التفاسير

< >
عرض

لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٣
-الممتحنة

محاسن التأويل

{ لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ } أي: قراباتكم { وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } أي: بإثابة المؤمنين، ومعاقبة العاصين.
وقال القاشانيّ: أي: لا نفع لمن اخترتم موالاة العدوّ الحقيقي لأجله، لأن القيامة مفرقة. وهذا معنى قوله: { يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ } أي: يفصل الله بينكم وبين أرحامكم وأولادكم كما قال:
{ { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ } [عبس: 34 - 36]، انتهى. وهو تأويل جيد.
لطيفة:
قال السمين: يجوز في { يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وجهان:
أحدهما: أن يتعلق بما قبله، أي: لن تنفعكم يوم القيامة، فيوقف عليه، ويبتدأ بـ { يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ }
والثاني: أي: يتعلق بما بعده، أي: يفصل بينكم يوم القيامة، فيوقف على { أَوْلاَدَكُمْ }، ويبتدأ بـ { يَوْمَ الْقِيَامَةِ }
{ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي: فيجازيكم عليه.
تنبيهات:
الأول: قال ابن جرير: ذكر أن هذه الآيات، من أول هذه السورة، نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة، وكان كتب إلى قريش بمكة يطلعهم على أمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخفاه عنهم ثم ساق الروايات.
وأما رواية البخاري فعن عليّ رضي الله عنه قال:
"بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فذهبنا تَعَادَى بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا: أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب ! فقلنا: لتخرجنَّ الكتاب، أو لنلقيَنَّ الثياب. فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه:من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين، يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا حاطب قال: لا تعجل عليّ يا رسول الله ! إني كنت امرءاً من قريش، ولوسلم: من أنفسهم، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يداً يحمون قرابتي، وما فعلت ذلك كفراً، ولا ارتداداً عن ديني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنه قد صدقكم فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه ! فقال: إنه شهد بدراً، وما يدريك، لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم !" .
قال عمرو بن دينار - راوي الحديث - ونزلت فيه: { { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي } [الممتحنة: 1] الآيات.
قال ابن كثير: كان حاطب هذا رجلاًً من المهاجرين، ومن أهل بدر. وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم، بل كان حليفاً لعثمان. فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة، لمَّا نقض أهلها العهد، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم وقال:
"اللهم عمِّ عليهم خبرنا" فعمد حاطب هذا، فكتب كتاباً إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوهم، ليتخذ بذلك عندهم يداً. كما ذكر في الحديث.
الثاني: قال ابن كثير: يعني تعالى بقوله:
{ { لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء } المشركين والكفار، الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين، الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم، ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء، كما قال تعالى: { { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [المائدة: 51]، وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، وقال تعالى: { { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [المائدة: 57]. وقال تعالى: { { لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ } [آل عمران: 28]. ولهذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر حاطب، لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش، لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد. انتهى.
أي أنه قبل عذره فيما قام في ظنه من كون ذلك ليس بكبيرة، وإن أخطأ. والمجتهد المخطئ معذور، وقد تبين خطؤه بصريح النهي عن معاودة مثله الذي لأجله نزلت السورة، ولذلك قال الإمام إلكيَا الهَراسي: يؤخذ من الآية أن الخوف على المال والولد لا يبيح الفتنة في دين الله، وهو ظاهر، وليس هذا من التقية، لأنها في موضوع آخر. وقد بسط الكلام على الولاء والبراء السيد المرتضى في "إيثار الحق" في المسالة الثامنة. قال بعد أن أورد الآيات والأحاديث: هذا كله في الحب الذي هو في القلب، والمخالصة لأجل الدين، وذلك للمؤمنين المتقين بالإجماع، وللمسلمين الموحدين، إذا كان لأجل إسلامهم، وتوحيدهم عند أهل السنة. وأما المخالفة والمنافعة، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك، فيستحب بذله لجميع الخلق، إلا ما كان يقتضي مفسدة كالذلة، فلا يبذل للعدو في حال الحرب، كما أشارت إليه الآية:
{ { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } [الممتحنة: 8] - كما يأتي - وأما التقية، فتجوز للخائف من الظالمين القادرين. وأما الفرق بين ما يجوز من المنافعة والمداهنة وما لا يجوز من الرياء، فما كان من بذل المال والمنافع فهو جائز، وهو المنافعة، وربما عبروا عنه بالمداهنة والمداراة والمخالقة. وما كان من أمر الدين فهو الرياء الحرام.
ومن كلام الإمام الداعي إلى الله تعالى يحيى بن المحسن عليه السلام في "الرسالة المخرسة، لأهل المدرسة": لا يجوز أن تكون الموالاة هي المتابعة فيما يمكن التأويل فيه؛ لأن كثيراً من أهل البيت عليهم السلام قد عرف بمتابعة الظلمة لوجه يوجب ذلك، فتولّى الناصر الكثير منهم، وصلى بهم الجمعة جعفرُ الصادق، وصلى الحسن السبط على جنائزهم.
وذكر الإمام المهديّ محمد بن المطهّر عليهما السلام أن الموالاة المحرمة بالإجماع، هي موالاة الكافر لكفره، والعاصي لمعصيته، ونحو ذلك.
قال السيد: وهو كلام صحيح، والحجة على صحة الخلاف فيما عدا ذلك أشياء كثيرة، منها قوله تعالى في الوالدين المشركين
{ { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً } [لقمان: 15]. ومنها قوله تعالى: { { لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } [الممتحنة: 8] الآيتين، وفي الحديث أنها نزلت في قتيلة أم أسماء، بعد آيات التحريم، رواه أحمد والبزار والواحدي، وتأخرهما واضح في سياق الآيات، وقرينة الحال مع هذا الحديث. ولو لم يصح تأخر ذلك، فالخاص مقدم على العام عند جهل التاريخ عند الجمهور. ورجحه ابن رشد في "نهايته" بالنصوصية على ما هو خاص فيه. ويدل عليه ما ثبت في القرآن والسنة الصحيحة المتفق عليهما من حديث عليّ عليه السلام في قصة حاطب، على ما ذكره الله تعالى في أول سورة الممتحنة - هذه - وذكره أهل الحديث وأهل التفسير جميعاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عذره بالخوف على أهله في مكة، والتقية فيما لا يضر في ظنه.
فإن قيل: القرآن دال على أنه قد أذنب لقوله
{ { وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ } [الممتحنة: 1] فكيف يقبل ما جاء من قبول عذره؟ قلت: إنما قبل عذره في بقائه على الإيمان، وعدم موالاة المشركين لشركهم، ولذلك خاطبه الله بالإيمان فقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ } والعموم نص في سببه، فاتفق القرآن والحديث. وأما ذنبه فإنه لا يحل مثل ما فعله لأحد من الجيش إلا بإذن أميرهم، لقوله تعالى: { { وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ } [النساء: 83] ولأن تحريم مثل ذلك بغير إذن الأمير إجماع، ومع إذنه يجوز، فقد أذن في أكثر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيلة في حفظ المال، فلو كان مثل ذلك موالاة لم يأذن فيه صلى الله عليه وسلم. فدل على أن ذنب حاطب هو الكتم، لما فيه من الخيانة، لا نفس الفعل، لو تجرد من الكتم والخيانة - والله أعلم - انتهى.
ويضاف إلى الكتم والخيانة ما أفادته الآية من التودّد بذلك إليهم، والمناصحة لهم، مما يشفّ عن كون الآتي بذلك متزلزلاً في عقده، مضطرباً في حقه، فيصبح عمله حجة على دينه، ويكون ذلك سبباً لافتتان المشركين المفسدين بصحيح الدين القويم. وهذا هو السر في الحقيقة، كما بينه آية:
{ { رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا } [الممتحنة: 5]. وسيأتي بيانه.
ثم علّم الله تعالى عباده المؤمنين التأسي بإبراهيم عليه السلام في البراءة من المشركين ومصارمتهم ومجانبتهم، وبقوله سبحانه: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ... } .