التفاسير

< >
عرض

وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
١١
-الجمعة

محاسن التأويل

{ وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً } أي: عِيرَ تجارة { أَوْ لَهْواً } أي: ما تلهو به النفس عن الحق والجد النافع { انفَضُّوا إِلَيْهَا } أي: أسرعوا إلى التجارة خشية أن يُسبقوا إليها، وإنما أوثر ضميرها لأنها الأهم المقصود { وَتَرَكُوكَ قَائِماً } أي: على المنبر { قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ } أي: من الثواب المرجوّ بسماع الخطبة والعظة بها { خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ } أي: لأن الثواب مخلد نفعه، بخلاف ما يتوهمونه منها.
قال الشهاب: وتقديم اللهو؛ لأنه أقوى مذمة، فناسب تقديمه في مقام الذم.
{ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } أي: فاعملوا للأعراض الباقية عنده، فإنها خير من الأمور الفانية عندكم، وفوضوا أمر الرزق إليه بالتوكل، والثقة بفضله؛ فإنه خير الرازقين.
تنبيهات:
الأول: قال الرازي: وجه تعلق آية الجمعة بما قبلها، هو أن الذين هادوا يفرون من الموت لمتاع الدنيا وطيباتها، والذين أمنوا يبيعون ويشرون لمتاع الدنيا وطيباتها كذلك. فنبههم الله تعالى بقوله: { فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } أي: إلى ما ينفعكم في الآخرة، وهو حضور الجمعة، لأن الدنيا ومتاعها فانية، والآخرة وما فيها باقية. قال تعالى:
{ { وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [الأعلى: 17]. ووجه آخر في التعلق، قال بعضهم: قد أبطل الله قول اليهود في ثلاث: افتخروا بأنهم أولياء الله وأحباؤه فكذبهم بقوله: { { فَتَمَنَّوُاْ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [البقرة: 94]، وبأنهم أهل الكتاب، والعرب لا كتاب لهم، فشبههم بالحمار يحمل أسفاراً. وبالسبت، وليس للمسلمين مثله، فشرع الله لهم الجمعة، انتهى.
وقال المهايميّ في وجه المناسبة: بيّن الله تعالى أن مقتضى الإيمان الاجتماع على الخير، لاسيما الشكر على الْإِنْسَاْنية، لئلا تنقلب حمارية أو بهيمية، في مقابلة اجتماع أهل الكتاب على الشر، الذي جرهم إلى الحمارية والبهيمية.
الثاني: قال السيوطي في"الإكليل": في قوله تعالى: { إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } مشروعية صلاة الجمعة، والأذان لها، والسعي إليها، وتحريم البيع بعد الأذان. واستدل بالآية من قال: إنما يجب إتيان الجمعة على من كان يسمع فيه النداء. ومن قال: لا يحتاج إلى إذن السلطان، لأنهه تعالى أوجب السعي، ولم يشترط إذن أحد. ومن قال: لا تجب على النساء لعدم دخولهن في خطاب الذكور. انتهى.
الثالث: في"الإكليل": في قوله تعالى: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ } إباحة الانتشار عقب الصلاة، فيستفاد منه تقديم الخطبة عليها. انتهى. وظاهره أنه لا يشرع بعد أدائها صلاة ما، غير أنه
"كان صلى الله عليه وسلم يتنفل بعدها في بيته ركعتين" ، وفي رواية "أربعاً". وأما اعتقاد فريضة الظهر بعدها إذا تعددت، فتعصب مذهبي لا برهان له. وقد قلت في مقدمة مجموعة الخطب، في الفائدة الرابعة ما مثاله:
الحاجة في هذه البلاد في هذه الأوقات تدعو إلى أكثر من جمعة، إذ ليس للناس جامع واحد يسعهم، ولا يمكنهم جمعة واحدة أصلاً، إلا أن خروجها عن حد أن لا فرق بينها وبين بقية الصلوات في كثير من المساجد الصغيرة التي لم تشيد لمثلها، قد هوَّل فيه السبكي في"فتاويه"؛ لأنه مما تأباه مشروعيتها، وما مضى عليه عمل القرون الثلاثة، بل تسميتها جمعة، فإن صيغة فُعُلَة في اللغة للمبالغة. وبالجملة فالجوامع الكبار التي تؤمها الأفواج يوم الجمعة ويحتاج لإقامتها فيها حاجة بينة لمجاوريها، هي التي لا خلاف في جوازها مهما تعددت، والتي لا تعاد الظهر بعدها، وقد بسطناه في كتابنا"إصلاح المساجد من البدع والعوائد".
الرابع: يدل قوله تعالى: { وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ } على عدم مشروعيته تعطيل يوم الجمعة، ففيه تعريض بمجانبة التشبه بأهل الكتاب في تعطيل يومي السبت والأحد، وردّ على ما ابتدع فيه من الوظائف ما يدعو إلى الانقطاع عن كل عمل. والأصل أن كل ما لم ينص عليه الكتاب الحكيم، ولا الهدي النبويّ، من خبر قويم، فهو تشريع ما لم يأذن به الله. وإذا رفع الله بفضله عنا الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا، فما بالنا نستجرّها إلينا بالأسباب الضعيفة؟ فاللهم غفراً.
الخامس: قال في"الإكليل": في قوله تعالى: { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً } مشروعية الخطبة، والقيام فيها، واشتراط الجماعة في الصلاة، وسماعهم الخطبة، وتحريم الانفضاض، انتهى.
وفي الصحيحين عن جابر قال: قدمت عيرٌ مرةً المدينة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فخرج الناس، وبقي اثنا عشر رجلاً؛ فنزلت { وَإِذَا رَأَوْا } الآية. وروى ابن جرير عن جابر قال: كان الجواري إذا نكِحوا يمرون بالكَبَر والمزامير، ويتركون النبيّ صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر، وينفضون إليها، فأنزل الله: { وَإِذَا رَأَوْا } الآية.
وعن مجاهد: اللهو: الطبل.