التفاسير

< >
عرض

لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوۤاْ آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَـٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أُوْلَـٰئِكَ حِزْبُ ٱللَّهِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٢٢
-المجادلة

محاسن التأويل

{ لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي: شاقهما وخالف أمرهما. أي: لا تجد قوماً جامعين بين الإيمان بالله واليوم الآخر، وبين موادّة أعداء الله ورسوله. والمراد بنفي الوجدان نفي الموادّة، على معنى أنه لا ينبغي أن يتحقق ذلك، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال، مبالغة في النهي عنه، والزجر عن ملابسته، والتوصية بالتصلب في مجانبة أعداء الله ومباعدتهم، والاحتراس من مخالطتهم ومعاشرتهم، وزاد ذلك تأكيداً وتشديداً بقوله { وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ } أي: آباء الموادّين والضمير في { كَانُوا } لمن حاد الله ورسوله. والجمع باعتبار معنى مَنْ كما أن الإفراد فيما قبله، باعتبار لفظهما.
{ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } أي: فإن قضية الإيمان هجر المحادين { أُوْلَئِكَ } إشارة إلى الذين لا يوادّونهم { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ } أي: أثبته فيها { وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ } أي: بنور وعلم ولطف حيَّت به قلوبهم في الدنيا. وأشار إلى ما لهم في الآخرة، بقوله: { لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي: الناجحون والفائزون بسعادة الدارين.
تنبيهات:
الأول: من أشباه هذه الآية قوله تعالى:
{ { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ } [آل عمران: 28] الآية. وقال تعالى: { { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [التوبة: 24].
الثاني: قال ابن كثير: قال سعيد بن عبد العزيز وغيره: أنزلت هذه الآية { لَا تَجِدُ قَوْماً } إلى آخرها في أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح حين قتل أباه يوم بدر. وفي أبي بكر الصديق همّ يومئذ بقتل ابنه عبد الرحمن، وفي مصعب بن عمير، قتل أخاه عبيد بن عمير، وفي عمر قتل قريباً له من عشيرته يومئذ أيضاً، وفي حمزة وعليّ وعبيدة بن الحارث، قتلوا عبة وشيبة والوليد بن عتيبة يومئذ. انتهى.
وقد بينا مراراً، أن المراد بسبب النزول في مثل ذلك، صدق الآية على هؤلاء، وما أتوا به من التصلب في دين الله، في مقابلة المفسدين، ولو كانوا من أقرب الأقربين.
قال ابن كثير: ومن هذه القبيل حين استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في أسارى بدر، فأشار الصديق بأن يفادوا، فيكون ما يؤخذ منهم قوة للمسلمين، وهم بنو العم والعشيرة، ولعل الله تعالى أن يهديهم. وقال عمر: لا أرى ما رأى يا رسول الله ! هل تمكنني من فلان - قريب لعمر - فأقتله، وتمكن علياً من عقيل، وتمكن فلاناً من فلان، ليعلم الله أنه ليست في قلوبنا موادة للمشركين.
الثالث: قال ابن كثير: في قوله تعالى { رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } سر بديع وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله تعالى، عوضهم الله بالرضا عنهم، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم، والفوز العظيم، والفضل العميم.
الرابع: يفهم من قوله تعالى: { حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وقوله في آية أخرى:
{ { لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } [الممتحنة: 1]، أن المراد بهم المحاربون لله ولرسوله، الصادّون عن سبيله، المجاهرون بالعداوة والبغضاء. وهم الذين أخبر عنهم قبلُ بأنهم يتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول. فتشمل الآية المشركين وأهل الكتاب المحاربين والمحادّين لنا، أي: الذين على حدّ منا، ومجانبة لشؤوننا، تحقيقاً لمخالفتنا، وترصداً للإيقاع بنا. وأما أهل الذمة الذين بين أظهرنا، ممن رضي بأداء الجزية لنا وسالمنا، واستكان لأحكامنا وقضائنا، فأولئك لا تشملهم الآية؛ لأنهم ليسوا بمحادّين لنا بالمعنى الذي ذكرناه، ولذا كان لهم ما لنا، وعليهم ما علينا، وجاز التزوج منهم ومشاركتهم، والاتجار معهم، وعيادة مرضاهم. "فقد عاد النبي صلى الله عليه وسلم يهودياً، وعرض عليه الإسلام فأسلم" كما رواه البخاري.
وعلى الإمام حفظهم والمنع من أذاهم، واستنقاذ أسراهم، لأنه جرت عليهم أحكام الإسلام، وتأبد عهدهم، فلزمه ذلك، كما لزم المسلمين، كما في "الإقناع" و "شرحه".
وقال ابن القيم في "إغاثة اللهفان" في الرد على المتنطعين الذين لا تطيب نفوسهم بكثير من الرخص المشروعة: ومن ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم
"كان يجيب من دعاه، فيأكل طعامه" ، و "أضافه يهوديّ بخبز وشعير وإهالة سنخة" . وكان المسلمون يأكلون من أطعمة أهل الكتاب. وشرط عمر رضي الله عنه ضيافة من مر بهم مِنْ المسلمين وقال: أطعموهم مما تأكلون. وقد أحل الله عز وجل ذلك في كتابه. ولما قدم عمر رضي الله عنه الشام صنع له أهل الكتاب طعاماً فدعوه فقال: أين هو؟ قالوا في الكنيسة، فكره دخولها، وقال لعليّ رضي الله عنه: اذهب بالناس. فذهب عليٌ بالمسلمين، فدخلوا، وجعل عليّ رضي الله عنه ينظر إلى الصورة. وقال: ما على أمير المؤمنين، لو دخل وأكل ! انتهى.
والأصل في هذا قوله تعالى:
{ { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ } [الممتحنة: 8 - 9]، قال السيد ابن المرتضى اليمانيّ في "إيثار الحق": عن الإمام المهديّ محمد بن مطهر عليه السلام، أن الموالاة المحرمة بالإجماع، هي أن تحب الكافر لكفره، والعاصي لمعصيته، لا لسبب آخر، من جلب نفع أو دفع ضرر، أو خصلة خير فيه. وسيأتي في أول سورة الممتحنة زيادة على هذا إن شاء الله تعالى، وبالله التوفيق.