التفاسير

< >
عرض

قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاۤ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاۤ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ
٥٠
-الأنعام

محاسن التأويل

قوله تعالى: { قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ } أي: قل لهؤلاء المشركين المقترحين عليك تارة تنزيل الآيات، وأخرى غير ذلك: لا أدعي أن خزائن رزق الله مفوضة إليّ، فأعطيكم منها ما تريدون من قلب الجبال ذهباً، وغير ذلك.
[والخزائن: جمع خزانة، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء، وخَزْنُ الشيء إحرازه، بحيث لا تناله الأيدي].
{ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } أي: من أفعاله تعالى حتى تسألوني عن وقت الساعة، أو وقت نزول العذاب أو نحوهما.
{ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } أي: حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقة للعادات ما لا يطيقه البشر، من الرقيّ في السماء ونحوه، أو تعدّوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحاً في أمري، كما ينبئ عنه قولهم: { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ }. والمعنى: إني لا أدعي شيئاً من هذه الأشياء الثلاثة، حتى تقترحوا عليّ ما هو من آثارها وأحكامها، وتجعلوا عدم إجابتي إلى ذلك، دليلاً على عدم صحة ما أدعيه من الرسالة التي لا تعلق لها بشيء مما ذكر قطعاً. بل إنما هي عبارة عن تلقي الوحي من جهة الله عز وجل، والعلم بمقتضاه فقط، كما ينبئ عنه قوله تعالى:
{ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } أي: ما أتبع فيما أقول لكم إلا ما يوحى إليّ من جهته تعالى، شرفني بذلك وأنعم به عليّ، إذ يكشف لي عن الملائكة فيخبرونني.
ثم كرر الأمر تثنية للتبكيت بقوله:
{ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } مثل للضال والمهتدي على الإطلاق. والاستفهام إنكاري، والمراد إنكار استواء من لا يعلم ما ذكر من الحقائق، ومن يعلمها. وفيه الإشعار بكمال ظهورها، ومن التنفير عن الضلال، والترغيب في الاهتداء - ما لا يخفى. أفاده أبو السعود.
وقوله تعالى: { أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ } تقريع وتوبيخ داخل تحت الأمر. أي: أفلا تتفكرون فتهتدوا، ولا تكونوا ضالين أشباه العميان.
تنبيهات
الأول - جعل بعض المفسرين قوله تعالى: { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ } تبرؤا من دعوى الألوهية، لأن قسمة الأرزاق بين العباد، ومعرفة الغيب، مخصوصان به تعالى: قال: ولذا كرر في الملكية لفظ: { وَلا أَقُولُ }. والمعنى: لا أدعي الألوهية ولا الملكية.
وأورد على هذا أن المراد: لا أملك أن أفعل ما أريد مما تقترحونه، وليس المراد التبرؤ عن دعوى الإلهية، وإلا لقيل: لا أقول لكم إني إله. كما قيل: ولا أقول لكم إني ملك. وأيضاً في الكناية عن الألوهية بـ: { عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ } ما لا يخفى من البشاعة، بل هو جواب عن اقتراحهم عليه صلى الله عليه وسلم أن يوسع عليهم خيرات الدنيا -كذا في " العناية " -.
قال أبو السعود: وجعل هذا تبرؤاً عن دعوى الإلهية، مما لا وجه له قطعاً.
الثاني - قال الجبائي: الآية دالة على أن الملك أفضل من الأنبياء، لأن المعنى: لا أدعي منزلة فوق منزلتي. ولولا أن الملك أفضل، وإلا لم يصح ذلك. قال القاضي: إن الغرض بما نفى طريقة التواضع، فالأقرب أن يدل ذلك على أن الملك أفضل، وإن كان المراد نفي قدرته على أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة. لم يدل على كونهم أفضل.
وقرر الزمخشري الأول تأييداً لمذهبه فقال في تفسير الآية: أي: لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر من ملك خزائن الله، وهي قِسَمه بين الخلق وأرزاقه، وعلم الغيب، وإني من الملائكة الذين هم أشرف جنس خلق الله تعالى، وأفضله، وأقربه منزلة منه. أي: لم أدع إلهية ولا ملكية، لأنه ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة، حتى تستبعدوا دعواي وتستنكروها، وإنما أدعي ما كان مثله لكثير من البشر، وهو النبوة. انتهى.
وتعقبه الناصر في " الانتصاف " بقوله: هو يبنى على القاعدة المتقدمة له، في تفضيل الملائكة على الأنبياء. ولعمري إن ظاهر هذه الآية يؤيده، فلذلك انتهز الفرصة في الاستدلال بها. ولمخالفه أن يقول: إنما أوردت الآية ردّاً على الكفار في قولهم: { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ }.. الآية - فردّ قولهم: { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ } بأنه بشر، وذلك شأن البشر، ولم يدّع أنه ملك حتى يتعجب من أكله للطعام، وحينئذ لا يلزم منها تفضيل الملائكة على الأنبياء، لأنه لا خلاف أن الأنبياء، يأكلون الطعام، وأن الملائكة ليسوا كذلك، فالتفرقة بهذا الوجه متفق عليها، ولا يوجب عليه ذلك اتفاقاً على أن الملائكة أفضل من الأنبياء.
وكذلك رد قولهم: { أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ } بأنه لا يملك خزائن الله تعالى حتى يأتيهم بكنز منها على وفق مقترحهم، ولا قال لهم ذلك حتى يقام عليه الحجة به.
ثم قال الناصررحمه الله : ولم يحسن الزمخشريّ في قوله: [ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة] فإنه جعل الإلهية من جملة المنازل كالملكية، ومثل هذا الإطلاق لا يسوغ. والمنزلة عبارة عن المحل الذي يُنزل اللهُ فيه العبد من علوّ وغيره، فإطلاقها على الإلهية تحريف. والله الموفق للصواب.
الثالث - قال الرازي: ظاهر قوله تعالى: { إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعمل إلا بالوحي، وهو يدل على حكمين:
الأول - أن هذا النص يدلّ على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يحكم من تلقاء نفسه في شيء من الأحكام، وأنه ما كان يجتهد، بل جميع أحكامه صادرة عن الوحي، ويتأكد هذا بقوله تعالى: { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى }.
الثاني - أن نفاة القياس قالوا: ثبت بهذا النص أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يعمل إلا بالوحي النازل عليه، فوجب أن لا يجوز لأحد من أمته أن يعملوا إلا بالوحي النازل عليه، بقوله تعالى: { فَاتَّبِعُوهُ }، وذلك ينفي جواز العمل بالقياس. ثم أكد هذا الكلام بقوله: { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ } وذلك لأن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى. والعمل بمقتضى نزول الوحي يجري مجرى علم البصير. ثم قال: { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } والمراد منه التنبيه على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين البابين، وأن لا يكون غافلاً عن معرفته. انتهى.
وفي " فتح الرحمن ": تمسك بذلك من لم يثبت اجتهاد الاجتهاد الأنبياء، عملاً بما يفيده القصر في هذه الآية.
والمسألة مدونة في الأصول. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أوتيت القرآن ومثله معه.
ثم لما أخبر تعالى: أن أولئك المشركين كالصم البكم العمي، بل الموتى، إذ لم يتعظوا بتصريف الآيات الباهرة، أمر بتوجيه الإنذار إلى من يتأثر بما يوحي إليه، اطراحاً لأولئك الفجار، فقال تعالى:
{ وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن ... }.