التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ
٦
إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ
٧
ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ
٨
-الفجر

محاسن التأويل

{ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ } أي: ألم تعلم علماً يقينياً كيف عذب ربك عاداً، فيعذب هؤلاء أيضاً، لاشتراكهم فيما يوجبهُ من جحود الحق والمعاصي. و عاد: قبيلة من العرب البائدة، وتلقب بإرم أيضاً، وهم الذين بعث الله فيهم رسوله هوداً عليه السلام، فكذبوه فأهلكهم بريح صرصر عاتية. فقوله تعالى: { إِرَمَ } عطف بيان لعاد { ذَاتِ الْعِمَادِ } أي: ذات الخيام المعمّدة، لأنهم كانوا أهل عمد ينتجعون الغيوث وينتقلون إلى الكلأ حيث كان، ثم يرجعون إلى منازلهم في الأحقاف في حضرموت. وقيل: كنيَ بالعماد عن العلوّ والشرف والقوة، إلا أنه الأشبه - كما قال ابن جرير - بظاهر التنزيل هو الأول، وهو أنهم كانوا عمد سيارة؛ لأن المعروف في كلام العرب من العماد، ما عُمد به الخيام من الخشب والسواري التي يحمل عليها البناء. ثم قال: وتأويل القرآن إنما يوجهُ إلى الأغلب الأشهر من معانيه، ما وجد إلى ذلك سبيل، دون الأنكر.
{ الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ } أي: في العِظم والبطش والأيدي.
قال ابن كثير: كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة وأقواهم بطشاً؛ ولهذا ذكّرهم هود بتلك النعمة وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم. فقال:
{ { وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [الأعراف: 69]. وقال تعالى: { { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [فصلت: 15].
تنبيه:
قال الإمام الدرّاكة ابن خلدون في"مقدمة تاريخه"في سياق الأخبار الواهية للمؤرخين ما مثاله: وأبعد من ذلك وأعرق في الوهم ما يتناقله المفسرون في تفسير سورة الفجر في قوله تعالى: { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } فيجعلون لفظه { إِرَمَ } اسماً لمدينة وصفت بأنها ذات عماد، أي: أساطين، وينقلون أنه كان لعاد بن عوص بن إرم ابنان، هما شديد وشداد، ملكا من بعده، وهلك شديد فخلص الملك لشداد، ودانت له ملوكهم وسمع وصف الجنة فقال لأبنيّن مثلها، فبنى مدينة إرم في صحارى عدن في مدة ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة، وأنها مدينة عظيمة قصورها من الذهب وأساطينها من الزبرجد والياقوت، وفيها أصناف الشجر والأنهار المطردة، ولما تمَّ بناؤها سار إليها بأهل مملكته، حتى إذا كان منها على مسيرة يوم وليلة، بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا كلهم. ذكر ذلك الطبريّ والثعالبي والزمخشري وغيرهم من المفسرين. وينقلون عن عبد الله بن قلابة - من الصحابة - أنه خرج في طلب إبل له فوقع عليها وحمل منها ما قدر عليه، وبلغ خبره إلى معاوية فأحضره وقص عليه، فبحث عن كعب الأحبار وسأله عن ذلك فقال: هي { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك أحمر أشقر قصير على حاجبه خال وعلى عنقه خال يخرج في طلب إبل له، ثم التفت فأبصر ابن قلابة فقال: هذا واللهِ ذاك الرجل.
قال ابن خلدون: وهذه المدينة لم يسمع لها خبر من يومئذ في شيء من بقاع الأرض، وصحارى عدن التي زعموا أنها بنيت فيها هي في وسط اليمن وما زآل عمرانه متعاقباً والأدلاء تقص طرقهُ من كل وجه. ولم ينقل عن هذه المدينة خبر ولا ذكرها أحد من الأخباريين ولا من الأمم، ولو قالوا: إنها درست فيما درس من الآثار لكان أشبهُ، إلا أن ظاهر كلامهم أنها موجودة، وبعضهم يقول: إنها دمشق، بناء على أن قوم عاد ملكوها. وقد انتهى الهذيان ببعضهم إلى أنها غائبة، وإنما يعثر عليها أهل الرياضة والسحر. مزاعم كلها أشبهُ بالخرافات. والذي حمل المفسرين على ذلك ما اقتضته صناعة الإعراب في لفظه: { ذَاتِ الْعِمَادِ } أنها صفة { إِرَمَ } وحملوا العماد على الأساطين؛ فتعين أن يكون بناء، ورشح لهم ذلك قراءة ابن الزبير: عاد إرم على الإضافة من غير تنوين. ثم وقفوا على تلك الحكايات التي هي أشبه بالأقاصيص الموضوعة التي هي أقرب إلى الكذب المنقولة في عداد المضحكات، وإلا فالعماد هي عماد الأخبية بل الخيام. وإن أريد بها الأساطين، فلا بدع في وصفهم بأنهم أهل بناء وأساطين على العموم، بما اشتهر من قوتهم، لا أنه بناء خاص في مدينة معينة أو غيرها. وإن أضيفت، كما في قراءة ابن الزبير، على إضافة الفصيلة إلى القبيلة، كما تقول: قريش كنانة وإلياس مضر، وربيعة نزار. وأي ضرورة إلى هذا المحمل البعيد الذي تمحلت لتوجيهه لأمثال هذه الحكايات الواهية التي ينزه كتاب الله عن مثلها لبعدها عن الصحة؟ انتهى. وسبقه الحافظ ابن كثير في تفسيره حيث قال: ومن زعم أن المراد بقوله: { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } مدينة إما دمشق أو اسكندرية، ففيه نظر؛ فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا إن جعل { إِرَمَ } بدلاً أو عطف بيان؟ فإنه لا يتسق الكلام حينئذ. ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد، وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يردّ، لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم.
قال: وإنما نبهت على ذلك لئلا يغتر بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عند هذه الآية، من ذكر مدينة يقال لها: { إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ } مبنية بلبن الذهب والفضة إلخ؛ فإن هذا كله من خرافات الإسرائيلين، من وضع بعض زنادقتهم ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس إن صدقهم في جميع ذلك. وحكاية عبد الله بن قلابة الأعرابي ليس يصح إسنادها، ولو صح إلى ذلك الأعرابي، فقد يكون اختلق ذلك، أو أنه أصابه نوع من الهوس والخبال، فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج، وليس كذلك، وهذا مما يقطع بعدم صحته، وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة والطامعين والمتخيلين، ومن وجود مطالب تحت الأرض فيها قناطير الذهب والفضة وألوان الجواهر واليواقيت واللآلئ والإكسير الكبير، لكن عليها موانع تمنع من الوصول إليها والأخذ منها، فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة والسفهاء، فيأكلونها بالباطل في صرفها في بخاخير وعقاقير، ونحو ذلك من الهذيانات، ويطنزون بهم، والله سبحانه وتعالى الهادي للصواب. انتهى.