التفاسير

< >
عرض

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ ٱسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ ٱلْجِنِّ فَقَالُوۤاْ إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً
١
يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً
٢
-الجن

محاسن التأويل

{ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ } أي: لهذا القرآن الحكيم. والمشهور أن النفر ما بين الثلاثة إلى العشرة، وقد يستعمل إلى الأربعين كالرهط، كما في"المُجمَل".
قال القاشاني: قد مرّ أن في الوجود نفوساً أرضية قوية، لا في غلظ النفوس السبعية والبهيمية وكثافتها، وقلة إدراكها، ولا على هيئات النفوس الْإِنْسَاْنية واستعداداتها، ليلزم تعلقها بالأجرام الكثيفة الغالب عليها الأرضية، ولا في صفاء النفوس المجردة ولطافتها لتتصل بالعالم العلويّ، وتتجرد متعلقة بأجرام عنصرية لطيفة، غلبت عليها الهوائية أو النارية أو الدخانية، على اختلاف أحوالها، سماها بعض الحكماء الصور المعلقة، ولها علوم وإدراكات من جنس علومنا وإدراكاتنا. ولما كانت قريبة بالطبع إلى الملكوت السماوية، أمكنها أن تتلقى من عالمها بعض الغيب، فلا تستبعد أن ترتقي إلى أفق السماء فتسترق السمع من كلام الملائكة، أي: النفوس المجردة، ولما كانت أرضية ضعيفة بالنسبة إلى القوى السماوية، تأثرت بتأثير تلك القوى، فرجمت بتأثيرها عن بلوغ شأوها، وإدراك مداها من العلوم، ولا ينكر أن تشتعل أجرامها الدخانية بأشعة الكواكب فتحترق وتهلك، أو تنزجر من الارتقاء إلى الأفق السماوي فتتسفل، فإنها أمور ليست بخارجة عن الإمكان، وقد أخبر عنها أهل الكشف والعيان الصادقون من الأنبياء والأولياء، خصوصاً أكملهم نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم. انتهى.
وفي الآية - كما قال القاضي - دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم ما رآهم، ولم يقرأ عليهم، وإنما اتفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها، فأخبر الله به رسوله.
{ فَقَالُواْ } أي: لما رجعوا إلى قومهم { إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً } قال المهايميّ: أي: كتاباً جامعاً للحقائق الإلهية والكونية، والأحكام والمواعظ، وجميع ما يحتاج إليه في أمر الدارين.
{ عَجَباً } أي: غريباً، لا تناسبه عبارة الخلق، ولا يدخل تحت قدرتهم. { يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ } أي: إلى الحق وسبيل الصواب { فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَداً } أي: من خلقه، في العبادة معه.
تنبيهات:
الأول: هذا المقام شبيه بقوله تعالى:
{ { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ } [الأحقاف: 29] الآية. وقد روى البخاري عن ابن عباس قال: "انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب ! فرجعت الشياطين فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حِيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب ! قال: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا ما حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الأمر الذي حدث؟ فانطلقوا فضربوا مشارق الأرض ومغاربها، ينظرون ما هذا الأمر الذي حال بينهم وبين خبر السماء ! قال: فانطلق الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخلة، وهو عامد إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن تسمَّعوا له، فقالوا: هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا ! إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً. وأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم: { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ }" وإنما أوحي إليه قول الجن. ورواه مسلم أيضاً وزاد في أوله: ما قرأ رسول الله على الجن ولا رآهم، انطلق..... إلى آخره.
الثاني: قال الماوردي: ظاهر الآية أنهم آمنوا عند سماع القرآن. قال: والإيمان يقع بأحد أمرين: إما بأن يعلم حقيقة الإعجاز وشروط المعجزة، فيقع له العلم بصدق الرسول، أو يكون عنده علم من الكتب الأولى، فيها دلائل على أنه النبيّ المبشر به، وكلا الأمرين في الجن محتمل. انتهى.
الثالث: قال الرازي: في الآية فوائد:
إحداها: أن يعرفوا بذلك أنه عليه السلام كما بعث إلى الإنس، فقد بعث إلى الجن.
وثانيها: أن يعلم قريش أن الجن، مع تمردهم، لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه، فآمنوا بالرسول.
وثالثها: أن يعلم القوم أن الجن مكلفون كالإنس.
ورابعها: أن يعلم أن الجن يستمعون كلامنا، ويفهمون لغاتنا.
وخامسها: أن يظهر أن المؤمن منهم يدعو غيره من قبيلته إلى الإيمان.
وفي كل هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس. انتهى.
ولما سمعوا القرآن، ووفَّقوا للتوحيد والإيمان، تنبهوا على الخطأ فيما اعتقده كفرة الجن من تشبيه الله بخلقه، واتخاذه صاحبة وولداً، فاستعظموه، ونزَّهوه عنه، فقالوا:{ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا.... }.