التفاسير

< >
عرض

وَكَذٰلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَٰدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ
١٣٧
-الأنعام

محاسن التأويل

{ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ } أي: مثل ذلك التزيين, وهو تزيين الشرك في القسمة المتقدمة, زين لهم أولياؤهم من الشياطين ما هو أشد منه قبحاً في باب القربان, وهو قتل أولادهم خشية الإملاق, ووأد البنات خشية العار, وإنما سميت الشياطين شركاء, لأنهم أطاعوهم فيما أمروهم به من قتل أولادهم, فأشركوهم مع الله في وجوب طاعتهم,: { لِيُرْدُوهُمْ } أي: يهلكوهم بالشرك وقتل الولد. من ( الإرداء. وهو, لغة, الإهلاك ),: { وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ } أي: ليخلطوا عليهم ما هم عليه, بدين إبراهيم في ذبح إسماعيل عليهما السلام. أو ما وجب عليهم أن يتدينوا به، لأنهم كانوا على دين إسماعيل. فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق { وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ } أي: فلا تحزن على هلاكهم بما يفعلونه، لأنه بمشيئة الله { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } أي: لأن له فيما شاءه حكماً بالغة: { { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ } [آل عِمْرَان 178]، وفيه من شدة الوعيد ما لا يخفى.
تنبيه
{ شُرَكَآؤُهُمْ } فاعل: { زَيَّنَ } أُخِّر عن الظرف والمفعول اعتناء بالمقدَّم، واهتماماً به، لأنه موضع التعجب، لأنهم يقدمون الأهمَّ، والذين هم بشأنه أَعْنَى. وقرأ ابن عامر وَحْدَهُ: { زُيِّن } على البناء للمفعول الذي هو القتل، ونصب الأولاد، وجر الشركاء بإضافة القتل إليه، مفصولاً بينهما بمفعوله. وقد زيف الزمخشريّ، عفا الله عنه، هذه القراءة، وعد ذلك من كبائر كشافه: حيث قال: وأما قراءة ابن عامر، فشيء لو كان في مكان الضرورات، وهو الشعر، لكان سمجاً مردوداً، كما سمج ورُدَّ:

* زَجَّ الْقَلُوصَ أبي مَزَادَهْ *

فكيف به في الكلام المنثور؟ فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته؟ قال: والذي حمله على ذلك أنه رأى في بعض المصاحف: { شُرَكَآئِهِمْ } مكتوباً بالياء، ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء -لأن الأولاد شركاؤهم في أموالهم - لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب. انتهى. قال الناصر في " الانتصاف ": لقد ركب الزمخشريّ متن عمياء، وتاه في تيهاء، وأنا أبرأ إلى الله، وأبرئ حملة كتابه، وحفظة كلامه، مما رماهم به، فإنه تخيل أن القراء أئمة الوجوه السبعة، اختار كل منهم حرفاً قرأ به اجتهاداً، لا نقلاً وسماعاً، فلذلك غلط ابن عامر في قراءته هذه، وأخذ يبين أن وجه غلطه رؤيته الياء ثابتة في ( شركائهم )، فاستدل بذلك على أنه مجرور، وتعين عنده نصب ( أولادهم ) بالقياس، إذ لا يضاف المصدر إلى أمرين معاً فقرأه منصوباً. قال: وكانت له مندوحة من نصبه إلى جره بالإضافة، وإبدال الشركاء منه، وكان ذلك أولى مما ارتكبه. فهذا كله كما ترى ظنٌّ من الزمخشري أن ابن عامر قرأ قراءته هذه رأياً منه، وكان الصواب خلافه، والفصيح سواه. ولم يعلم الزمخشريّ أن هذه القراءة بنصب الأولاد، والفصل بين المضاف والمضاف إليه بها. يعلم ضرورة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأها على جبريل، كما أنزلها عليه، ثم تلاها النبيّ صلى الله عليه وسلم على عدد التواتر من الأئمة، ولم يزل عدد التواتر يتناقلونها، ويقرؤون بها، خلفاً عن سلف، إلى أن انتهت إلى ابن عامر، فقرأها أيضاً كما سمعها. فهذا معتقد أهل الحق في جميع الوجوه السبعة أنها متواترة جملة وتفصيلاً عن أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم. فإذا علمت العقيدة الصحيحة، فلا مبالاة بعدها بقول الزمخشريّ، ولا بقول أمثاله ممن لحَّن ابن عامر، فإن المنكر عليه إنما أنكر ما ثبت أنه براء منه قطعاً وضرورة. ولولا عذر أن المنكر ليس من أهل الشأنين: أعنى علم القراءة وعلم الأصول، ولا يعدّ من ذوي الفنين المذكورين، لخيف عليه الخروج من ربقة الدين. وإنه على هذا العذر لفي عهدة خطرة، وزلة منكرة، تزيد على زلة من ظن أن تفاصيل الوجوه السبعة، فيها ما ليس متواتراً، فإن هذا القائل لم يثبتها بغير النقل. وغايته أنه ادعى أن نقلها لا يشترط فيه التواتر. وأما الزمخشري فظن أنها تثبت بالرأي، غير موقوفة على النقل، وهذا لم يقل به أحد من المسلمين. وما حمله على هذا الخيال إلا التغالي في اعتقاد اطراد الأقيسة النحوية، فظنها قطعية، حتى يردّ ما خالفها. ثم إذا تنزل معه اطراد القياس الذي ادعاه مطرداً، فقراءة ابن عامر هذه لا تخالفه. وذلك أن الفصل بين المضاف إليه، وإن كان عسراً، إلا أن المصدر إذا أضيف إلى معموله، فهو مقدر بالفعل، وبهذا التقدير عمل. وهو وإن لم تكن إضافته غير محضة، إلا أنه شبه بما إضافته غير محضة. حتى قال بعض النحاة: إن إضافته ليست محضة، لذلك. فالحاصل أن اتصاله بالمضاف إليه ليس كاتصال غيره، وقد جاء الفصل بين المضاف غير المصدر، وبين المضاف إليه بالظرف، فلا أقل من أن يتميز المصدر على غيره، لما بيناه من انفكاكه في التقدير، وعدم توغله في الاتصال، بأن يفضل بينه وبين المضاف إليه, بما ليس أجنبياً عنه, وكأنه بالتقدير: فكّه بالفعل, ثم قدم المفعول على الفاعل, أضافه إلى الفاعل, وبقي المفعول مكانه حين الفك. ويسهل ذلك أيضاً تغاير حال المصدر, إذ تارة يضاف إلى الفاعل, وتارة يضاف إلى المفعول. وقد التزم بعضهم اختصاص الجواز بالفصل بالمفعول بينه وبين الفاعل, لوقوعه في غير مرتبته, إذ ينوي به التأخير, فكأنه لم يفصل. كما جاز تقدم المضمر على الظاهر إذا حلّ في غير رتبته, لأن النية به التأخير, وأنشد أبو عبيدة:

فَدَاسَهُمْ دَوْسَ الحَصَادَ الدَّائِسِ

وأنشد أيضاً:

~يَفْرُكْنَ حَبَّ السُّنْبُلِ الكُنَافِجِ بِالْقَاعِ فَرْكَ الْقُطُنَ الْمَحَالِجِ

ففصل كما ترى بين المصدر وبين الفاعل بالمفعول. ومما يقويّ عدم توغله في الإضافة جواز العطف على موضع مخفوضه رفعاً ونصباً. فهذه كلها نكت مؤيدة بقواعد, منظرة بشواهد من أقيسة العربية, تجمع شمل القوانين النحوية, لهذه القراءة. وليس غرضنا تصحيح القراءة بقواعد العربية, بك تصحيح قواعد العربية بالقراءة. وهذا قدر كاف إن شاء الله في الجمع بينهما - والله الموفق - وما أجريناه في أدراج الكلام من تقريب إضافة المصدر من غير المحضة, إنما أردنا انضمامه إلى غيره من الوجوه التي يدل باجتماعها على أن الفصل غير منكر في إضافته, ولا مستبعد من القياس, ولم نفرده في الدلالة المذكورة. إذ المتفق على عدم تمحضها لا يسوغ فيها الفصل, فلا يمكن استقلال الوجه المذكور بالدلالة -الله الموفق -انتهى كلام الناصررحمه الله تعالى.
ثم بيّن تعالى نوعاً آخر من مفترياتهم بقوله:
{ وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ ... }.