التفاسير

< >
عرض

وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ
٢٢
وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ
٢٣
وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ
٢٤
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ
٢٥
-التكوير

محاسن التأويل

{ وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ } أي: ليس ممن يتكلم عن جنَّة ويهذي هذيان المجانين. { { بَلْ جَاء بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ } [الصافات: 37]، وهذا نفي لما كان يبهتهُ به أعداؤه، صلى الله عليه وسلم؛ حسداً ولؤماً.
قال الشهاب: وفي قوله { صَاحِبُكُم } تكذيب لهم بألطف وجه؛ إذ هو إيماء إلى أنه نشأ بين أظهركم من ابتداء أمره إلى الآن، فأنتم أعرف به وبأنه أتم الخلق عقلاً وأرجحُهم نبلاً وأكملهم وأصفاهم ذهناً، فلا يَسند له الجنون إلا من هو مركب من الحمق والجنون. ولله در البحتريّ في قوله:

إذا مَحَاسِني الَّلاتي أَدِلُّ بها كانت ذُنوبي فقل لي كَيْفَ أَعْتَذرُ

{ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ } أي: ولقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل بالأفق الأعلى، المظهر لما يرى فيه.
قال ابن كثير: والظاهر - والله أعلم - أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء لأنه لم يذكر فيها إلا هذه الرؤية وهي الأولى، وأما الثانية وهي المذكورة في قوله تعالى:
{ { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى } [النجم 13 - 15]، فتلك إنما ذكرت في سورة النجم، وقد نزلت بعد سورة الإسراء.
والقصد من بيان رؤيته لجبريل عليهما السلام متمثلاً له، هو التحقيق الموحي به، وأن أمره مبني على مشاهدة وعيان، لا على ظن وحسبان، وما سبيله كذلك فلا مدخل للريب فيه.
{ وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ } أي: ببخيل.
قال مجاهد: ما يضن عليكم بما يعلم، أي: لا يبخل بالتعليم والتبليغ. وقال الفراء: يأتيه غيبُ السماء، وهو شيء نفيس، فلا يبخل به عليكم. وقال أبو علي الفارسيّ: المعنى أنه يخبر بالغيب فيبينه ولا يكتمه، كما يكتم الكاهن ذلك ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلواناً. وقرئ: { بظنين } بالظاء، أي: ما هو بمهتم على ما يخبر به من الغيب.
قال القاشاني: لامتناع استيلاء شيطان الوهم وجنّ التخيل عليه، فيخلط كلامه ويمتزج المعنى القدسي بالوهميّ والخياليّ؛ لأن عقله صُفّي عن شوب الوهم. والمعنى أنه صادق فيما يخبر به من الوحي واليوم الآخر والجزاء، ليس من شأنه أن يُتهم فيه، كما قال هرقل لأبي سفيان: وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فزعمت أن لا؛ فعرفتُ أنهُ لم يكن ليدَع الكذبَ على الناس ثم يذهب فيكذب على الله.
تنبيه:
قال ابن جرير: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب، ما عليه خطوط مصاحف المسلمين متفقه وإن اختلفت قراءتهم به، وذلك { بِضَنِينٍ } بالضاد؛ لأن ذلك كله كذلك في خطوطها. فأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويل من تأوّلهُ: وما محمد - على ما علَّمهُ الله من وحيه وتنزيله - ببخيل بتعليمكموه أيها الناس، بل هو حريص على أن تؤمنوا به وتتعلموه. انتهى. واختار أبو عبيدة القراءة بالظاء لوجهين:
أحدهما: أن الكفار لم يبخلوه، وإنما اتهموهُ، فنفي التهمة أولى من نفي البخل.
وثانيهما: قوله: { عَلَى الْغَيْبِ } ولو كان المراد البخل لقال: بالغيب؛ لأنه يقال: فلان ضنين بكذا، وقلما يقال: على كذا.
وقال الشهاب: قال في "النشر": هو بالضاد في جميع المصاحف، ولا ينافي هذا قول أبي عبيدة، أن الضاد و الظاء في الخط القديم لا يختلفان إلا بزيادة رأس إحداهما على الأخرى، زيادة يسيرة، قد تشتبه. وهو كما قال. ويعرفه من قرأ الخط المسند. وليس فيه اتهام لنقلة المصاحف كما توهم؛ لأن ما نقلوه موافق للقراءة المتواترة. ولا بد مما ذكره أبو عبيدة، لأنهم اشترطوا في القراءات موافقة الرسم العثمانيّ، ولولاه كانت قراءة الظاء مخالفة له. انتهى.
قال ابن كثير: وكلتا القراءتين متواترة ومعناها صحيح كما تقدم.
{ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ } أي: من إلقاء الشيطان المطرود عن بلوغ هذا المقام، وهو نفي لقولهم: إنه كهانة.