فوق رؤوسهم.. ولذا قال العّلامة الزمخشري: فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير، وقلّة عبئهم به. كأنه ليس من ملّة الإسلام في شيء. مع ما يتلون من كتاب الله، وما فيه من المبالغات في هذا الباب وقد مرّ عند قوله تعالى:
{ { لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ } [المائدة: 63] ما يؤيد ما هنا، فتذكرّ.
الخامس: قال الزمخشري: فإن قلت: كيف وقع ترك التناهي عن المنكر تفسيراً للمعصية والاعتداء؟ قلت: من قِبَلِ أن الله تعالى أمر بالتناهي. فكان الإخلال به معصية، وهو اعتداء.
ولما وصف تعالى أسلافهم بما مضى، وصف الحاضرين بقوله:
{ تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ ... }.