التفاسير

< >
عرض

أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ
١٧
وَإِلَى ٱلسَّمَآءِ كَيْفَ رُفِعَتْ
١٨
وَإِلَىٰ ٱلْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ
١٩
وَإِلَى ٱلأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ
٢٠
-الغاشية

محاسن التأويل

{ أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } قال أبو السعود: استئناف مسوق لتقدير ما فصل من حديث الغاشية وما هو مبني عليه من البعث الذي هم فيه مختلفون، بالاستشهاد عليه بما لا يستطيعون إنكاره. والهمزة للإنكار والتوبيخ. والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وكلمة { كَيْفَ } منصوبة بما بعدها، معلقة لفعل النظر. والجملة في حيز الجر على أنها بدل اشتمال من { الْإِبِلِ } أي: أينكرون ما ذكر من البعث وأحكامه، ويستبعدون وقوعه من قدرة الله عز وجل، فلا ينظرون إلى الإبل التي هي نصب أعينهم يستعملونها كل حين، إلى أنها كيف خلقت خلقاً بديعاً معدولاً به عن سنن خلقة سائر أنواع الحيوانات، في عظم جثتها وشدة قوتها وعجيب هيئتها اللائقة بتأتي ما يصدر عنها من الأفاعيل الشاقة، كالنوء بالأوقار الثقيلة وجرِّ الأثقال الفادحة إلى الأقطار النازحة، وفي صبرها على الجوع والعطش، حتى إن إظماءها لتبلغ العشر فصاعداً واكتفائها باليسير، ورعيها لكل ما يتيسر من شوك وشجر وغير ذلك، مما لا يكاد يرعاهُ سائر البهائم، وفي انقيادها مع ذلك الْإِنْسَاْن في الحركة والسكون والبروك والنهوض، حيث يستعملها في ذلك كيفما يشاء، ويقتادها كلّ صغير وكبير.
{ وَإِلَى السَّمَاء } التي يشاهدونها كل لحظة بالليل والنهار { كَيْفَ رُفِعَتْ } أي: رفعت كواكبها رفعاً سحيق المدى، وأمسك كل منها في مداره إمساكاً لا يختل سيره ولا يفسد نظامه.
{ وَإِلَى الْجِبَالِ } أي: التي ينزلون في أقطارها { كَيْفَ نُصِبَتْ } أي: أقيمت منتصبة لا تبرح مكانها، حفظاً للأرض من الميدان.
{ وَإِلَى الْأَرْضِ } أي: التي يضربون فيها ويتقلبون عليها { كَيْفَ سُطِحَتْ } أي: بسطت ومهدت، حسبما يقتضيه صلاح أمور ما عليها من الخلائق.
قال الزمخشري: والمعنى أفلا ينظرون إلى هذه المخلوقات الشاهدة على قدرة الخالق، حتى لا ينكروا اقتداره على البعث، فيسمعوا إنذار الرسول صلى الله عليه وسلم ويؤمنوا به ويستعدوا للقائه.
لطيفة:
ذكر السكاكي في "المفتاح" في بحث الجامع الخيالي، أن جمعهُ على مجرى الإلف والعادة بحسب ما تنعقد الأسباب في استيداع الصور خزانة الخيال، وأنه إذا لم يوفه حقه من التيقظ وأنه من أهل المدر، أنى يستحلى كلام ربِّ العزة مع أهل الوبر، حيث يبصرهم الدلائل ناسقاً ذلك النسق { أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } الآيات؛ لبعد البعير عن خياله في مقام النظر، ثم لبعده في خياله عن السماء، وبعد خلقه عن رفعها، وكذا البواقي. لكن إذا وفاهُ حقهُ بتيقظه لما عليه تقلبهم في حاجاتهم، جاء الاستحلاء؛ وذلك إذا نظر أن أهل الوبر، إذا كان مطعمهم ومشربهم وملبسهم من المواشي، كانت عنايتهم مصروفة لا محالة إلى أكثرها نفعاً وهي الإبل، ثم إذا كان انتفاعهم بها لا يتحصل إلا بأن ترعى وتشرب، كان جلّ مرمى غرضهم نزول المطر، وأهم مسارح النظر عندهم السماء، ثم إذا كانوا مضطرين إلى مأوى يؤويهم وإلى حصن يتحصنون فيه، ولا مأوى ولا حصن إلا الجبال.

لنا جبلٌ يحتلُّه من نجيرهُ منيعٌ يردُّ الطرفَ وهو كليلُ

فما ظنك بالتفات خاطرهم إليها؟ ثم إذا تعذر طول مكثهم في منزل - ومن لأصحاب مواش بذاك - كان عقد الهمة عندهم بالتنقل من أرض إلى سواها من عزم الأمور، فعند نظره هذا، أيرى البدوي إذا أخذ يفتش عما في خزانة الصور له، لا يجد صورة الإبل حاضرة هناك أو لا يجد صورة السماء لها مقارنة، أو تعوزه صورة الجبال بعدهما، أو لا تنصّ إليه صورة الأرض تليها بعدهن؟ لا، وإنما الحضري، حيث لم تتآخذ عنده تلك الأمور، وما جمع خيالهُ تلك الصور على ذلك الوجه وإذا تلا الآية قبل أن يقف على ما ذكرت، ظن النسق بجهله معيباً للعيب فيه. انتهى.