التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلْمُصَّدِّقِينَ وَٱلْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ
١٨
وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ وَٱلشُّهَدَآءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَحِيمِ
١٩
-الحديد

محاسن التأويل

القول في تأويل قوله تعالى:
{ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } [18 - 19] { إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ } أي: المتصدقين والمتصدقات في سبيل الله { وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ واَلشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } أي: لتصديقهم بجميع أخبار الله وأحكامه، وشهادتهم بحقية جميع ذلك. وقد جوز في { اَلشُّهَدَاء } وجهان:
أحدهما: أن يكون معطوفاً على ما قبله، أخبر عن الذين آمنوا أنهم صديقون شهداء، وهو الظاهر، لأن الأصل الوصل لا التفكيك.
والثاني: أن يكون مبتدأ، خبره { لَهُمْ أَجْرُهُمْ }، و { الشُّهَدَاء } حينئذ إما الأنبياء الذين يشهدون على قومهم بالتبليغ أو الذين يشهدون للأنبياء على قومهم، أو الذين قتلوا في سبيل الله. واختار الوجه الثاني ابن جرير، قال: لأن الإيمان غير موجب في المتعارف للمؤمن اسم شهيد، لا بمعنى غيره، إلا أن يراد به شهيد على ما آمن به وصدقه، فيكون ذلك وجهاً، وإن كان فيه بعض البعد، لأن ذلك ليس بالمعروف من معانيه إذا أطلق بغير وصل فتأويل قوله: { وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ } إذن والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، أو أهلكوا في سبيله، عند ربهم، لهم ثواب الله في الآخرة ونورهم. انتهى.
ثم رأيت لابن القيم في "طريق الهجرتين" بسطاً لهذين الوجهين في بحث الصديقية، ننقله لنفاسته، قالرحمه الله في مراتب المكلفين في الآخرة وطبقاتهم:
الطبقة الرابعة: ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم، وهم القائمون بما بعثوا به علماً وعملاً، ودعوة للخلق إلى الله على طريقهم ومنهاجهم، وهذه أفضل مراتب الخلق بعد الرسل و النبوة، وهي مرتبة الصديقية؛ ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء، فقال تعالى:
{ { وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } [النساء: 69]، فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة، وهؤلاء هم الربانيون، وهم الراسخون العلم، وهم الوسائط بين الرسول وأمته؛ فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه، وهم المضمون لهم أنهم لا يزالون على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك.
وقال تعالى: { وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } قيل: إن الوقف على قوله:
{ هُمُ الصِّدِّيقُونَ } ثم يبتدئ: { وَالشُّهَدَاء عِندَ رَبِّهِمْ } فيكون الكلام جملتين، أخبر في إحداهما عن المؤمنين بالله ورسله أنهم هم الصديقون، والإيمان التام يستلزم العلم والعمل، والدعوة إلى الله بالتعليم والصبر عليه. وأخبر في الثانية أن الشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم، ومرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداء ولهذا قدمهم عليهم في الآيتين، هنا وفي سورة النساء، وهكذا جاء ذكرهم مقدماً على الشهداء في كلام النبي في قوله:
"اثبت أحد فإنما عليك نبيّ وصديق وشهيد" . ولهذا كان نعت الصديقية وصفاً لأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين أبي بكر الصديق، ولو كان بعد النبوة درجة أفضل من الصديقية لكانت نعتاً له رضي الله عنه.
وقيل: إن الكلام جملة واحدة، أخبر عن المؤمنين أنهم هم الصديقون والشهداء عند ربهم، وعلى هذا فالشهداء هم الذين يستشهدهم الله على الناس يوم القيامة، وهي قوله:
{ { لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ } [البقرة: 143]، وهم المؤمنون، فوصفهم بأنهم صديقون في الدنيا، وشهداء على الناس يوم القيامة، ويكون الشهداء وصفاً لجملة المؤمنين الصديقين.
وقيل: الشهداء هم الذين قتلوا في سبيل الله، وعلى هذا القول يترجح أن يكون الكلام جملتين، ويكون قوله:
{ وَالشُّهَدَاء } مبتدأ خبره ما بعده، لأنه ليس كل مؤمن صديق شهيداً في سبيل الله، ويرجحه أيضاً أنه لو كان { الشُّهَدَاء } داخلاً في جملة الخبر، لكان قوله: { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } داخلاً أيضاً في جملة الخبر عنهم، ويكون قد أخبر عنهم بثلاثة أشياء:
أحدها: أنهم هم الصديقون.
والثاني: أنهم هم الشهداء.
والثالث: أن لهم أجرهم ونورهم.
وذلك يتضمن عطف الخبر الثاني على الأول، ثم ذكر الخبر الثالث مجرداً عن العطف، وهذا كما تقول: زيد كريم وعالم له مال. والأحسن في هذا تناسب الأخبار، بأن تجردها كلها من العطف أو تعطفها جميعاً، فقول: زيد كريم عالم له مال، أو كريم وعالم وله مال، فتأمله ! ويرجحه أيضاً أن الكلام يصير جملاً مستقلة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء، وهم الصديقون والشهداء والصالحون، وهم المذكورون في الآية، وهم المتصدقون الذين أقرضوا الله قرضاً حسناً؛ فهؤلاء ثلاثة أصناف، ثم ذكر الرسل في قوله تعالى:
{ { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ } [الحديد: 25]، فيتناول ذلك الأصناف الأربعة المذكورة في سورة النساء فهؤلاء هم السعداء، ثم ذكر الأشقياء وهم نوعان: كفار ومنافقون، فقال:
{ وَالَّذِينَ كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ } الآية، وذكر المنافقين في قوله تعالى:
{ { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ } [الحديد: 13] الآية، فهؤلاء أصناف العالم كلهم. وترك سبحانه ذكر المخَلّط صاحب الشائبتين، على طريق القرآن في ذكر السعداء والأشقياء، دون المخلطين غالباً، لسّر اقتضته حكمته؛ فليحذر صاحب التخليط، فإنه لا ضمان له على الله، فلا هو من أهل وعده المطلق، ولا ييأس من روح الله، فإنه ليس من الكفار الذين قطع لهم بالعذاب، ولكنه بين الجنة والنار واقف بين الوعد والوعيد، كل منهما يدعوه إلى موجبه لأنه أتى بسببه، وهذا هو الذي لحظه القائلون بالمنزلة بين المنزلتين، ولكن غلطوا في تخليده في النار، ولو نزلوه بين المنزلتين، ووكلوه إلى المشيئة لأصابوا. انتهى كلام ابن القيم، وفيه موافقة لما اختاره ابن جرير في الآية. ولما ذكر تعالى السعداء ومآلهم، عطف بذكر الأشقياء، وبين حالهم بقوله:
{ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ } ثم حقر تعالى أمر الدنيا، وبين حاصل أمرها عند أهلها، بقوله: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا .. }.