التفاسير

< >
عرض

ٱلتَّائِبُونَ ٱلْعَابِدُونَ ٱلْحَامِدُونَ ٱلسَّائِحُونَ ٱلرَّاكِعُونَ ٱلسَّاجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَٱلْحَافِظُونَ لِحُدُودِ ٱللَّهِ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١١٢
-التوبة

محاسن التأويل

{ التَّائِبُونَ } أي: عن المعاصي، ورفعه على المدح أي: هم التائبون، كما دل عليه قراءة ( التائبين ) بالياء إلى قوله، و ( الحافظين ) نصباً على المدح، أو جراً صفة للمؤمنين. وجوز أن يكون مبتدأ وخبره ما بعده، أي: التائبون من المعاصي حقيقة، الجامعون لهذه الخصال { الْعَابِدُونَ } أي: الذين عبدوا الله وحده، وأخلصوا له العبادة، وحرصوا عليها { الْحَامِدُونَ } لله على نعمائه، أو على ما نابهم من السراء والضراء { السَّائِحُونَ } أي: الصائمون، أو الضاربون في الأرض تدبراًَ واعتباراً. وسننبه عليه { الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ } أي: المصلّون { الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ } أي: في تحليله وتحريمه { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } الموصوفين بالنعوت المذكورة. ووضع المؤمنين موضع ضميرهم، للتنبيه على أن ّ ملاك الأمر هو الإيمان، وأن المؤمن الكامل من كان كذلك، وحذف المبشر به للتعظيم، أو للعلم به، لقوله في آية الأحزاب: { { وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً } [الأحزاب: 47].
تنبيهات
الأول: ما قدمناه من تفسير السائحين بالصائمين. قال الزجاج: هو قول أهل التفسير واللغة جميعاً. ورواه الحاكم مرفوعاً، وكذلك ابن جرير. قال ابن كثير: ووقفه أصح.
وعن ابن عباس: كل ما ذكر الله في القرآن من السياحة، فهو الصيام.
وعن الحسن: السائحون الصائمون شهر رمضان.
قال الشهاب: استعيرت السياحة للصوم لأنه يعوق عن الشهوات، كما أن السياحة تمنع عنها في الأكثر.
ونقل الرازي عن أبي مسلم أن السائحين: السائرون في الأرض، وهو مأخوذ من السيح، سيح الماء الجاري، والمراد به من خرج مجاهداً مهاجراً. وتقريره أنه تعالى حث المؤمنين في الآية الأولى على الجهاد، ثم ذكر هذه الآية في بيان صفات المجاهدين، فينبغي أن يكونوا موصوفين بجميع هذه الصفات. وروى مثله أبن أبي حاتم عن عبد الرحمن أنه قال: هم المهاجرون. وعن عِكْرِمَة أنهم المنتقلون لطلب العلم.
قال ابن كثير: جاء ما يدل على أن السياحة الجهاد، فقد روى أبو داود من حديث أبي أمامة أن رجلاً قال: يا رسول الله! ائذن لي في السياحة، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:
" سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله " .
أقول: لو أخذ هذا الحديث تفسيراً للآية لالتقى مع كل ما روي عن السلف فيها، لأن الجهاد في سبيل الله، كما يطلق على قتال المشركين، يطلق على كل ما فيه مجاهدة للنفس في عبادته تعالى، ومنه الهجرة والصوم، والسفر للتفقه في الدين أو للإعتبار، بل ذلك هو الجهاد الأكبر. هذا على إرادة التوفيق بين المأثورات، أما لو أريد باللفظ أصل حقيقته اللغوية، أعني الضرب في الأرض خاصة، الذي عبر عن عِكْرِمَة بالمنتقلين لطلب العلم، لكان بمفرده كافياً في المعنى، مشيراً إلى وصف عظيم، وهذا ما حدا بأبي مسلم أن يقتصر عليه، هو الحق في تأويل الآية.
وقد رأيت لبعض المحققين مقالة في تأييده، يجدر بالمحقق أن يقف عليها، وهاك خلاصتها:
قال: الكتاب الحكيم يأمر الْإِنْسَاْن كثيراً بأن يضحي قسماً من حياته في السياحة والتسيار، لأجل اكتشاف الآثار، والوقوف على أخبار الأمم البائدة ليكون ذلك مثال عظة واعتبار، يضرب على أدمغة الجامدين بيد من حديد. ولا أريد أن أحشر لقارئ تلك الآيات، فإن ذلك يؤدي إلى التطويل، بل أريد أن أجتزئ منها بما يكفل ثبوت الدعوى، وذلك في قوله تعالى: { السَّائِحُونَ } في هذه الآية، ولم يقع لفظ سائحون في القرآن الكريم إلا هذه المرة الفذة. ومع ذلك فقد تغلب عليها أهل التفسير، فمنهم من قال هم الصائمون، ومنهم من قال غيره. والصحيح أن السائحون معناه السائرون، مأخوذاً من السيح وهو الجري على وجه الأرض، والذهاب فيها، وهذه المادة تشعر بالإنتشار. يقال: ساح الماء أي: جرى وانتشر، والسيح أيضاً الماء الجاري الذاهب في وجه الأرض. ويطلق السائح على معنى يضاد الجامد، وهو الماء المسفوح، لأنه بانمياعه ينتشر في وعائه. وقد عهدنا بألفاظ القرآن أنها يجب حملها على ظواهرها، وعلى معانيها الحقيقية، اللهم ما لم يمنع مانع عقلي، ولا مانع هنا من إرادة الحقيقة وعليه فيجب حمل لفظ السائحون على معناه الظاهر الحقيقي، وهو السائرون الذاهبون في الديار، لأجل الوقوف على الآثار، تواصلاً للعظة بها والإعتبار، ولغير ذلك من الفوائد التي عرفها التاريخ. وكذلك عهدنا بالمعنى المجازيّ أنه لا تجوز إرادته إلا عند قيام القرينة على منع المعنى الحقيقي، في حال أن الأمر هنا بالعكس، لكثرة القرائن التي تطالب بإرادة المعنى الحقيقي دون المجازي، وذلك مثل آية:
{ { سِيرُوا } [الأنعام: 11] { { أَوَلَمْ يَسِيرُوا } [الروم: 9]، { { أَفَلَمْ يَسِيرُوا } [يوسف: 109] { { فَسِيرُوا } [آل عمران: 137] { { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ } [المزمل: 20] { { وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } الآية [النساء: 100]. فهذه الآيات هي قرائن نيّرة تؤذن بأن السيح معناه اليسر، فإنها وإن تكن من مادة أخرى، إلا أن معناه يلاقي معنى السيح، على أننا لا نعدم قرينة على ذلك من نفس المادة، وذلك كآية: { { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ } [التوبة: 2]، فكلمة سيحوا هنا تفسر { السَّائِحُونَ } في الآية هذه، وهم يقولون: خير ما فسرته بالوارد. وبالجملة، فصرف هذا اللفظ عن ظاهره تكسيل للأمة، وتدبير على فتور همتها، وضعف نشاطها، وحيلولة بينها وبين سعادة الإحاطة بآثار الأمم البائدة، ورؤية عِمْرَان المسكونة، الأمر الذي هو الآن الضالة المنشودة عند الغربيين، وفيه ستر لنور الكتاب الذي هو أول مرشد للعالم ألا يألوا جهداً في السير والسياحة، وأن ينقلب في البلاد أي: تنقيب. وسيأتي تتمة لهذا في تفسير آية: { سَائِحَاتٍ } في سورة التحريم إن شاء الله تعالى.
قال الرازي: للسياحة أثر عظيم في تكميل النفس، لأنه يلقاه أنواع من الضرّ والبؤس، فلا بد له من الصبر عليها، وقد يلقى أفاضل مختلفين، فيستفيد من كلّ ما ليس عند الآخر. وقد يلقى الأكابر من الناس، فيحقر نفسه في مقابلتهم، وقد يصل إلى المرادات الكثيرة، فينتفع بها، وقد يشاهد اختلاف أحوال الدنيا بسبب ما خلق الله تعالى في كل طرف من الأحول الخاصة بهم، فتقوى معرفته. وبالجملة فالسياحة لها آثار قوية في الدين. انتهى.
وقال بعضهم: لا يعزب عنك أيها اللبيب أنه تعالى حث بني الْإِنْسَاْن على السفر في محكم كتابه العزيز، وندد على من ارتدا منهم رداء الكسل، وأوقع نفسه في وهدة الخمول، وتلذذ بالتقاعد عن جَوْب البلاد، وقطع الوهاد، فقال تعالى:
{ { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } [الحج: 46]، وقال صلى الله عليه وسلم: " سافروا تصحوا واغزوا تستغنوا " .
وقد تكلم كثير من العلماء والحكماء والأدباء على مزايا السفر نظماً ونثراً. ومن أجل فوائده زيادة علمه، وانتفاع غيره بما يعلمه وما يكتسبه، ومنها، وهو أعظمها، رضا ربه، ومزيد ثوابه بنفعه لعباده، وأحب عَبَّاد الله إلى الله أنفعهم لعباده. وكذلك باتعاظه بأحوال الناس، واعتباره بأمورهم، واطلاعه في ساحته على الأسرار المكنونة، والحكم التي دبر الله بها أمر المخلوقات وأحكم بها صنع الكائنات. فمن وقف على سر الخالق زاد في تعظيمه وتقرب إليه بالطاعة والإمتثال لأوامره ونواهيه، وليس بخافٍ ما وقع للأنبياء والمرسلين، والصحابة والتابعين، والأولياء والصالحين، من التنقلات والأسفار، في القرى والأمصار، للنظر والإعتبار.
الثاني: قال القاضي: إنما جعل ذكر الركوع والسجود، كناية عن الصلاة، لأن سائر أشكال المصلِّي موافق للعادة، هو قيامه وقعوده، والذي يخرج عن العادة في ذلك هو الركوع والسجود، وبه يتبين الفضل بين المصلي وغيره. ويمكن أن يقال: القيام أول مراتب التواضع لله تعالى، والركوع وسطها، والسجود غايتها. فخص الركوع والسجود بالذكر، لدلالتهما على غاية التواضع والعبودية، وتنبيهاًَ على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع والتعظيم. ذكره الرازي.
الثالث: ذكروا في سر العطف في موضعين من هذه النعوت وجوهاً:
فأما الأول: أعني قوله تعالى: { وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ } فقالوا: سر العطف فيه إما الدلالة على أنه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة، وصفة واحدة، لأن بينهما تلازما في الذهن والخارج، لأن الأوامر تتضمن النواهي ومنافاةً بحسب الظاهر، لأن أحدهما طلب فعل، والآخر طلب ترك، فكانا بين كمال الإتصال والإنقطاع المقتضي للعطف، بخلاف ما قبلهما، أو لأنه لما عدد صفاتهم، عطف هذين ليدل على أنه شيء واحد، وخصلة واحدة، والمعدود مجموعهما، كأنه قيل: الجامعون بين الوصفين، أو العطف لما بينهما من التقابل، أو لدفع الإيهام، وهذا معنى قول " المغني ": الظاهر أن العطف في هذا الوصف إنما كان من جهة أن الأمر والنهي، من حيث أمر ونهي، متقابلان بخلاف بقية الصفات، أو لأن الآمر بالمعروف ناه عن المنكر، وهو ترك المعروف، والناهي عن المنكر آمر بالمعروف. فأشير إلى الإعتداد بكل من الوصفين، وأنه لا يكفي فيه ما يحصل في ضمن الآخر.
وأما الثاني: أعني وقوله تعالى: { وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّه } فقيل: سر العطف فيه الإيذان بأن التعداد قد تم بالسبع، من حيث أن السبعة هو العدد التامّ، والثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه، ولذلك تسمى واو الثمانية ونظر فيه بأن الدال على التمام لفظ سبعة لاستعماله في التكثير، لا معدوده. والقول بواو الثمانية ذكروه في قوله تعالى:
{ { سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } [الكهف: 22] وضعفه في " المغني ".
وقيل: سر العطف التنبيه على أن ما قبله مفصل الفضائل، وهذا مجملها، لأنه شامل لما قبله وغيره، ومثله يؤتى به معطوفاً، نحو زيد وعمرو وسائر قبيلتهما كرماء، فلمغايرته لما قبله، بالإجمال والتفصيل، والعموم، والخصوص، عطف عليه.
وقيل: بقوة الجامع بالتلازم، لأن من حصل الأوصاف السابقة، فقد حفظ حدود الله.
وقيل: المراد بحفظ الحدود ظاهره، وهي إقامة الحدود، كالقصاص على من استحقه. والصفات الأولى إلى قوله: { الآمرون } صفات محمودة للشخص في نفسه، وهذه له باعتبار غيره، فلذا تغير تعبير الصنفين، فترك العاطف في القسم الأول، وعطف في الثاني. ولما كان لا بد من اجتماع الأول في شيء واحد، ترك فيها العطف لشدة الإتصال، بخلاف هذه، فإنه يجوز اختلاف فاعلها ومن تعلقت به. وهذا هو الداعي لإعراب التائبون مبتدأ موصوفاً بما بعده، و الآمرون خبره. فكأنه قيل: الكاملون في أنفسهم المكملون لغيرهم، وقدم الأول لأن المكمل لا يكون مكملاً حتى يكون كاملاً في نفسه، وبهذا اتسق النظم أحسن نسق من غير تكلف، والله أعلم بمراده. كذا في " العناية " و " حواشي المغني ".