التفاسير

< >
عرض

لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
١٦
إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
١٧
فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ
١٨
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ
١٩
-القيامة

محاسن التأويل

{ لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } أي: لا تحرك بالقرآن لسانك عند إلقاء الوحي، لتأخذه على عجلة، مخافة أن يتفلت منك.
{ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } أي: في صدرك، وإثبات حفظه في قلبك، بحيث لا يذهب عليك منه شيء.
{ وَقُرْآنَهُ } أي: أن تقرأه بعدُ فلا تنسى { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } أي: أتممنا قراءته عليك بلسان جبريل عليه السلام, { فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } أي: كن مقفياً له ولا تراسله.
{ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أي: بيان ما فيه، إذا أشكل عليك شيء من معانيه، أو أن نُبَيِّنَهُ على لسانك.
تنبيهات:
الأول: ما ذكرناه في تأويل الآية هو المأثور في "الصحيحين" وغيرهما، ولفظ البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه إذا أنزل عليه" ، فقيل له: { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ } يخشى أن يتفلت منه { انا علينا جمعه } أن نجمعه في صدرك { وَقُرْآنَهُ } أي: تقرأه { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } يقول أنزل عليه { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ } أن نبيّنه على لسانك. زاد في رواية: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل، قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه.
قال ابن زيد: أي: لا تكلم بالذي أوحينا إليك حتى يقضى إليك وحيُه، فإذا قضينا إليك وحيه، فتكلم به. يعني: أن هذه الآية نظير قوله تعالى:
{ { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [طه: 114].
قال ابن كثير: وهكذا قال الشعبي والحسن البصري وقتادة ومجاهد والضحاك وغير واحد، أن هذه الآية نزلت في ذلك، وأنها تعليم من الله عز وجل لرسوله كيفية تلقيه الوحي.
الثاني: ذكروا في مناسبة وقوع الآية معترضة في أحوال القيامة - على تأويلهم المتقدم - وجوهاً:
منها: تأكيد التوبيخ على ما جبل عليه الْإِنْسَاْن - والمرء مفتون بحب العاجل - حتى جعل مخلوقاً من عَجَل، ومن محبة العاجل، وإيثاره على الآجل، تقديم الدنيا الحاضرة على الآخرة، الذي هو منشأ الكفر والعناد، المؤدي إلى إنكار الحشر والمعاد؛ فالنهي عن العجلة في هذا يقتضي النهي فيما عداه، على آكد وجه. وهذه مناسبة تامة بين ما اعترض فيه وبينه، قاله الشهاب.
ومنها: أن عادة القرآن، إذا ذكر الكتاب المشتمل على عمل العبد، حيث يعرض يوم القيامة، أردفه بذكر الكتاب المشتمل على الأحكام الدينية في الدنيا التي تنشأ عنها المحاسبة عملاً وتركاً، كما قال في الكهف:
{ { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } [الكهف: 49]، إلى أن قال: { { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا للنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ } [الإسراء: 89] الآية. وقال في طه: { { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً } [طه: 102]، إلى أن قال: { { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } [طه: 114].
ومنها: أن أول السورة لما نزل إلى قوله: { وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } صادف أنه صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة بادر إلى تحفظ الذي نزل، وحرَّك به لسانه من عجلته خشية من تفلته، فنزلت: { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ } إلى قوله: { ثم انا علينا بيانه } ثم عاد الكلام إلى تكملة ما ابتدأ به.
قال الفخر الرازي: ونحوه ما لو ألقى المدرِّس على الطالب مثلاً مسألة، فتشاغل الطالب بشيء عرض له فقال له: ألق إليّ بالك، وتفهم ما أقول، ثم كمَّل المسالة، فمن لا يعرف السبب يقول: ليس هذا الكلام مناسب للمسالة، بخلاف من عرف ذلك. قاله الحافظ ابن حجر في "فتح الباري".
الثالث: استدلوا على التأويل السابق بقوله تعالى: { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، كما هو مذهب الجمهور لما تقتضيه { ثُمَّ } من التراخي. وأول من استدل لذلك بهذه الآية القاضي أبو بكر بن الطيب، وتبعوه. وهذا لا يتم إلا على تأويل البيان بتبيين المعنى، وإلا فإذا حمل على أن المراد استمرار حفظه له، وظهوره على لسان، فلا !
قال الآمدي: يجوز أن يراد البيان التفصيلي، ولا يلزم منه جواز تأخير البيان الإجمالي، فلا يتم الاستدلال. وتعقب باحتمال إرادة المعنيين: الإظهار والتفصيل وغير ذلك، لأن قوله: { بَيَانَهُ } جنس مضاف، فيعم جميع أصنافه من إظهاره وتبيين أحكامه، وما يتعلق بها من تخصيص وتقييد ونسخ وغير ذلك. قاله الحافظ في "الفتح".
وجوز القفال أن تكون { ثُمَّ } للترتيب في الإخبار. أي: إنا نخبرك بأن علينا بيانه، فلا تدل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب. وضعفه الرازي بأنه ترك للظاهر من غير دليل.
الرابع: ما قدمناه من معنى قوله تعالى: { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ } إلخ، وما استفيد منه، وما قيل في مناسبته لما قبله، كله إذا جرى على المأثور فيها. وحاول القفال معنى فقال كما نقله عنه الرازي: إن قوله تعالى: { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ } ليس خطاباً مع الرسول صلى الله عليه وسلم بل هو خطاب مع الْإِنْسَاْن المذكور في قوله:
{ { يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [القيامة: 13]، فكان ذلك حال ما ينبأ بقبائح أفعاله، وذلك بأن يعرض عليه كتابه فيقال له: { { اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً } [الإسراء: 14]. فإذا أخذ في القراءة تلجلج لسانه من شدة الخوف، وسرعة القراءة، فيقال له: { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } فإنه يجب علينا بحكم الوعد، أو بحكم الحكمة، أن نجمع أعمالك عليك، وأن نقرأها عليك، فإذا قرأناه عليك فاتبع قرآنه، بالإقرار بأنك فعلت تلك الأفعال، ثم إن علينا بيان أمره، وشرح مراتب عقوبته.
وحاصل الأمر من تفسير هذه الآية: أن المراد منه، أنه تعالى يقرأ على الكافر جميع أعماله، على سبيل التفصيل. وفيه أشد الوعيد في الدنيا، وأشد التهويل في الآخرة.
ثم قال القفال: فهذا وجه حسن، ليس في العقل ما يدفعه، وإن كانت الآثار غير واردة به. انتهى.
ونقل الشهاب أن بعضهم ارتضى هذا الوجه، وقدمه على الوجه السابق.
وزعم الحافظ ابن حجر أن الحامل على هذا الوجه الأخير هو عسر بيان المناسبة بين هذه الآية وما قبلها من أحوال القيامة أي: ولما بيّن الأئمة المناسبة التي أثرناها عنهم، لم يبق وجه للذهاب إلى هذا الوجه الأخير، مع أن هذا الوجه - هو فيما يظهر - فيه غاية القوة والارتباط به قبله وما بعده، مما يؤثر على المأثور، الذي قد يكون مدركه الاجتهاد، والوقوف مع ظاهر ألفاظ الآية. ومما يؤيد ما أورد عليه أن ابن عباس لم ير النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحال؛ لأن الظاهر أن ذلك كان في مبدأ البعث النبوي، ولم يكن ابن عباس وُلد حينئذ. ولا مانع - كما قال ابن حجر - أن يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك بعد، فيراه ابن عباس، أو يخبر به، فيكون من مراسيل الصحابة، والله أعلم.